تمر الأوضاع الاقتصادية في تونس بمرحلة فارقة في أعقاب القرارات الاستثنائية للرئيس التونسي، قيس سعيد، وفق الفصل 80 من الدستور التونسي، يوم 25 يوليو 2021، والتي تضمنت إقالة الحكومة برئاسة هشام المشيشي، وتجميد عمل البرلمان لمدة شهر ورفع الحصانة عن أعضائه، فضلاً عن إجراءات أخرى لاحقة، وقد وصفها البعض بأنها مباغتة وستزيد من حال عدم اليقين الاقتصادي في البلاد.
ومع ذلك، فإن تلك القرارات نالت تأييداً شعبياً ملموساً ودعماً من الأطراف المؤثرة على الساحة السياسية التونسية، وهو ما قد يساهم في إيجاد توافق سياسي بشأن تبني برنامج اقتصادي عاجل يعالج التحديات الاقتصادية التي تعانيها تونس منذ أكثر من 10 سنوات على غرار ارتفاع معدل البطالة، وتزايد الأسعار، إلى جانب تزايد العجز الحكومي، وهي في المجمل كانت من الأسباب التي أدت إلى تأجيج الغضب الشعبي في الشارع التونسي خلال الفترة الأخيرة.
تحديات اقتصادية:
تدهورت الأوضاع الاقتصادية في تونس بشدة خلال السنوات العشر الماضية، على خلفية التحولات السياسية التي مرت بها البلاد منذ أواخر عام 2010، إلى جانب اضطراب الأوضاع الأمنية بين الحين والآخر، والاحتجاجات الشعبية والعمالية الممتدة لفترة طويلة. وقد فرضت هذه الظروف تحديات اقتصادية عديدة، شملت تباطؤ النمو الاقتصادي، وارتفاع معدلات البطالة والفقر، بالإضافة إلى تزايد العجز المالي الحكومي.
وقد زاد تفشي فيروس كورونا من سوء الأوضاع الاقتصادية في تونس، وارتدت آثار الجائحة بشكل سلبي على مجمل النشاط الاقتصادي، لاسيما قطاع السياحة والسفر، والذي يمثل المصدر الرئيسي للنقد الأجنبي في تونس، وعلى نحو أدى إلى انكماش الاقتصاد بنسبة 8.8% في عام 2020، وفقاً لتقديرات البنك الدولي. وأيضاً مع تزايد حالات الإصابات المحلية بفيروس كورونا، استمر الأداء الضعيف للاقتصاد التونسي، مسجلاً انكماشاً بنسبة نحو 3% خلال الربع الأول من عام 2021 مقارنة بالفترة نفسها في العام الماضي.
وكان من نتائج تفشي كورونا إلى جانب تدهور البيئة السياسية في تونس، أن تراجعت بشدة مصادر النقد الأجنبي الواردة إلى البلاد. فبالإضافة إلى انخفاض عائدات السياح في العام الماضي، تناقصت بشكل واضح تدفقات الاستثمارات الأجنبية، وتراجعت الصادرات، وسجل الميزان التجاري لتونس عجزاً قدره 2.2 مليار دولار في عام 2020، أي ما يساوي حوالي 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي في العام الماضي.
وعلى جانب المالية العامة، شهدت الميزانية التونسية عجزاً مستمراً في السنوات الماضية، على نحو اضطرت معه الحكومة لرفع سقف الاقتراض الخارجي، وزادت الديون الخارجية إلى نحو 40.3 مليار دولار أي ما يمثل نحو 110% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، في الوقت الذي يعد فيه ذلك مؤشراً خطراً، لاسيما أن احتياطات البلاد بلغت ما يُقدر بنحو 8.9 مليار دولار في العام نفسه، أي أنها لا تفي سوى بــ 22% من الدين الخارجي.
وبناءً على المعطيات الاقتصادية السابقة، أصبح من الواضح أن الوضع الخارجي التونس هش للغاية وأكثر من أي وقت مضى، مع الأخذ في الاعتبار أنه يتعين على تونس خلال العام الجاري سداد ما يزيد على 4.5 مليار دولار، وفق التقديرات، لخدمة الديون، كما تحتاج إلى 6 مليارات دولار أخرى لتمويل وسد عجز الموازنة. وقد دفعت تلك التطورات وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني، إلى تخفيض التصنيف الائتماني السيادي الطويل المدى لمصادر العملة الأجنبية في تونس من "B" إلى "- B" مع نظرة سلبية للاقتصاد التونسي.
رهان الإصلاح الاقتصادي:
جاءت القرارات الاستثنائية للرئيس قيس سعيد بمنزلة نقطة فارقة في مجريات الأوضاع السياسية والاقتصادية في تونس. وينتظر كثير من التونسيين، الذين أيدوا القرارات الأخيرة، أن يتمكن الرئيس سعيد من التغلب على المشكلات الاقتصادية الضاغطة على كاهل الشعب، وبما في ذلك انخفاض مستوى المعيشة، وارتفاع التضخم، إلى جانب تدهور قيمة العملة المحلية، وهي المشكلات التي فشلت الحكومات المتعاقبة منذ عام 2010، بما في ذلك حكومة المشيشي المُقالة في 25 يوليو 2021، في معالجتها أو التخفيف منها.
وعلى وقع ذلك، يرى العديد من المراقبين أنه يتعين على الرئيس التونسي، بدعم من القوى السياسية، تقديم برنامج إصلاح اقتصادي ومالي عاجل يضع على أولويته إنعاش الاقتصاد التونسي ورفع مستوى معيشة المواطنين. وقد يكون إشراك جميع الأطراف السياسية المؤثرة والنقابات العمالية، وعلى رأسها الاتحاد العام للشغل، في وضع برنامج الإصلاح الاقتصادي، يمثل عنصر النجاح الأساسي في تنفيذه. وجدير بالذكر أن الاتحاد العام للشغل قد أبدى تحفظاته في السابق على خطة الحكومة التونسية لتقليص فاتورة الأجور والمرتبات العامة.
وقدمت الحكومات التونسية المتعاقبة على مدار السنوات الماضية بعض الإجراءات المحدودة لضبط المالية العامة، شملت تحريك أسعار الوقود أو الكهرباء وغيرها، بيد أنها لم تنجح في معالجة الاختلال المالي الواسع في البلاد. وكانت الحكومة السابقة برئاسة المشيشي قد بدأت في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي من أجل الحصول على قرض بقيمة 4 مليارات دولار، غير أن المُضي في ذلك كان سينطوي على تقديم تونس إصلاحات اقتصادية ومالية يصفها البعض بـ "الموجعة"، خاصة أن جزءاً منها يتعلق برفع الدعم عن المواد الأساسية ومن بينها مواد غذائية، والتخفيض في الأجور العامة بنسبة قد تتخطى 15%.
والمسألة هنا ليست الحديث عن إيجابيات توصل تونس إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي أو غيره من مؤسسات اقتصادية دولية أخرى، وإنما تقديم برنامج إصلاح اقتصادي شامل يدعم الاستقرار المالي والنقدي للبلاد، ويهدف إلى تحسين بيئة الأعمال، وبما يعود بالنفع على الشعب التونسي. ولا شك أن حصول تونس على الدعم المالي الدولي سيكون عنصراً فارقاً في تجاوز المتاعب الاقتصادية التي تعانيها البلاد، وتعزيز الثقة الدولية في الاقتصاد التونسي.
وقد أُثار البعض مخاوفاً من أن القرارات الرئاسية الاستثنائية الأخيرة ربما تترك فراغاً تنفيذياً قد يطول وبما يجعل من الصعب معه الحصول على الدعم الدولي من المؤسسات الدولية. وفي هذا السياق، أشارت "وكالة فيتش" مؤخراً إلى أن قرار الرئيس التونسي بتعليق البرلمان قد تقلل من استعداد الشركاء الغربيين لدعم تونس، وهي ادعاءات لا يمكن ثبوت صحتها.
عوائد التوافق السياسي:
يُعول الكثيرون على أن تُمهد قرارات الرئيس قيس سعيد إلى توافق سياسي بشأن أولوية تبني إجراءات اقتصادية رشيدة من شأنها دعم الاستقرار الاقتصادي في تونس، وذلك بخلاف الوضع السابق الذي اشتدت فيه الخلافات السياسية بين الرئاسات الثلاث (الدولة والحكومة والبرلمان)، على نحو أثقل كاهل الاقتصاد بمشكلات ضخمة. وبمعنى آخر، فإن الوضع الجديد في تونس قد يعزز البيئة السياسية الداعمة لاتخاذ خطوات اقتصادية حاسمة بهدف مواجهة الأزمات التي تعانيها البلاد على مدار سنوات ماضية.
وفي هذا الإطار، أيد الاتحاد التونسي للشغل الخطوات الرئاسية الأخيرة، مشترطاً ضرورة تأمين احترام الدستور واستمرار المسار الديمقراطي وإعادة الاستقرار لتونس. وكان من اللافت أيضاً أن صندوق النقد الدولي أبدى استعداده لمواصلة دعم تونس في التعامل مع تبعات جائحة كورونا وتحقيق تعاف شامل، وهو ما يمثل شهادة ثقة للمُضي قًدماً نحو تنفيذ المزيد من الإصلاحات الاقتصادية.
وبالتالي يتعين على الحكومة التونسية المقبلة استغلال الوضع الراهن لتقديم برنامج اقتصادي يهدف إلى تحقيق الاستقرار المالي، ودعم النمو الشامل، وتوفير بيئة أعمال جاذبة. وهذا كله من المنتظر أن يُترجم في صالح توفير مزيد من الوظائف، وتخفيف الأعباء المعيشية على المواطنين التونسيين، وتحسين الخدمات العامة لهم. ولعل أول ما شدد عليه الرئيس قيس سعيد، في 29 يوليو 2021، بشأن الملف الاقتصادي، ضرورة ضبط أسعار السلع للمستهلكين، بالإضافة إلى احتمال إجراء تسويات مالية مع رجال الأعمال لاستعادة حقوق مالية للدولة بقيمة 4.8 مليار دولار، وذلك في إجراء، إن تحقق، سوف يوفر سيولة واسعة للحكومة وسط الضغوط الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.
ختاماً، يمكن القول إن القرارات الاستثنائية الأخيرة للرئيس قيس سعيد، على الرغم من أنها قد تفرض مؤقتاً حالة من عدم اليقين، فإنها قد تُمهد إلى تشكيل بيئة سياسية داعمة لاتخاذ قرارات اقتصادية تصب في صالح الشعب التونسي، وتُمكنه من مواجهة مشكلاته الاقتصادية والمعيشية.