بعد التحضيرات والاستعدادات التي شهدتها الساحة العراقية منذ عدة أشهر، شهدت البلاد يوم 10 أكتوبر الجاري استحقاقاً انتخابياً برلمانياً في موعد مبكر أملته معطيات وضغوطات الحياة السياسية العراقية منذ انطلاق "حراك تشرين الشعبي" في الأول من أكتوبر 2019 والذي كان من نتائجه إقالة حكومة عادل عبدالمهدي، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة مصطفى الكاظمي، وإقرار قانون انتخابي جديد وهو القانون رقم (9) لسنة 2020، والاتفاق على إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، وتعطيل عمل المجالس المحلية في كل المحافظات.
انتخابات مختلقة:
لعل أبرز ما يميز انتخابات 10 أكتوبر الجاري أنها مبكرة من حيث توقيت إجرائها، حيث لم تكمل الدورة الانتخابية مدتها التي كان من المقرر انتهاؤها في أبريل 2022. كما أُجريت هذه الانتخابات في ظل القانون الانتخابي الجديد الذي أقر الدوائر الانتخابية المتعددة ووصل عددها إلى 83 دائرة انتخابية، بعد أن كانت البلاد مكونة من 18 دائرة انتخابية موزعة على عدد المحافظات العراقية في انتخابات عام 2018 وما قبلها، ودائرة انتخابية واحد لكل العراق في انتخابات عامي 2005 و2010.
ووفقاً للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق، فإن عدد التحالفات الانتخابية المسجلة لديها للمشاركة في الانتخابات الحالية بلغ 21 تحالفاً، بينما كانت الأحزاب والقوى السياسية المسجلة 267 حزباً، منها حوالي 109 أحزاب شاركت في الانتخابات، وكان ضمن التحالفات نحو 58 حزباً، فيما شاركت القوى والأحزاب السياسية الأخرى بقوائم خاصة بها.
أما عدد المرشحين، فقد بلغ أكثر من 3200 مرشح يتوزعون بين مرشحين أفراد وبلغ عددهم حوالي 789، ومرشحين ضمن التحالفات وهم أكثر من 950 مرشحاً. أما مرشحو الأحزاب فقد بلغ عددهم 1501 مرشح، ووصل عدد النساء إلى 951 مرشحة من المجموع الكلي للمرشحين على مستوى عموم العراق. وكل هؤلاء تنافسوا على 329 مقعداً نيابياً، منها 9 مقاعد مخصصة لممثلي الأقليات من المسيحيين والأيزيديين والصابئة وبعض المكونات الأخرى.
وقُدر عدد الناخبين في العراق بـ 25 مليون ناخب، منهم أكثر من 23 مليون كان يحق لهم التصويت في هذه الانتخابات؛ كونهم قد أصدروا البطاقات الانتخابية البايومترية.
خريطة التحالفات:
على الرغم من ظهور العديد من الأسماء المرشحة في الانتخابات بصفة مستقلين، وظهور مسميات جديدة للتحالفات السياسية الانتخابية يحاكي البعض منها مزاج الشارع العراقي الغاضب من الأوضاع المتردية في البلاد والساعي إلى وجود دولة المؤسسات والخدمات ومحاربة الفساد؛ فإن المتتبع للقوى السياسية والعديد من المرشحين يجد أن أغلبها من القوى السياسية التقليدية التي حكمت العراق منذ عام 2003 ولكن بمسميات وبعض الوجوه الجديدة.
وحتى التحالفات الانتخابية التي تم تسجيلها في قوائم المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، لم تخرج كثيراً عن إطار التكتلات السياسية المبنية على الأسس المذهبية أو القومية في أغلبها، حيث تحالفت قوى سياسية شيعية مع قوى شيعية أخرى، وتحالف عدد من القوى السياسية السُنية مع بعضها، وكذلك الحال بالنسبة للقوى السياسية الكردية. صحيح أنها لم تكن كلها في تكتل واحد، إلا أنها بقيت في إطار التحالفات التقليدية التي وسمت بها العملية السياسية في العراق منذ عام 2003.
وعلى مستوى التحالفات الانتخابية الشيعية، فقد شارك في الانتخابات كل من التيار الصدري، وائتلاف دولة القانون، وتحالف قوى الدولة الوطنية، وتحالف الفتح، وتحالف العقد الوطني الذي يضم إحدى القوى السياسية السُنية وهو الحزب الإسلامي العراقي وعدد من التحالفات والقوى والأحزاب السياسية الأخرى.
فيما جاء على مستوى التحالفات السياسية السُنية كل من تحالف عزم العراق (عزم)، وتحالف تقدم الوطني (تقدم)، والمشروع الوطني العراقي، وغيرها. بينما جاءت التحالفات الكردية في قسمين؛ تحالف كردستان، وقائمة الحزب الديمقراطي الكردستاني. أما التحالفات المسيحية، فقد مثلها ائتلاف حمورابي الذي يضم 3 قوى سياسية مسيحية. وهناك أيضاً التحالفات المدنية مثل ائتلاف الوطنية، والتحالف المدني الديمقراطي.
غلبة المقاطعة:
واجهت الانتخابات البرلمانية في 10 أكتوبر الجاري انقساماً في الشارع العراقي إزاءها، حيث دعا البعض إلى المشاركة في الانتخابات واختيار ممثلي الشعب للوصول إلى البرلمان الجديد، وبرر هؤلاء موقفهم بأن الانتخابات هي الوسيلة الديمقراطية التي من الممكن أن يتحقق التغيير والإصلاح من خلالها، لاسيما بعد القانون الانتخابي الجديد والآلية التي اعتمدتها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات والتي من المفترض أنها لا تسمح بتزوير الانتخابات أو التلاعب في نتائجها. وهذا يعني أن هناك نوعاً من الثقة في هذه الانتخابات ونتائجها، وأنه من خلالها يمكن اختيار شخصيات جديدة لعضوية السلطة التشريعية من الممكن أن تحارب الفساد وتساهم في تقديم الخدمات ومعالجة الأوضاع المتردية التي تعيشها البلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأمنياً.
وفي المقابل، برز التيار الثاني وهو المقاطع للانتخابات البرلمانية، وكانت مبررات أنصاره أن ظاهرة الفساد مستمرة وستؤثر على الانتخابات، وأن النتائج ستعيد الأشخاص أنفسهم وكذلك القوى السياسية التي لم تقدم شيئاً للعراق في المراحل السابقة، كما لم تحاسب الحكومة قتلة المتظاهرين والنشطاء، فضلاً عن استمرار وجود الميليشيات وسطوتها في صُنع القرار السياسي، بحسب رأيهم.
ومن هنا، وحسب النتائج الأولية، جاءت نسبة المشاركة في انتخابات 10 أكتوبر الجاري حوالي 41٪، ما يعني أن تيار المقاطعة كان الأكثر حسماً لموقفه في هذه الانتخابات.
نتائج أولية:
أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق نتائج الانتخابات التي جرت يوم 10 اكتوبر بعد يوم واحد من إجرائها، وتصدرت الكتلة الصدرية هذه النتائج بحصولها على ما يقرب من 73 مقعداً من إجمالي عدد مقاعد البرلمان العراقي وهي 329 مقعداً. وجاء تحالف تقدم الذي يقوده محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان المنتهي ولايته، في المرتبة الثانية بـ 38 مقعداً، ثم ائتلاف دولة القانون الذي يترأسه نوري المالكي، رئيس مجلس الوزراء الأسبق، بـ 37 مقعداً.
فيما حصد الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني 32 مقعداً، وتحالف كردستان 17 مقعداً، وتحالف عزم 15 مقعداً، والاتحاد الوطني الكردستاني 15 مقعداً، وتحالف عزم 15 مقعداً، وتحالف الفتح 14 مقعداً، وكتلة الجيل الجديد 9 مقاعد. وحصلت حركة امتداد وإشراقة كانون (وهي من حركات الحراك الشعبي) وعدد من المستقلين على مقاعد تتراوح بين 35 و38 مقعداً. بينما حصلت حركة بابليون، التي يتزعمها ريان الكلداني القيادي في الحشد الشعبي، على 4 مقاعد من بين 5 مقاعد للأقلية المسيحية، فيما كان المقعد الخامس من نصيب شخصية مستقلة.
دلالات مهمة:
لا يجد المتتبع للانتخابات البرلمانية الحالية في العراق، صعوبة في تحديد عدد من الدلالات التي عكستها النتائج الأولية لهذه الانتخابات، ويتضح أهمها في التالي:
1- تراجع نسبة مشاركة الناخبين: إن من أبرز ما رافق انتخابات 10 أكتوبر الجاري هو حالة عزوف الناخبين عن المشاركة في الادلاء بأصواتهم، حيث بلغت نسبة المشاركة في عموم البلاد نحو 41% وهي أقل من نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية الماضية التي جرت في عام 2018 وبلغت حينها 44%. ويُلاحظ أن حالة العزوف هذه تزداد في كل مرة عن الانتخابات التي سبقتها منذ عام 2003.
2- تفاوت نسب المشاركة في المحافظات: حسب النتائج الأولية، تباينت نسب المشاركة بين المحافظات العراقية المختلفة في هذه الانتخابات، حيث حققت محافظة دهوك أعلى نسبة مشاركة تصويت لناخبيها بلغت ما يقرب من 54%، بينما كانت المشاركة الأقل من بين المحافظات في العاصمة بغداد وبلغت 31%، وفقاً لبيان المفوضية العليا المستقلة للانتخابات.
3- تسابق المرشحين في إعلان فوزهم غير الرسمي: بعد انتهاء الوقت المحدد للانتخابات الحالية في تمام الساعة السادسة من مساء يوم الاقتراع، لُوحظ أن أغلب المرشحين والقوى السياسية أعلنت فوزها حتى قبل إعلان النتائج من قِبل المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، الأمر الذي يُفسر بأن هؤلاء المرشحين والقوى تستبق الأحداث حتى إذا لم تفز بالانتخابات تركن خسارتها على مبرر أن حالة تزوير قد حصلت لأصواتها، مع إمكانية الطعن في النتائج أو قد تلجأ إلى خيارات من أجل الحصول على مكاسب في المواقع الحكومية عند تشكيل الحكومة الجديدة حتى لا تخسر في المشهد السياسي بعد أن رفضها المصوتون في هذه الانتخابات.
4- تغير خريطة غالبية نواب البرلمان: ظهر من خلال نتائج الانتخابات والإعلان عنها أن ثمة شخصيات سياسية استمرت في الحفاظ على مقاعدها في البرلمان العراقي منذ عدة دورات انتخابية مثل حاكم الزاملي وعالية نصيف ومحمد تميم وغيرهم، بينما خسر أغلب أعضاء البرلمان في الدورة المنتهية مقاعدهم في هذه الانتخابات، حيث خسر عدداً من الوزراء والنواب والمسؤولين.
5- تباين نتائج الكتل السياسية الرئيسية: في الوقت الذي حققت فيه بعض الكتل السياسية مقاعد أكثر مما كانت عليه في الدورة المنتهية، فقد خسرت قوى وكتل سياسية أخرى العديد من المقاعد التي كانت لها أو تأمل في الحصول عليها خلال هذه انتخابات. ومثال على ذلك، تقدم الكتلة الصدرية وتحالف تقدم في بغداد وعدد من المحافظات الجنوبية، بحسب النتائج الأولية، بينما تراجع تحالف الفتح وتحالف النصر وتيار الحكمة بشكل كبير عما كانت عليه مقاعدهم في الانتخابات السابقة.
6- بروز المرشحين المستقلين: في مقابل تراجع عدد من قوائم القوى والكتل السياسية، ظهر تقدم في أعداد الفائزين من المستقلين الذين ترشحوا في هذه الانتخابات، ما يعني أن ثمة تراجعاً في شعبية هذه القوى السياسية، لاسيما تلك التي تشارك في الحكم منذ عام 2003 ويُحمّلها الشارع العراقي مسؤولية الفشل في إدارة الدولة وملف تقديم الخدمات ومعالجة قضايا الفساد المستشري في مختلف القطاعات والأزمات المتكررة سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
7- تقدم مرشحين من "حراك تشرين": على الرغم من مقاطعة العديد من قوى "حراك تشرين" للانتخابات الحالية وعدم المشاركة فيها على مستوى الترشيح أو التصويت، فإن نتائجها أظهرت تقدم مرشحين من الناشطين في هذا الحراك وساحات الاحتجاج على باقي المرشحين في عدد من المحافظات. إذ تقدم علاء الركابي الناشط المعروف على كل الفائزين في محافظة ذي قار وهو مرشح "حركة امتداد"، واثنين آخرين من مرشحي هذه الحركة حققوا تفوقاً على باقي المرشحين أيضاً في دوائرهم الانتخابية.
8- تراجع القوى العراقية الموالية لإيران: من ضمن ما كشفت عنه النتائج الأولية للانتخابات العراقية هو تراجع مقاعد القوى السياسية المُقربة من إيران والتي لديها فصائل مسلحة في العراق، مثل تحالف الفتح الذي يضم كلاً من منظمة بدر وحركة عصائب أهل الحق، وقد ظهرت تصريحات من قادة التحالف برفض نتائج الانتخابات ووصفها بالمزورة.
ملاحظات ختامية:
بدا أن الانتخابات المبكرة التي جرت في العراق يوم 10 أكتوبر الجاري كانت ناجحة ظاهرياً من حيث التنظيم والإدارة، ولم تحصل خروقات ظاهرة على المستوى الفني، مثلما لم تشهد البلاد خروقات أمنية خلال الانتخابات. ولكن تشير تقارير إلى أن بعثتي الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي اعترضتا على نسبة المشاركة التي أعلنتها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، ووصفتها بأنها غير حقيقية، مؤكدة أن نسبة المشاركة الصحية كانت في حدود 31%. كما اعترض العديد من المرشحين والقوى السياسية على عدد الأصوات التي حصلوا عليها، بحسب المفوضية؛ كونها تختلف عن الأرقام التي ظهرت في تقارير أجهزة التصويت في المراكز الانتخابية.
أما من الناحية السياسية، فعلى الرغم من أن هذه الانتخابات جاءت بشخصيات جديدة إلى البرلمان العراقي، بيد أن القوى السياسية التقليدية التي تهيمن على السلطة منذ عام 2003 لازالت نفسها تؤثر بالمشهد السياسي إن لم تتحكم فيه بشكل كبير.
وأيضاً من خلال النتائج الأولية المُعلنة التي أظهرت تقدم كتل وقوى سياسية وتراجع أخرى، فإن الساحة السياسية في العراق قد تشهد تعقيداً أكبر في حال رفض القوى السياسية الخاسرة نتائج هذه الانتخابات، لاسيما تلك التي تملك فصائل مسلحة وبإمكانها التأثير على المشهدين الأمني والسياسي.