عملت حركة استقلال منطقة القبائل الانفصالية "ماك" على محاولة استغلال أجواء الحراك الشعبي في الجزائر لاستعادة تموقعها، خاصة بعد ظهور موالين لها في منطقة القبائل، مُستغلة في ذلك حالة الغضب العامة التي شهدتها البلاد منذ بدء الحراك في فبراير 2019، ومحاولة الحكومة الجزائرية احتواء مطالب المحتجين، وعدم التصعيد الأمني بمنطقة القبائل. بيد أن الحكومة الجزائرية لجأت مؤخراً إلى التصعيد ضد "ماك" وصنفتها حركة إرهابية، وهو ما أدى إلى العديد من التداعيات داخل الجزائر وبشأن علاقاتها مع دول أخرى.
ماهية حركة "ماك":
تسعى حركة استقلال منطقة القبائل "ماك" إلى استقلال هذه المنطقة التي تقع شمال شرق الجزائر وتتألف من 6 ولايات (تيزي وزو، بجاية، بومرداس، البويرة، سطيف، وبرج بوعريريج). وقد تأسست "ماك" عام 2001 على يد فرحات مهني في أعقاب الذكرى الـ 34 لما يُسمى بـ "الربيع الأمازيغي"، حيث شهدت أحداث شغب وعنف كبيرة في منطقة القبائل راح ضحيتها حوالي 126 قتيلاً، و5000 جريح، و200 حالة بعاهات مستديمة. وقد درس فرحات مهني العلوم السياسية في جامعة الجزائر، واُعتقل أكثر من 12 مرة لأنشطته السياسية والاجتماعية، إذ شارك في العديد من الاحتجاجات والإضرابات خلال فترة التسعينيات للمطالبة بالحقوق الأمازيغية، وهو ما جعله من أهم ممثلي الحركة الثقافية الأمازيغية. وشارك مهني في تأسيس الرابطة الجزائرية لحقوق الإنسان عام 1985، وتأسيس حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية.
وتتخذ حركة "ماك" من باريس مقراً لأنشطتها، وترفض الحكومات الجزائرية المتعاقبة الاعتراف بها، بل اتجهت حكومة الرئيس عبدالمجيد تبون، في مايو 2021، لتصنيفها حركة إرهابية.
مؤشرات التصعيد:
بدأت الحكومة الجزائرية إجراءات المجابهة الشاملة ضد حركة "ماك" الانفصالية، وذلك بعد إدراجها على قائمة المنظمات الإرهابية، وتتمثل أبرز مؤشرات التصعيد ضد "ماك" فيما يلي:
1- إدراج "ماك" على قوائم الإرهاب: صنف المجلس الأعلى للأمن الجزائري في اجتماعه المنعقد في قصر المرادية في مايو 2021 برئاسة عبدالمجيد تبون، منظمة حركة استقلال القبائل "ماك" بالإرهابية. ومثَّل إدراج الحركة على قوائم الإرهاب فرصة أمام السلطات الجزائرية لبدء حملة دولية بهدف تسليم أعضاء الحركة النشطين في الخارج، وعلى رأسهم مؤسسها، فرحات مهني.
2- تكثيف الحملات الأمنية ضد الحركة الانفصالية: فور إعلان حركة "ماك" كتنظيم إرهابي، شنَّت السلطات الأمنية الجزائرية حملات توقيف كبيرة ضد قيادات الحركة والموالين لها في ولايات منطقة القبائل، خاصة تيزي وزو وبجاية، بعد الاعتداءات المتكررة على القوات الأمنية، وحرصت قوات الأمن على الانسحاب، وعدم تفضيل المواجهة مع المحتجين.
3- المواجهة الإعلامية مع "ماك": اتخذت السلطات الجزائرية من شناعة حادثة مقتل الشاب جمال بن إسماعيل في منطقة القبائل في أغسطس الماضي بعد اشتباه في إشعاله الحرائق، وهي الحادثة التي تعاطف معها الرأي العام المحلي والدولي؛ فرصة لإبراز تطرف حركة "ماك"، ومجابهة خططها الإعلامية للتجنيد في منطقة القبائل. وفي هذا السياق، نجحت السلطات الجزائرية مؤخراً في إقناع إدارة القمر الصناعي "عرب سات" بوقف بث محطة "ثاقبايليت" التلفزيونية التابعة للحركة نتيجة خطابها الإعلامي الذي يُغذي النزعة العرقية والانفصالية.
4- إصدار مذكرات توقيف لأعضاء الحركة في الخارج: استغلت الحكومة الجزائرية قرار إعلان حركة "ماك" كتنظيم إرهابي، لبدء إجراءات دبلوماسية وقضائية موسعة لإقناع عدد من الدول التي يقيم بها أعضاء الحركة، لاسيما فرنسا، لتسليم المطلوبين منهم للجهات العدلية، وذلك من خلال إدراج أعضائها على قوائم الإرهاب، مثل مؤسس الحركة فرحات مهني الذي أصدر القضاء الجزائري مذكرة توقيف دولية في حقه، واتهمه بالإرهاب والتورط في حرق جثة الشاب جمال بن إسماعيل.
5- توافق الجبهة الداخلية ضد "ماك": توافقت الجبهة الداخلية الجزائرية على رفض أنشطة الحركة الانفصالية، حيث يرفض أغلب الجزائريين حركة "ماك" وأهدافها، ويعتبرونها من مصادر تهديد السلم الأهلي. وعبَّرت العديد من الأحزاب السياسية عن ذلك مثل جبهة القوى الاشتراكية، والحركة البربرية الثقافية، وحزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، بتأكيد رفضها خطوة تشكيل حكومة مؤقتة لمنطقة القبائل. وعلى الرغم من ذلك، لا يُمكن إنكار أن "ماك" لها أتباع ومناصرون في منطقة القبائل، وهو ما يظهر في ضعف مشاركة منطقة القبائل في الاستحقاقات الانتخابية بالجزائر، وتمكن أنصار الحركة من تنظيم احتفال خاص بما يُسمى "الربيع الأمازيغي" في قلب ولاية تيزي وزو، وهم رافعون العلم الانفصالي في أبريل 2021.
تفسيرات مختلفة:
تبرز العديد من الأسباب التي أدت إلى التصعيد الذي تبنته الحكومة الجزائرية لمواجهة أنشطة حركة "ماك" الانفصالية، ومن أهمها الآتي:
1- تبني حركة "ماك" العمل المسلح: حرضت حركة "ماك" السكان المحليين على تكوين شرطة محلية على غرار قوة البيشمركة الكردية في إقليم كردستان العراق، وذلك لمواجهة القوات الأمنية الجزائرية. وهنا مثلت دعوة فرحات مهني عام 2018 أبناء القبائل لتشكيل "قوة حماية شعبية في المنطقة تحل محل الأجهزة الأمنية الجزائرية" التي يصفها بـ "المحتلة"، تصعيداً خطيراً يهدد الوحدة الترابية للجزائر، لاسيما أن مهني اعتبر أن هذه الخطوة تأتي كمقدمة لبدء مشروع الاستقلال، وفرض جمهورية القبائل من الخارج، خاصة بعد إعلان حركة "ماك" تشكيل حكومة مؤقتة، وجواز سفر وعملة ووكالة أنباء للجمهورية الجديدة المزعومة.
وفي سياق العمل المسلح، أعلنت وزارة الدفاع الجزائرية، في أبريل 2021، إحباطها مجموعة من التفجيرات التي كانت تنوي الحركة الانفصالية القيام بها وسط المسيرات الشعبية، ووسم بيان جيش التحرير الوطني "ماك" بالمرجعية الإرهابية، وهو ما مهد لإعلانها رسمياً حركة إرهابية.
2- اتهامات للحركة بالتنسيق مع دول الجوار: تتهم الحكومة الجزائرية حركة "ماك" بالتنسيق مع المغرب للإضرار بمصالح الجزائر، وظهرت هذه الاتهامات على السطح بشكل جلي بعد دعوة مندوب المغرب الدائم في الأمم المتحدة، عمر هلال، في يوليو 2021، إلى "حق تقرير المصير" لسكان منطقة القبائل الجزائرية.
3- استقواء الحركة الانفصالية بالخارج: لا تتوارى حركة "ماك" عن طلب الدعم الأوروبي والأمريكي لقضيتها، وهو ما أدى إلى ملاحقة الحكومة الجزائرية لأنشطتها في الخارج، خاصة بعد انتقالها من المطالبة بالحكم الذاتي إلى الضغط لإجراء استفتاء لتقرير مصير منطقة القبائل. وقد أعلنت الحركة تشكيل حكومة مؤقتة تتكون من 18 وزيراً لإدارة شؤون المنطقة، ونصَّب مهني نفسه رئيساً للمنطقة، ما أدى إلى سحب الجنسية الجزائرية منه.
4- تقارب "ماك" مع إسرائيل: شهدت زيارة مؤسس حركة "ماك"، فرحات مهني، تل أبيب عام 2012، وإلقائه كلمة في الكنيست لدعم إسرائيل، استنكاراً سياسياً واسعاً في الجزائر خاصة أنه أعلن دعمه إقامة سفارة إسرائيلية في منطقة القبائل. وتبع هذه الزيارة مقابلة رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، ريتشارد براسكي، عام 2013، وأعلن مهني حينها أن هذا الاجتماع تضمن التعريف بالقضية الأمازيغية، وتنسيق الجهود من أجل الاعتراف بما أسماه "الحق الأمازيغي في إقامة دولة القبائل".
تداعيات التصعيد:
أدى تصعيد السلطات الجزائرية ضد حركة "ماك" الانفصالية، إلى العديد من التداعيات، ومنها ما يلي:
1- زيادة العزلة السياسية لمنطقة القبائل: دائماً ما تشهد منطقة القبائل في الجزائر مقاطعة للانتخابات العامة؛ حيث شهدت الانتخابات التشريعية الأخيرة التي أُجريت في مطلع يونيو 2021 حالة من العنف التي صحبها إغلاق العديد من مقار الاقتراع، ولم تتجاوز نسب المشاركة في منطقة القبائل حاجز 0.85% وهي نسبة متدنية للغاية، خاصة أنها ليست المرة الأولى التي تشهد مقاطعة منطقة القبائل للانتخابات العامة؛ إذ يرى سكان هذه المنطقة أن الانتخابات لا تعبر عن متطلباتهم أو طموحاتهم.
وتتسق هذه النتائج مع رفض حزبي جبهة القوى الاشتراكية والتجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، باعتبارهما أكبر حزبين في المنطقة، المشاركة في الانتخابات بسب ما أطلقا عليه رفض السلطة السياسية مبدأ التوافق وإصرارها على التفرد بالقرار السياسي. ويُمثل مقاطعة أبناء منطقة القبائل للانتخابات العامة تهديداً بعزل هذه المنطقة عن الجزائر، خاصة بعد انعدام مشاركتهم في الانتخابات الرئاسية والاستفتاء على الدستور. ومع ذلك، تبذل الحكومة الجزائرية جهوداً كبيرة لمحاولة احتواء غضب منطقة القبائل مثل دسترة اللغة الأمازيغية في تعديلات عام 2016 الدستورية، وهو ما مهد للاعتراف بالحقوق الثقافية للأمازيغ.
2- قطع الجزائر علاقاتها مع المغرب: قطعت الجزائر علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب واتهمتها بدعم حركة "ماك" الانفصالية المتهمة بإشعال الحرائق، وبث خطاب العنصرية والكراهية بين أبناء الشعب الجزائري. وعلى أثر هذه الأحداث، صنفت الحكومة الجزائرية حركة "ماك" ضمن المجموعات الإرهابية، وهو ما فتح المجال لتوقيف العديد من المنتمين لها.
3- تدهور العلاقات الجزائرية - الفرنسية: طالبت الحكومة الجزائرية، فرنسا بتسليم أعضاء حركة "ماك" المقيمين على أراضيها، حيث تحتضن باريس مؤسس الحركة فرحات مهني، و9 وزراء فيما يسمى "حكومة القبائل الانفصالية" التي تأسست عام 2010. وبالرغم من إصدار الجزائر مذكرة توقيف دولية بحق مهني، فإن باريس مازالت تماطل في تسليمه، وهو ما أدى إلى زيادة التوتر في العلاقات الجزائرية – الفرنسية، خاصة بعد إصدار السفير الجزائري لدى باريس، محمد عنتر داود، بيان استنكار بحق "وكالة الأنباء الفرنسية" التي وصفت حركة "ماك" "بالمؤهلة والقابلة للديمقراطية".
وفي هذا الصدد، رفضت الجزائر تجديد عقد مجمع "سويز" الفرنسي لتسيير قطاع المياه والصرف الصحي، وإسناده لشركة "سيال" الجزائرية. ويُعد هذا القرار بمنزلة إنهاء لسيطرة الفرنسيين على أحد أهم القطاعات الحيوية في الجزائر. وتتخوف فرنسا من تبني الجزائر لاستراتيجية استبعادها من إدارة العديد من المشاريع والقطاعات، خاصة أنها تمتلك أكثر من 400 شركة عاملة في القطاعات الحيوية بالجزائر مثل قطاع الطاقة، والصناعات الميكانيكية والصيدلانية.
ختاماً، على الرغم من حملة التصعيد التي تتبناها الحكومة الجزائرية ضد حركة "ماك" الانفصالية وأنصارها، فإنها لم تتغافل عن منطقة القبائل، وتوليها اهتماماً خاصاً، لاسيما أنها من أكثر المناطق القابلة للاشتعال، وهو ما يظهر في تجنب الاحتكاك مع مسيرات الحراك الشعبي المنتظمة في منطقة القبائل رغم منع الحكومة مسيرات الحراك في العاصمة وبعض المدن الأخرى.