عرض: د. إسراء أحمد إسماعيل - خبير في الشؤون السياسية والأمنية
قامت الصين وروسيا خلال الأشهر الأخيرة بإرسال ملايين الجرعات من لقاحات فيروس كورونا إلى الدول النامية، في تطبيق عملي لما أُطلق عليه "دبلوماسية اللقاح"؛ حيث تسعى بكين وموسكو إلى ترسيخ مكانتهما كموردين للقاحات، فضلًا عن تعزيز حضورهما العالمي، وتوثيق علاقاتهما الثنائية مع العديد من البلدان الناشئة التي تشهد تراجُعًا للنفوذ الغربي، كما تحاول بكين استعادة سمعتها العالمية التي تعرضت لضربة خلال المراحل الأولى من انتشار الوباء.
وفي هذا الإطار، أصدرت وحدة الاستخبارات الاقتصادية التابعة للإيكونوميست، تقريرًا سلَّط الضوء على الدور الذي تقوم به كل من روسيا والصين للاستفادة من أزمة كورونا، وحاجة دول العالم الملحة للحصول على اللقاحات لتطعيم سكانها، والمخاطر التي تواجههما، والتحديات التي تواجه الغرب لمواجهة النفوذ المتنامي لكل من بكين وموسكو.
دبلوماسية اللقاح
أوضح التقرير أن الصفقات المرتبطة بدبلوماسية اللقاح تختلف عن العقود التجارية العادية التي يتم إبرامها بين شركات الأدوية والحكومات؛ إذ إنها صفقات ذات أبعاد جيوسياسية، ليست موجّهة نحو قطاع الأعمال. ويؤكد التقرير محاولة روسيا والصين توظيف دبلوماسية اللقاحات على النحو الأمثل؛ إذ لا تسعى الدولتان لكسب الثناء لتلبية حاجات قصيرة الأجل فحسب، وإنما تهدف كل منهما لتعزيز تأثيرها ودعم نفوذها على الصعيد العالمي، على المدى الطويل.
وفي هذا الإطار، قامت الدولتان بإنشاء مرافق لإنتاج اللقاحات في جميع أنحاء العالم، وتدريب العاملين المحليين في البلدان الناشئة، في رهان واضح على أن مثل هذه الاستراتيجية ستعمل على تعزيز وجودهما على الأرض لعقود قادمة، وفي ضوء ذلك تكتسب روسيا والصين نفوذًا متناميًا، مع تحقيقهما أهدافًا تجارية أيضًا؛ إذ إنه في معظم الحالات لا تتبرع الدولتان باللقاحات، بل تقومان ببيعها.
وغالبًا ما تكون المساعدات المقدَّمة في شكل لقاحات مصحوبة بشروط اقتصادية أو سياسية. على سبيل المثال، بدأت روسيا مناقشات مع بوليفيا حول الاستثمار في مناجم معادن نادرة، ومشروعات نووية مشتركة، وذلك بعد فترة وجيزة من تسليمها شحنة من لقاح "سبوتنيك في" Sputnik V الروسي.
ومن ناحية أخرى، قد يأتي تقديم اللقاحات أيضًا لبعض الدول كمكافأة لها على إثبات إخلاصها كشريك وحليف موثوق به. على سبيل المثال، قد تسعى الصين إلى مكافأة كمبوديا ولاوس بتقديم اللقاحات لهما لدعمهما الموقف الصيني في النزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، وربما تحصل باكستان على لقاحات مقابل موافقتها على المشروعات المرتبطة بمبادرة "الحزام والطريق" الصينية (BRI).
وتأمل روسيا والصين أن تثبت الدول المتلقية امتنانها، وتقدم دعمها لهما في الأمم المتحدة، فضلًا عن تسهيل الوصول إلى الموارد الطبيعية، وتسريع الموافقة على المشروعات الاستثمارية، وتسهيل عمليات التبادل التجاري، أو أن تصبح أكثر انفتاحًا على شراء معدات دفاعية أو تقنية الجيل الخامس منهما. كما تهدف موسكو وبكين إلى الاستفادة من التصور السائد بشأن فشل الدول الغربية في المساعدة في توفير اللقاحات لدول العالم، وما تسبب فيه ذلك من حدوث فراغ سعت الصين وروسيا لملئه، وهو ما أُطلق عليه "فراغ اللقاح" vaccine vacuum، وترميان في هذا السياق إلى زيادة الشعور العالمي بالاستياء من الدول الغربية، وذلك رغم دورها في إنتاج أكثر من نصف الإمدادات العالمية من اللقاحات. وتحاول موسكو وبكين استغلال هذا الوضع لمصلحتهما الخاصة من خلال تقديم نفسيهما على أنهما "منقذ" البلدان الناشئة، ومصدر توفير اللقاحات بتكلفة ميسورة للبلدان التي تكافح لتطعيم سكانها.
ومع ذلك، لن تقدم الصين وروسيا اللقاحات بشكل متساوٍ إلى جميع البلدان الناشئة، إذ سيحصل البعض، مثل: البرازيل، وتشيلي، وإندونيسيا، والمكسيك، على ملايين الجرعات، بينما سيحصل آخرون، خاصة في إفريقيا جنوب الصحراء، على بضعة آلاف من اللقاحات فقط، مما يشير إلى أن الأمر يتعلق بالعلاقات والمصالح، أكثر من كونه محاولة حقيقية لسد حاجة ملحة.
وفي هذا الصدد، تركز الصين وروسيا جهودهما على المناطق التي تمثل أهمية استراتيجية لهما. على سبيل المثال، آسيا بالنسبة للصين، وكذلك المناطق التي تمثل ساحة للتنافس على النفوذ مع القوى الغربية، مثل أوروبا الشرقية، ولا سيما غرب البلقان، أو المناطق التي تشهد حضورًا محدودًا لهما، كما هو الحال بالنسبة لأمريكا اللاتينية، والتي تقع تقليديًا ضمن مجال نفوذ الولايات المتحدة، حيث تسعى موسكو وبكين لزيادة نفوذهما وأنشطتهما هناك.
مخاطر محتملة
لا تخلو استراتيجية دبلوماسية اللقاحات التي تتبناها روسيا والصين من المخاطر؛ إذ سيكافح كلا البلدين لتلقيح شعوبهما، مع محاولة تحقيق أهدافهما الطموحة المتمثلة في تصدير اللقاحات. وتجدر الإشارة إلى أن موسكو كانت أول دولة في العالم تصادق على لقاح "سبوتنيك في" Sputnik V، في أغسطس 2020. ومع ذلك، فإن حملة التطعيم في البلاد اتسمت بالبطء حتى الآن؛ بسبب القيود المتعلقة بالإنتاج، وتردد المواطنين في الحصول على اللقاح. ففي أواخر أبريل، كان معدل توزيع اللقاح في روسيا أقل حوالي ثلاث مرات مقارنة بفرنسا والمملكة المتحدة، وخمس مرات مقارنة بالولايات المتحدة، كما أن عدد الأشخاص الذين يرغبون في الحصول على اللقاح آخذ في التراجع، وترجِّح وحدة المعلومات الاقتصادية عدم تحقق التحصين الشامل من الفيروس في روسيا إلا خلال النصف الأول من عام 2022.
وفي الوقت نفسه، يواجه برنامج التطعيم في الصين أيضًا تحديًا هائلًا، نظرًا لضخامة حجم السكان، وانخفاض فعالية بعض اللقاحات المصنوعة في الصين؛ حيث تشير البيانات الحديثة إلى أن جرعة لقاح "سينوفاك" Sinovac قد تكون فعالة بنسبة 50٪ تقريبًا، وهي نسبة أعلى بقليل من العتبة التي حددتها منظمة الصحة العالمية للقاحات فيروس كورونا، كما أن التردد في الحصول على اللقاح، والعدد المحدود من العاملين في مجال الرعاية الصحية، يعيقان وتيرة توزيع اللقاحات، كذلك فإن الإجراءات الناجحة لاحتواء انتشار الوباء في الصين جعلت نشر اللقاح أمرًا غير ملح. ولهذه الأسباب، لا يرجِّح التقرير أن تتمكن الصين من تغطية اللقاحات لشريحة كبيرة من المواطنين قبل النصف الثاني من عام 2022، على الرغم من أن التطعيم في بعض المناطق الحضرية يمكن أن يكتمل بحلول نهاية عام 2021.
في روسيا، وبدرجة أقل في الصين، ستستمر مشكلة تضارب الأولويات بين تطعيم السكان المحليين وتصدير اللقاحات طوال عام 2021، ولمعالجة هذه المشكلة، يقوم كلا البلدين بفتح مصانع إضافية في الداخل والخارج. وفي هذا الإطار، سيتم إنتاج لقاح "سبوتنيك في" Sputnik V في اثنتي عشرة دولة، بما في ذلك البرازيل والهند وإيران وصربيا وكوريا الجنوبية، وفي الوقت نفسه ستكون هناك خطوط إنتاج للقاحات الصينية المختلفة في حوالي عشر دول، بما في ذلك إندونيسيا وماليزيا. ومع ذلك، فمن غير المرجّح أن تساعد خطوط الإنتاج الإضافية في تخفيف مشكلات التوريد قبل النصف الثاني من عام 2021 (على أقرب تقدير)؛ إذ يمثل إنشاء مصانع اللقاحات تحديًا تقنيًا، ويستغرق ستة أشهر على الأقل قبل أن تبدأ العمل.
غياب غربي
يعكس غياب الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والمملكة المتحدة حتى الآن عن مشهد دبلوماسية اللقاحات حجم الضغوط السياسية في هذه البلدان لتطعيم سكانها أولًا، وذلك إضافة إلى الجدل المثار مؤخرًا حول لقاح "أسترازينيكا" AstraZeneca البريطاني، حيث أدى التردد المتنامي بشأن هذا اللقاح إلى إفساح المجال أمام روسيا والصين لاستغلال هذا الوضع.
ولكن هذا لا يعني تخاذل الدول الغربية عن مساعدة البلدان الناشئة في الحصول على لقاحات بتكلفة ميسورة؛ فمعظم البلدان الغنية هي جهات مانحة لمبادرة "كوفاكس" COVAX التي تقودها منظمة الصحة العالمية، وفي بعض البلدان، مثل كمبوديا، يمكن أن تكون شحنات اللقاحات المقدمة من خلال "كوفاكس" قد تجاوزت تلك الواردة من الصين وروسيا. ومع ذلك، فإن القرار الأخير الذي اتخذته الحكومة الهندية للحد من صادرات لقاحات فيروس كورونا بشكل كبير سيعقد عملية توزيع اللقاحات التي ترعاها "كوفاكس" مؤقتًا.
وفي ضوء ذلك، تتزايد مخاوف دول مجموعة السبع G7 بشأن اعتبار الدول النامية لهم كشركاء غير موثوق بهم، ومن المتوقّع أن تنخرط الدول الغربية في دبلوماسية اللقاحات في وقت لاحق من هذا العام، بمجرد تلقيح معظم سكانها. وتوضح المبادرة الأخيرة من "الحوار الأمني الرباعي" "كواد" QUAD لتزويد بلدان جنوب شرق آسيا باللقاحات، الجدول الزمني المتأخر لمثل هذه الخطوات؛ حيث أعلن أعضاء الرباعية في مارس أن الولايات المتحدة واليابان ستمولان إنتاج مليار لقاح من "جونسون آند جونسون" الأمريكي، وسيتم إنتاجه في الهند، وستدعم أستراليا عملية التوزيع، ومع ذلك، لا يُتوقّع شحن اللقاح قبل أواخر عام 2022.
يتضح مما سبق، أن الجهود التي تبذلها الدول الغربية في إطار دبلوماسية اللقاحات، للحاق بجهود روسيا والصين، قد تكون تأخرت، مما أتاح الفرصة أمام موسكو وبكين لكسب المعركة حتى الآن، ومن المحتمل أن يكون الضرر الذي لحق بسمعة الدول الغربية قد وقع بالفعل، وسيكون من الصعب إصلاحه، ومن شأن ذلك أن يعمل على تعزيز المكانة والنفوذ العالمي لروسيا والصين، مما يساعد كلا البلدين على متابعة مصالحهما في جميع أنحاء العالم، وستصبح النتيجة طويلة المدى لدبلوماسية اللقاح هي مزيد من التشرذم في النظام العالمي.
المصدر:
What next for vaccine diplomacy?, The Economist Intelligence Unit, 2021, pp. 1-10.