بداية ينبغي توضيح حقيقتين، أولاهما أن الحركات السياسية المتطرفة تسيطر على السلطة حينما تتاح لها الفرصة بطرق غير نظامية أو غير ديموقراطية، ولا تصل إلى السلطة بوسائل طبيعية متعارف عليها من خلال الانتخابات أو الاختيار الشعبي. وثانيتهما أن المقصود بالتنظيمات المتطرفة هو تلك الحركات السياسية التي تتبنى أيديولوجية مغلقة، تدّعي أنها تملك الحقيقة المطلقة، والإجابات النهائية على جميع الأسئلة الوجودية في جميع مجالات الحياة، وغالباً ما تكون هذه التنظيمات استبعادية في سلوكها السياسي تشرخ المجتمع إلى قسمين: من هم معها، ومن هم ضدها، ولا ثالث بينهما، بل إن من ليس معها فهو ضدها. لذلك فإنه من طبيعة هذه التنظيمات أنها لا تدخل في ائتلافات سياسية، أو تعاون مع أي تنظيمات أخرى؛ حتى وإن كانت تتشارك معها بعضاً من مكونات أيديولوجيتها، لأنها دائماً تعتقد أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، والآخرون لا يحوزون من تلك الحقيقة على شيء.
مساران متضادان:
إن الدرس التاريخي لصيرورة الحركات المتطرفة في الممارسة السياسية يتخذ مسارين متعاكسين، هما:
1- أن تحافظ الحركات المتطرفة على مبادئها وأيديولوجيتها، وتعمل بكل ما أوتيت من قوة على تحقيقها في أرض الواقع؛ بغض النظر عن الثمن الذي يدفعه المجتمع أو المجتمعات التي تسيطر عليها، وبغض النظر عن العواقب والأثمان التي تدفعها البشرية نظير تمسك هذه الحركات بتلك الأيديولوجيات المغلقة. وهذا ما حدث مع النازية في ألمانيا، والفاشية في إيطاليا، والشيوعية مع جوزيف ستالين في الاتحاد السوفييتي السابق.
2- أن تنحاز الحركات المتطرفة إلى مصالحها السياسية، ومكاسبها الاقتصادية والاجتماعية، وتسلك طريق البرجماتية السياسية، وتتحول تدريجياً إلى حركة سياسية عادية توظف الشعارات لاستدار عطف وتأييد الجماهير، ولكن في التطبيق والممارسة العملية تتبع سياسات برجماتية تحقق لها المكاسب السياسية الوقتية، وتدخل في عمليات تفاوض، وتحالفات مع الخصوم السياسيين. وهذا النموذج سلكته معظم الحركات الأيدولوجية في العالم الثالث بعد الاستقلال عن الاستعمار الغربي، وسلكته كذلك الحركات ذات الأيديولوجية الماركسية في أوروبا.
وبالنظر إلى الحركات المتطرفة في الدول العربية والمسلمة نجد أنها سارت في المسارات التاريخية نفسها التي سبقتها فيها نظيرتها الماركسية والقومية المتطرفة. ففي تسعينيات القرن الماضي، تمسكت حركة طالبان بذات الأيديولوجية التي ساهمت في صعودها، وواجهت مجتمعها والعالم بالقدر نفسه من الانغلاق الفكري على الواقع السياسي الداخلي والخارجي؛ فكانت نهايتها مع الغزو الأمريكي بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، قبل أن تعود مرة أخرى للسيطرة على أفغانستان في 15 أغسطس 2021.
وبعد انتفاضات ما يُسمى بـ "الربيع العربي"، سار تنظيم الإخوان ذاته في المسارين معاً؛ فكان نصيب التنظيم الأم في مصر وامتداده في ليبيا الانغلاق ومحاولة فرض رؤيته الأيديولوجية بالقوة على المجتمع، متجاهلاً كل الشركاء السياسيين، فكانت النهاية سريعة، وسريعة جداً. وعلى الطرف الآخر، حاول تنظيم الإخوان في تونس ممثلاً في حركة النهضة التحلي بقدر من العقلانية والبرجماتية، فاستطاع أن يمدد عمره لعشر سنوات أكثر من نظيريه في مصر وليبيا، ولكن في كل تلك الحالات كان المدى الزمني للبقاء والاستمرار يتناسب طردياً مع درجة المرونة ومقدار البرجماتية في الممارسة السياسية.
محددات السلوك:
عند محاولة تفسير هذه الصيرورة الحتمية للحركات المتطرفة، نجد أن هناك 4 متغيرات أو عوامل أساسية تتحكم في سلوك الحركات المتطرفة بعد سيطرتها على السلطة في دول العالم الإسلامي، وهي كالتالي:
1- البنية الأيديولوجية للحركات المتطرفة، ومدى تصادم مكوناتها مع الأعراف الدولية المستقرة، والتي تحوز على إجماع الفرقاء الدوليين، مثل مجالات حرية المرأة، واحترام خصوصية الأقليات الدينية والعرقية، واحترام الحريات العامة خصوصاً حرية الرأي والتعبير والصحافة.. إلخ. وبمقدار التصادم وحدته مع هذه المعايير الدولية المستقرة، يكون احتمال فشل الحركات المتطرفة في الاستقرار في الحكم لفترة طويلة، ويزداد توقع العزلة الدولية التي تكون انعكاساتها على الوضع الداخلي سلبية، ومعجلة بنهاية حكم هذه الحركات.
2- الحاضنة الاجتماعية للحركات المتطرفة في المجتمع الذي تحكمه، وهنا يكون المقياس كمياً وكيفياً؛ من حيث عدد الحاضنة الاجتماعية ونسبتها إلى مجموع السكان من جانب، والوزن الاجتماعي والاقتصادي لهذه الحاضنة في بنية الدولة. وقد تكون الحاضنة الاجتماعية مجموعة عرقية أو دينية أو إقليماً معيناً، وقد تكون جماعة دينية ممتدة أفقياً تتقاطع مع التقسيمات الرأسية الطائفية والمذهبية والعرقية واللغوية والإقليمية. وكلما كانت هذه الحاضنة الاجتماعية أكثر عدداً وأكبر وزناً وأعلى نسبة في مجموع المجتمع، وكلما كانت ذات ثقل اقتصادي أو سياسي أو ثقافي؛ كانت هناك فرصة أكبر لتلك الحركات المتطرفة في الاستمرار والتمكن إلى حين، والعكس بالعكس. وتلعب هذه الحاضنة الاجتماعية دوراً مؤقتاً قد يطول بصورة نسبية حتى تتكشف الأخطاء ويتراكم الفشل، فتنقلب الحاضنة الاجتماعية على الحركات التي احتضنتها. ومثال على ذلك، النموذج العراقي مع حكم حزب الدعوة وحلفائه.
3- الحلفاء الإقليميون، وهم عنصر مهم جداً وحاسم في تمكين الجماعات المتطرفة من السيطرة على الحكم من جانب، وفي الاستمرار فيه لفترة أطول من جانب آخر. فكلما توفر حلفاء إقليميون من دول الجوار أو ما وراءها يرون في سيطرة هذه الجماعات المتطرفة على السلطة مصلحة لهم، كان توقع استقرار واستمرار حكم هذه الحركات أكثر، والعكس بالعكس. ولعل نموذج طالبان في تسعينيات القرن الماضي مع الدعم الباكستاني والرضا الصامت الإيراني، يعتبر نموذجاً لهذا البعد الإقليمي في تمكين واستمرار سيطرة الحركات المتطرفة على السلطة.
4- مخرجات العملية السياسية التي تديرها الحركات المتطرفة، وهذا يعتبر أهم المتغيرات أو العوامل التي تؤثر في تمكين الحركات المتطرفة من السلطة، وفي استمرارها فيها. فإذا نجحت في تحقيق الحد الأدنى من احتياجات الجماهير الأوسع في المجتمع، واستطاعت أن تقدم سياسات عامة اقتصادية واجتماعية وخدمية في مجالات التشغيل والتعليم والصحة والبنية التحتية.. إلخ؛ كان ذلك أحد أهم العوامل التي تحافظ على وجودها واستمرارها في السلطة مع ثبات العوامل الثلاثة السابقة لصالحها، والعكس بالعكس.
حالة طالبان:
من خلال تنزيل هذه الرؤية النظرية على الوضع في أفغانستان بعد سيطرة حركة طالبان على الحكم فيها في منتصف أغسطس 2021، نجد أن قيادة الحركة حاولت أن تحول بعض هذه المتغيرات الأربعة السابقة إلى صالحها. فقد أظهرت الحركة في اللحظات الأولى لسيطرتها على السلطة في أفغانستان، رغبة في التكيف مع الأعراف الدولية المستقرة، وأرسلت إشارات متعددة لتطمين العالم أنها تغيرت، ولم تعد كما كانت في تسعينيات القرن الماضي، وأنها تؤمن بمفهوم الدولة الوطنية، وسوف تحترم سيادة جميع دول العالم، ولن تسمح بأن تستخدم الأراضي الأفغانية لتهديد أي دولة من دول العالم، وأنها سوف تحترم الحريات.. إلخ.
ولكن يظل هذا الخطاب إعلامياً لطمأنة العالم في لحظة ضعف واحتياج، وقبل أن يتم التمكن من مفاصل الدولة والاستقرار في إدارتها. ومن جانب آخر، فهذا الخطاب التصالحي جاء من القيادات التي انخرطت في عملية التفاوض مع الأمريكان في قطر، وهي قيادات تعرفت على العالم واحتكت به بصورة كبيرة. وهنا يثور سؤال مفاده هل هذا الخطاب يمثل قواعد الحركة وشبابها؟ ألم تستقطب الحركة أعضاءها خصوصاً من الشباب بسبب خطابها المتطرف، والعنيف والمعادي للغرب، والرافض لكل القيم الغربية، وكل المعايير الدولية خصوصاً ما يتعلق بالمرأة والحريات العامة بمفهومها الواسع؟ وهنا يكون هناك احتمال بأن هذا الخطاب ذاته قد يحدث انقلاباً داخل الحركة ويأتي بجيل جديد أكثر تشدداً وأكثر تطرفاً، وهنا تكون المواجهة مع العالم أكثر قسوة بما يعجل بنهاية سيطرة طالبان على أفغانستان ذاتها.
ومن ناحية ثانية، فإن الحاضنة الاجتماعية وهي قبائل البشتون لا يمكن اعتبار أنها تمثل عنصراً إيجابياً لتمكين الحركة من حكم أفغانستان؛ وذلك نظراً للتعدد القبلي والمذهبي الذي يتطابق مع الأقاليم والمناطق الجغرافية. وهذا يمثل تهديداً للوحدة الاجتماعية والتماسك الوطني للدولة الأفغانية؛ لأن كل عرق من الأعراق أو مذهب ديني يعيش في إقليم مستقل، مما قد يقود إلى حروب أهلية تزداد إمكانية وقوعها إذا تطابق عنصران من عناصر الانقسام الاجتماعي، مثل أن تكون جماعية عرقية أو دينية تعيش في إقليم خاص بها، كما هي الحال في أفغانستان. لذلك فإن هذا المتغير كان في صالح طالبان في عملية السيطرة على السلطة، ولن يكون في صالح طالبان في عملية الاستمرار في السلطة.
ومن ناحية ثالثة، فإن الحلفاء الإقليميين لطالبان لا يمكن التعويل عليهم لأنهم غارقون في مشاكل داخلية وخارجية بدرجات مختلفة مثل باكستان وإيران، أو من المحتمل أن يكونوا أعداءً، مثل دول وسط آسيا، إذا تم المساس بحقوق الجماعات العرقية في شمال أفغانستان، أو أنهم ذوو مصالح اقتصادية وسياسية برجماتية انتهازية مثل قطر وتركيا.
وأخيراً، فإن مخرجات النظام تحت حكم طالبان لا يُتوقع لها أن تحقق الرضا الاجتماعي الذي يمكن طالبان من الاستمرار؛ نظراً لأنها ورثت نظاماً مثقلاً بكل عناصر الفشل منذ نصف قرن تقريباً، ولن تستطيع أن تعالج الأزمات المتوارثة بما يمكنها من ترسيخ شرعيتها إلا إذا هبط عليها مشروع مارشال جديد بتمويل ضخم من الخارج وهو احتمال مستبعد.
الخلاصة، أن سيطرة الحركات المتطرفة على الدول يقود عادة إلى تدميرها أو تفكيكها أو تأخير تطورها وتقدمها، وهو في المجمل يمثل خصماً من أعمار الشعوب والمجتمعات والدول. ولا يُتوقع أن تكون حركة طالبان استثناءً من ذلك، ولا يُتوقع أيضاً أن تستقر في حكم أفغانستان لفترة طويلة، إلا إذا تخلت عن أيديولوجيتها السياسية، وتحولت الى طبقة حاكمة عادية ذات أجندة وطنية معتدلة.