تشهد العديد من دول العالم في الفترة الأخيرة ظواهر مناخية وموجات غير مسبوقة من الكوارث الطبيعية، ما بين الفيضانات والجفاف وحرائق الغابات والأعاصير، وهو ما نتج عنه سقوط مئات القتلى وآلاف المتضررين وخسائر بالمليارات، وذلك بالتزامن مع تقارير دولية تحذر من عواقب كارثية لمخاطر التغيرات المناخية. ويطرح ذلك عدة تساؤلات من قبيل؛ هل يمكن الحد من تأثيرات تلك الكوارث أو تقليلها؟ وكيف يمكن للدول استثمار نظم "الإنذار المبكر" في ذلك؟
خسائر فادحة:
إن تقييم وتحليل مخاطر الكوارث المناخية بشكل منفرد ومنعزل عن بعضها الآخر، ليس بالأمر الصحيح، وقد أثبتت الدراسات أنه لابد من التفكير في تقييم المخاطر بشكل مترابط في ضوء التغيرات المتلاحقة والسريعة التي يشهدها المناخ عالمياً، وأنه يمكن الاستفادة من تلك النتائج في بناء نماذج وأنظمة للإنذار المبكر.
وبشكل واضح، تؤدي التغيرات المناخية إلى تفاقم مخاطر الكوارث الناجمة عنها، حيث تؤدي الزيادات في درجات حرارة الهواء والماء إلى ارتفاع مستويات سطح البحر، وحدوث العواصف الشديدة، وزيادة سرعات الرياح، ووجود مواسم جفاف وحرائق غابات أكثر شدة وأطول أمداً، وهطول الأمطار الغزيرة والفيضانات. وفي هذا الإطار، تشير الإحصاءات والتقارير العالمية إلى مجموعة من الحقائق القاتمة وغير المُبشرة، ومنها الآتي:
1- تضاعف عدد الكوارث المرتبطة بالمناخ 3 مرات خلال الـ 30 عاماً الماضية.
2- بين عامي 2006 و2016، كان معدل ارتفاع مستوى سطح البحر العالمي نحو 2.5 مرة أسرع مما كان عليه في القرن العشرين.
3- يُقدِّر برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن التكيف مع تغير المناخ والتعامل مع الأضرار، سيُكلف الدول النامية ما بين 140 و300 مليار دولار أمريكي سنوياً بحلول عام 2030.
4- يُقدّر البنك الدولي أن الكوارث الطبيعية تُكبّد الدول منخفضة ومتوسطة الدخل، نحو 18 مليار دولار سنوياً من خلال الأضرار التي تُلحقها بالبنية التحتية في قطاعي الكهرباء والنقل وحدهما. كما تتسبب أيضاً في خسائر سنوية تُقدر بنحو 390 مليار دولار تتحملها الأسر والشركات بسبب الكوارث.
وقد اجتاحت سلسلة من الكوارث الطبيعية العالم في الأسابيع الأخيرة، حيث شهدت العديد من الدول فيضانات وأعاصير وموجات حر وجفاف قاسية وحرائق غابات. وفي هذا الإطار، أعلنت الوكالة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي أن شهر يوليو 2021 كان الأشد حرارة في تاريخ كوكب الأرض على الإطلاق.
ووفقاً لإحصائيات قاعدة البيانات الدولية للكوارث، تسببت الكوارث المناخية منذ بداية عام 2021 وحتى شهر يوليو من العام نفسه، في مقتل ما يقرب من 3800 شخص حول العالم، وتضرر ما يزيد على 34.6 مليون شخص، وأضرار وخسائر مادية واقتصادية تتجاوز 48 مليار دولار.
أما من حيث عدد المتضررين والنازحين، فقد تصدر الجفاف في كل من أفغانستان والصومال وإيران، والفيضانات في الصين، قائمة الكوارث الطبيعية الأكثر تأثيراً على البشر عام 2021. بينما كانت العواصف والأعاصير في الولايات المتحدة الأمريكية والهند واليابان وإسبانيا، والفيضانات في أستراليا والولايات المتحدة، هي الأكثر تدميراً من حيث الخسائر المادية والاقتصادية. ومن حيث عدد مرات الحدوث، فقد تصدرت الفيضانات قائمة الكوارث المناخية الأكثر تكراراً بواقع 127 مرة على مستوى دول العالم خلال الأشهر السبعة الأولى من العام الجاري، تلتها العواصف والأعاصير بواقع 72 مرة، ثم حرائق الغابات بواقع 13 مرة خلال الفترة نفسها.
المصدر: قاعدة البيانات الدولية للكوارث: www.emdat.be
أولويات المخاطر العالمية:
يرصد تقرير المخاطر العالمية لعام 2021، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، توقعات التهديدات والمخاطر العالمية في العام الجاري ولمدة 10 سنوات قادمة، حيث جاءت في مقدمتها موجات الطقس الجامحة، وفشل العمل المناخي، والأضرار البيئية الناتجة عن العامل البشري.
ويُظهر مؤشر مخاطر المناخ لعام 2021، الصادر عن مؤسسة German Watch، أن آثار تغير المناخ محسوسة بالفعل في جميع أنحاء العالم، وأن الأحداث المناخية الشديدة والمتكررة هي المحرك الرئيسي لخسائر الكوارث، وأن الدول النامية تتأثر بشكل خاص بآثار تغير المناخ. فوفقاً لما رصده التقرير خلال الفترة (2000 – 2019)، فإن نحو 60% من الدول الأكثر تأثراً بالآثار الكمية لظواهر المناخ هي من الدول ذات الدخل المنخفض إلى المتوسط.
كما يشير تقرير حالة الخدمات المناخية لعام 2020، الصادر عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، إلى أن أكثر من 11000 كارثة حدثت على مدى السنوات الـ 50 الماضية، ترجع إلى أخطار تتعلق بالطقس والمناخ، وتسببت في وفاة نحو مليوني شخص، وخسائر اقتصادية تتجاوز 3.6 تريليون دولار أمريكي.
وبالتالي فإنه على الرغم من أن جائحة فيروس كورونا قد فجرت أزمة صحية واقتصادية دولية كبيرة سيستغرق التعافي منها عدة سنوات، فإن تغير المناخ سيظل يشكل تهديداً مستمراً ومتزايداً للحياة البشرية والنظم الإيكولوجية والاقتصادات والمجتمعات لقرون قادمة، وهو ما يتطلب المُضي قُدماً في طريق أكثر استدامة نحو تحقيق القدرة على الصمود والتكيف مع تغير المناخ الناجم عن الأنشطة البشرية.
أهمية الإنذار المُبكر:
يُقصد بـ "الإنذار المبكر"، مجموعة من القدرات اللازمة لإعداد ونشر معلومات تحذيرية مفهومة وواضحة وفي الوقت المناسب، لتمكين الأفراد والمجتمعات والمؤسسات المُهددة بالأخطار لتستعد وتتصرف بشكل مناسب، وتحقيق الفعالية في الاستجابة للإنذار وعدم الاقتصار على مجرد تعميم التحذير.
ويمكن لأنظمة الإنذار المبكر Early Warning Systems الناجحة أن تُسهِم في إنقاذ الأرواح والممتلكات والبُنى التحتية وحماية سُبُل العيش وتدعم الاستدامة على المدى الطويل، كما تساعد المسؤولين والإداريين الحكوميين في تخطيطهم، فضلاً عن توفير الأموال على المدى الطويل وحماية اقتصادات الدول.
وفي هذا الإطار، قال أمين عام المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة، بيتيري تالاس، إن "نظم الإنذار المبكر شرط أساسي للحد بفعالية من مخاطر الكوارث والتكيف مع تغير المناخ. فالاستعداد للكوارث والقدرة على اتخاذ إجراءات في الوقت المناسب، وفي المكان المناسب، يمكن أن ينقذا حياة الكثيرين ويحميا سُبُل عيش المجتمعات في كل مكان".
تجارب ناجحة:
يوضح تقرير حول فجوات تحسين توقعات الأرصاد الجوية وأنظمة الإنذار المبكر والمعلومات المناخية، الصادر عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية في يوليو 2021، أن الاستثمار في أنظمة الإنذار المبكر بالأخطار المتعددة وتحسينها من شأنه إنقاذ حياة ما يقرب من 23 ألف شخص، وتوفير ما لا يقل عن 162 مليار دولار أمريكي سنوياً.
ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال استعراض ملامح رئيسية لبعض التجارب الدولية الناجحة في مجال الإنذار المبكر للمخاطر المناخية، على النحو التالي:
1- التجربة الأوروبية في مواجهة مخاطر حرائق الغابات: تتسبب حرائق الغابات في حرق حوالي نصف مليون هكتار من المناطق الطبيعية في جميع أنحاء دول الاتحاد الأوروبي، ويزيد تغير المناخ من فرص حدوثها بنسبة 30% على الأقل. ولمواجهة تلك المخاطر المتزايدة، تم إنشاء نظام معلومات لحرائق الغابات الأوروبية لجمع معلومات موحدة والإبلاغ المُنسَّق عنها، بما في ذلك التنبؤ بأخطارها، ومراقبتها، وتوفير معلومات مُحدَّثة عن الحرائق المشتعلة حتى ست مرات يومياً، وتحليل شدتها وتقييم أضرارها. وتعتبر هذه المنظومة هي الأولى من نوعها التي تغطي عدداً كبيراً من الدول على مستوى إقليمي، ثم تطورت تلك المنظومة لتشمل 43 دولة في أوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وتُقدر تكلفة إعداد وتشغيل المنظومة داخل الاتحاد الأوروبي بنحو 1.8 مليون يورو سنوياً. بينما تُقدَّر إجمالي العوائد الاقتصادية لها، بما في ذلك منع الأضرار البيئية والخسائر الاقتصادية لصناعة الأخشاب في أوروبا، بنحو 390.5 مليون يورو سنوياً.
2- التجربة الأسترالية في الحد من مخاطر موجات الحر الشديدة: أدت موجات الحرارة القياسية في جنوب شرق أستراليا في يناير من عامي 2009 و2014، إلى زيادة معدلات الوفيات والإصابات بما يتجاوز بكثير المعدلات المتوقعة لهذا الوقت من العام. وقد أسست السلطات الأسترالية نظاماً للتحذير من الموجات الحارة وبدأت في اختباره عام 2009.
وبحلول عام 2014 تم تحسين هذا النظام بشكل كبير، حيث يعتمد على رصد وتسجيل درجات الحرارة اليومية المتوقعة التي يقدمها مكتب الأرصاد الجوية، وعندما يُتوقع أن تتجاوز درجة الحرارة في أي وقت خلال الأيام السبعة المقبلة الحد الذي تم تحديده على أنه يتسبب في زيادة الوفيات، يتم إصدار تحذير إلى السلطات الحكومية المحلية والجهات المعنية. وساهم ذلك في تقليل الوفيات في أستراليا بسبب موجات الحر الشديدة عام 2014 بنسبة 59% مقارنة بعام 2007.
3- تجربة بنجلاديش للحد من مخاطر الفيضانات والأعاصير: تعتبر الكثافة السكانية في بنجلاديش من ضمن الأعلى في العالم، وهناك تاريخ طويل من الأخطار الطبيعية التي تتعرض لها، ومنها الفيضانات والأعاصير. ولذلك تم إنشاء نظام للإنذار المبكر بمخاطر الأعاصير والفيضانات، يشمل تقييم ارتفاع منسوب مستوى سطح البحر، وتأثير المخاطر المناخية على المحاصيل الزراعية. إذ تُقدم إدارة الأرصاد الجوية في بنجلاديش معلومات عن الأحداث الخطرة إلى المكاتب الإقليمية والفرعية بالمقاطعات، وتقوم مكاتب المناطق الفرعية بتمرير هذه المعلومات إلى مستوى القرية من خلال أجهزة راديو عالية التردد.
وقد نجح هذا النظام في تقليل عدد الوفيات الناجمة عن الأعاصير والفيضانات في بنجلاديش عام 2007 بنحو 100 مرة مقارنة بنظيرتها عامي 1970 و1991، على الرغم من حدوثها بالشدة نفسها وتأثيرها على المساحات نفسها تقريباً. كما أدى إلى انخفاض متوسط خسارة الأصول المادية من 78 إلى 57 دولاراً في المناطق المتأثرة بالفيضانات.
تحسين الفعالية:
يمكن القول إن التغيرات المناخية قد زادت من حدة ووتيرة حدوث الكوارث الطبيعية حول العالم، وعلى الرغم من ذهاب البعض إلى القول إنه لا يمكن تفادي تأثيرات هذه الكوارث فإن الخبرات الدولية الناجحة تبرهن على أنه يمكن وبشكل فعَّال التقليل من تداعيات تلك الكوارث بشرياً واقتصادياً من خلال بناء نظم فعالة وناجحة للإنذار المبكر، وبناء قدرات الاستعداد والاستجابة من خلال التركيز على نهج الحد من المخاطر وإدارتها بدلاً من إدارة الكوارث.
وفي هذا الإطار، يُقدم تقرير حالة الخدمات المناخية لعام 2020 مجموعة من التوصيات الاستراتيجية لتحسين تنفيذ نظم الإنذار المبكر وفاعليتها على نطاق العالم، والتي يمكن إيجازها على النحو التالي:
1- الاستثمار لسد الثغرات في القدرات فيما يتعلق بنظم الإنذار المبكر، لاسيما في أقل البلدان نمواً والدول الصغيرة النامية.
2- تركيز الاستثمار على تحويل معلومات الإنذارات المبكرة إلى إجراءات مبكرة.
3- ضمان استدامة التمويل للنظام العالمي للرصد الذي تقوم عليه الإنذارات المبكرة.
4- تحقيق مزيد من الاتساق في المراقبة والتقييم لتحديد فعالية نظم الإنذار المبكر بشكل أفضل.
5- سد الفجوات في البيانات، لاسيما في الدول النامية والأقل نمواً.