شهد لبنان في 26 يوليو 2021 تكليف الرئيس اللبناني، ميشال عون، رئيس الحكومة الأسبق، نجيب ميقاتي، بتشكيل حكومة جديدة، بعد اعتذار سعد الحريري عن هذه المهمة، لينهي بذلك الأخير مساراً شاقاً استغرق نحو 9 أشهر من التفاوض غير المثمر مع الرئيس عون. وعلى الرغم من وجود أجواء من التفاؤل بشأن تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة ميقاتي، وكان آخرها تصريح الرئيس عون يوم 14 أغسطس الجاري بأن "مسار تشكيل الحكومة العتيدة سالك"؛ يبقى السؤال الأساسي: هل سينجح ميقاتي في تفكيك العُقد التي عرقلت ولادة حكومة الحريري، خصوصاً في ظل ظهور معضلات جديدة داخلية وإقليمية؟
تطورات متلاحقة:
يمكن رصد أبرز التطورات السياسية في لبنان التي تلت تكليف نجيب ميقاتي بتشكيل الحكومة الجديدة، في النقاط التالية:
1- فرز جديد للقوى السياسية: أظهرت نتائج الاستشارات التي أفضت إلى تكليف رئيس الوزراء الأسبق، نجيب ميقاتي، بتشكيل الحكومة الجديدة، افتراقاً في الخيارات بين حزب الله وحليفه التيار الوطني، حيث اختارت كتلة الوفاء للمقاومة (حزب الله) التصويت لصالح ميقاتي، فيما امتنعت كتلة لبنان القوي (التيار الوطني الحر) عن تسمية أحد؛ وذلك في محاولة من حزب الله لإظهار نفسه كمسهل لعملية التأليف وإبعاد شبهة التعطيل عنه.
كما أن دعم حزب الله لميقاتي من الممكن أن يساهم في تأمين أكثرية مريحة لحكومته خلال اجتياز امتحان التصويت على الثقة في البرلمان، الأمر الذي كان أحد أهم النقاط الخلافية التي أدت إلى اعتذار سعد الحريري عن تشكيل الحكومة.
2- مواجهة "خلدة" العسكرية: في خضم السجال الدائر حول توزيع حقيبتي الداخلية والعدل والذي خيم بشكل أساسي على فترة تكليف الحريري التي استمرت حوالي 9 أشهر، والذي انتقل سريعاً إلى صلب المفاوضات حول تشكيل حكومة ميقاتي الجديدة؛ كشفت المواجهات العسكرية التي اندلعت في مطلع أغسطس 2021 بين حزب الله والعشائر العربية التي تسكن في منطقة خلدة جنوب العاصمة بيروت، عن خطورة الاستمرار في ممارسة ازدواجية المعايير على الاستقرار والسلم الداخلي وتوتير الوضع الأمني. إذ إن المواجهات العسكرية نشبت على خلفية عدم تسليم أحد المتورطين التابعين لحزب الله للقضاء في حادثة أمنية تعود إلى سبتمبر 2020 والتي ذهب ضحيتها حينها طفل من العشائر على الرغم من استمرار الوساطات لمدة عام تقريباً لتسليمه. كما أنه كان ممكناً أن تتمدد هذه المواجهات على مستوى جغرافي أوسع؛ نظراً لتداخل أماكن سكن وانتشار العشائر في مناطق متعددة من لبنان مع أماكن إقامة مؤيدين لحزب الله.
3- الذكرى الأولى لانفجار مرفأ بيروت: تزامن اعتذار سعد الحريري عن تشكيل الحكومة في 16 يوليو الماضي، مع إعلان وزارة الخارجية الفرنسية عن تنظيم مؤتمر دولي لمساعدة لبنان بتاريخ 4 أغسطس 2021 أي في الذكرى السنوية الأولى لانفجار مرفأ بيروت. وتم تفسير ذلك من قِبل البعض على أنه تشجيع من الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، للقوى السياسية اللبنانية، وفي مقدمتها الرئيس عون، على تقديم تشكيل الحكومة الجديدة كهدية للشعب اللبناني في هذه الذكرى.
فيما رأى فيه آخرون استمراراً لسوء إدارة تعقيدات الملف اللبناني من قِبل الجانب الفرنسي، بدءاً من سرعة الاستجابة لمطلب حزب الله والتيار الوطني الحر وسحب بند إجراء انتخابات نيابية مبكرة من المبادرة الفرنسية، ومن ثم المساواة في تحميل المسؤولية للجميع بدلاً من حصرها في القوى التي أخلت بالتعهدات التي كانت قد قطعتها أمام الرئيس ماكرون في اجتماع قصر الصنوبر في أغسطس 2020.
ويُضاف إلى ذلك، التغاضي الرسمي الفرنسي عن محاولات العرقلة المقصودة من قِبل فريق رئيس الجمهورية لرئيس الوزراء المُكلف السابق، الحريري، في عملية تشكيل الحكومة؛ وذلك لتحقيق هدف مزدوج؛ وهو إسدال صبغة "الرئيس القوي" على رئيس الجمهورية عبر إظهاره قادراً على الالتفاف على أي استشارات برلمانية مُلزمة إذا كانت لا تعجبه نتائجها، علاوة على تكريس معادلة تعديل "اتفاق الطائف" بالممارسة عبر تعمد هذا الفريق فرض أعراف جديدة لا ينص عليها الدستور.
كما تبرز حاجة فريق رئيس الجمهورية إلى إلهاء الشارع المسيحي بهذه "الإنجازات الوهمية" من أجل التغطية على تدهور الوضع المعيشي والاقتصادي، وعلى عدم تقدم التحقيق في قضية انفجار المرفأ، حيث لم تظهر معطيات رسمية موضوعية حول حقيقة ما حدث، إذ جنح التحقيق نحو تبني فرضية الإهمال، وتحولت مسألة رفع الحصانات عن النواب المطلوبين للاستجواب عبر التصويت على ذلك في مجلس النواب إلى معركة رأي عام حاولت بعض القوى السياسية استغلالها لإظهار الطرف المعترض على إحضار النواب إلى القضاء العادي وكأنه يغطي على المجرمين المجهولين. فيما يبرر المعترضون على مسألة رفع الحصانات موقفهم بأن النواب والوزراء يخضعون، حسب الدستور، إلى المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء وليس للقضاء العادي. وأدى احتدام هذا السجال إلى تقديم كتلة المستقبل النيابية مشروع قانون لتعليق جميع المواد في الدستور المتعلقة بالحصانات بدءاً من رئيس الجمهورية وصولاً إلى النواب والوزراء.
4- تحريك جبهة الجنوب اللبناني: بعد استهداف ناقلة نفط إسرائيلية في بحر عُمان، تم إطلاق 5 صواريخ كاتيوشا من الأراضي اللبنانية المُحاذية لإسرائيل والتي تقع أمنياً تحت سيطرة حزب الله، على مستوطنة كريات شمونة في إسرائيل يوم 4 أغسطس الجاري. وتم إدراج هذه الحادثة كرسالة تحذير استباقية لردع أي رد عسكري إسرائيلي مُحتمل قد يستهدف إيران. وجاء الرد الإسرائيلي لافتاً وفي عمق الجنوب اللبناني وللمرة الأولى منذ عام 2006، وذلك عبر قيام الطيران الإسرائيلي بغارتين جويتين يوم 5 أغسطس الجاري على منطقة تقع بين قضائي مرجعيون والنبطية، بعد أن كان الرد الاسرائيلي يقتصر سابقاً على قصف مدفعي للأماكن التي تنطلق منها الصواريخ من الجانب اللبناني.
وفي 6 أغسطس الجاري، اضطر حزب الله لتبني عملية إطلاق دفعة جديدة من الصواريخ باتجاه إسرائيل، بعد اعتراض أهالي بلدة شويا اللبنانية لموكب مموه تبين أنه يحتوي راجمة صواريخ تابعة لحزب الله وكادت هذه الحادثة أن تشعل صراعاً طائفياً درزياً - شيعياً على وقع السجالات التي تلت هذه الحادثة. كما أدت إلى عملية نزوح من المنطقة التي تم إطلاق دفعة الصواريخ منها، خوفاً من رد الفعل الإسرائيلي. ولكن يبقى الاستنتاج الأبرز من وراء التطورات التي عرفتها جبهة الجنوب في لبنان مؤخراً، هو تأكد تفضيل حزب الله للأجندة الايرانية على حساب معالجة الوضع اللبناني الداخلي المنهار.
الخروج من المأزق:
في ضوء الأوضاع الراهنة التي يشهدها لبنان، يمكن اقتراح عدة نقاط للخروج من الأزمة السياسية الحالية في البلاد، وذلك على النحو الآتي:
1- تشكيل حكومة برئاسة ميقاتي تكبح الانهيار: يبقى الحل الأنسب والأقرب إلى الواقعية للخروج من الأزمة السياسية الحالية في لبنان، هو تشكيل حكومة برئاسة نجيب ميقاتي ومن وزراء اختصاصيين، بحيث يتم الاتفاق على تسميتهم بين رئيس الوزراء المُكلف والقوى السياسية الحالية، وتكون مهمتها محددة في أربع نقاط رئيسية، وهي:
أ- وضع حد للانهيار الاقتصادي في لبنان أو كبحه من دون الادعاء بقدرتها على صناعة المعجزات.
ب- فتح نقاش جدي مع صندوق النقد الدولي والتحضير لبدء المفاوضات حول ملف لبنان.
ج- التحضير للانتخابات النيابية المقبلة في ربيع 2022.
د- فتح قنوات الحوار مع الدول العربية الشقيقة للبنان.
ويعتقد رئيس الوزراء المُكلف، ميقاتي، أن لديه الإمكانية والعلاقات للنجاح في هذه المهمة، وربما أيضاً الضمانات الخارجية، حسب معظم التصريحات التي أدلى بها بعد تكليفه. ولكن حسب الوقائع، فإن صعوبة تشكيل الحكومة الجديدة يظل مرتبطاً بالآتي:
أ- حزب الله وحساباته الإقليمية، وتوجهات إيران في المنطقة، وأبرزها استهداف السفن في بحر عُمان، وتحريك جبهة الجنوب اللبناني.
ب- حسابات رئيس الجمهورية، ميشال عون، الذي يُفضل بقاء حكومة تصريف الأعمال الحالية، حيث إنه يمسك من خلالها بالمفاصل الأساسية للدولة عبر السيطرة على حقائب وزارية مهمة مثل الخارجية والدفاع والعدل والطاقة، بالإضافة إلى ترؤسه مجلس الدفاع الأعلى في ظل عدم قدرة حكومة تصريف الأعمال على الاجتماع. وهذا يتيح للرئيس عون تصوير نفسه أمام شارعه بالرئيس الذي نجح في استعادة صلاحيات رئيس الجمهورية التي كان يمتلكها قبل "اتفاق الطائف".
2- تصريف الأعمال حتى الانتخابات المقبلة: يبدو أن خيارات الرئيس عون تنحصر في الاستمرار في تصريف الأعمال حتى إجراء الانتخابات المقبلة أو الاتيان بحكومة من لون واحد تشبه في تركيبتها حكومة الرئيس حسان دياب الأخيرة؛ أي تكون محسوبة كلياً على فريق "8 آذار" ويمتلك فيها فريق رئيس الجمهورية الثُلث المعطل وما فوق. ويبدو أن "التسويق العوني" لخيار المجيء بحكومة من هذا اللون، لا يتفق مع أولويات الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل)، ولذلك فإن الاحتمال الأكبر هو الاستمرار في تصريف الأعمال الذي يتناسب تماماً مع أجندة الرئيس عون ولا يتعارض مع رغبة حزب الله على الرغم من رفض شارع "ثورة 17 تشرين" هذا الخيار وبقية المكونات السياسية المحسوبة سابقاً على قوى "14 آذار".
ولكن هذا الرفض لا يمكن أن يغير شيئاً من المعادلة؛ نظراً لافتقار هذه القوى لوسيلة تجبر الرئيس عون على توقيع مرسوم تشكيل حكومة لا يمتلك القدرة على التحكم فيها. وبالتالي فإنه من غير المستبعد دفع ميقاتي إلى الاعتذار كما تم دفع مصطفى أديب وسعد الحريري قبله، والسير بهذا التوجه بدأ يلوح من خلال تصريحات المقربين من الرئيس عون كمستشاره والوزير السابق بيار رفول الذي اعتبر في الأول من أغسطس الجاري في مقابلة له على تلفزيون OTV أن بقاء ميقاتي على شروطه (أي عدم إعطاء الثُلث المعطل لعون بالإضافة إلى وزارة الداخلية)، "كفيل بتطييره متل ما طار الحريري". ولكن يبدو أن دفع رؤساء الوزراء المُكلفين إلى الاعتذار، سيؤدي هذه المرة إلى اصطدام كبير مع رئيس الجمهورية، حيث بدأت دعوات مقاطعة عون تظهر إلى العلن.
3- زيادة زخم الضغوط الخارجية: أقر الاتحاد الأوروبي، في 30 يوليو 2021، إطاراً قانونياً لنظام عقوبات يستهدف المسؤولين عن تقويض حكم القانون في لبنان والذي كان قد سبقته في أبريل الماضي قيود على دخول شخصيات لبنانية إلى فرنسا تعتبرها الأخيرة مسؤولة عن تعطيل عملية تشكيل الحكومة اللبنانية وضالعة في الفساد. ويعتبر البعض أن وجود نهج أوروبي جديد في فرض العقوبات قائم على التلويح بها والتهديد بفرضها، ربما قد يكون أنجح من العقوبات على النهج الأمريكي المباشر والتي طالت في المرة الأولى الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس وأدت إلى تعطيل تشكيل حكومة مصطفى أديب، ثم في المرة الثانية طالت الوزير السابق جبران باسيل وأصابت أضرارها الجانبية عملية تشكيل حكومة سعد الحريري بعدما أدت إلى زيادة تصلب باسيل أكثر بعد أن أدرك أنه لم يعد هناك من شيء يخسره مع احتراق ورقته كمرشح رئاسي خارجياً.
كما أن هناك بعض التساؤلات بدأت تطفو على السطح تتعلق بمدى جدية المجتمع الدولي في مساعدة لبنان، في ظل تحكم الطبقة السياسية الحالية بأي حكومة ممكن أن تتشكل والتي يعتبرها المجتمع الدولي مسؤولة عن الفساد وعن سوء إدارة الدولة طوال الفترة السابقة، فضلاً عن أنها لن تتوانى عن استغلال الدعم الاقتصادي الخارجي للتأثير شعبوياً على الناخبين وترسيخ وجودها في المعادلة الداخلية اللبنانية أكثر. وبالتالي فإنه ربما يكون هدف ممارسة الضغط الغربي على المتحكمين في القرار اللبناني، هو إما دفعهم إلى التنازل، أو الوصول إلى الانتخابات البرلمانية المقبلة وقد وصلت النقمة الشعبية عليهم إلى أوجها، ما قد يدفع الناخبين إلى تغيير خياراتهم بشكل جذري والإطاحة بهذه الطبقة عبر صناديق الاقتراع.
ختاماً، لن يشكل إخفاق نجيب ميقاتي في تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة اختباراً له على الصعيد الشخصي فحسب، وإنما سيمثل إهداراً ربما لآخر فرصة للطبقة السياسية الحالية في لبنان لاستدراك نفسها قبل فتح الأبواب على مصراعيها أمام خيارات أخرى ومنها فرض نطاق واسع من العقوبات الأمريكية والأوروبية عليها، مع تفجر غضب الشارع اللبناني الذي قد يجد من الانتخابات المقبلة فرصة لتنفيس احتقانه.