منذ صعود بايدن إلى سدة الحكم في البيت الأبيض وإعلانه عن عزمه تشكيل تحالف دولي لمجابهة النفوذ الصيني، ازدادت التكهنات حول طبيعة مستقبل العلاقات الصينية-الأوروبية. خاصة مع تأكيد بايدن وإدارته على أهمية الدول الأوروبية كحليف استراتيجي للولايات المتحدة، مما يعني أن الدول الأوروبية قد تواجه ضغوطًا من الإدارة الأمريكية لتقليل وتيرة علاقتها بالصين، لا سيما على الصعيد الاقتصادي.
مؤشرات التوتر:
يمكن استقراء ثلاثة مؤشرات تؤكد أن الاتحاد الأوروبي بدأ في اتخاذ موقف أكثر تشددًا حيال الصين في الخمسة شهور المنصرمة من العام الجاري. المؤشر الأول هو قيام الاتحاد الأوروبي في مارس بفرض عقوبات على الصين بسبب انتهاكات حقوق الإنسان لأقلية الإيغور المسلمة في منطقة شينجيانغ. وردًا على ذلك، فرضت الصين عقوبات على مسؤولين في البرلمان الأوروبي، مما خلق "مناخًا ووضعًا جديدًا" للعلاقات الصينية-الأوروبية وفقًا لجوزيب بوريل، الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية.
ويتمثل المؤشر الثاني في أنه رغم التوقيع على الاتفاقية الشاملة للاستثمار بين الاتحاد الأوروبي والصين في ديسمبر 2020 (بعد سبع سنوات من المفاوضات)، إلا أنه في مايو الجاري تم تجميد عملية التصديق الأوروبي على الاتفاق بسبب معارضة البرلمان الأوروبي لتفعيل الاتفاقية والتي تتيح للشركات الأوروبية الوصول إلى الأسواق الصينية، وتعزز من الاستثمارات الصينية في أوروبا. وكان السبب وراء هذا التجميد هو ازدياد المخاوف الأوروبية مما يطلق عليه "التحول الاستبدادي" للنظام الصيني، وهو ما يعكس بشكل واضح صعوبة إبقاء المصالح الاقتصادية الأوروبية منفصلة عن المخاوف السياسية.
أما المؤشر الثالث فهو إعلان الاتحاد الأوروبي، في 5 مايو الجاري، عن خطة لخفض الاعتماد على صادرات بعض الدول ومن بينها الصين وذلك في قطاعات (المواد الخام، ومكونات العقاقير، وأشباه الموصلات)، وكان الهدف من هذا الإجراء هو تنويع مصادر المنتجات الحيوية للاتحاد الأوروبي.
الاعتماد الاقتصادي المتبادل:
أدى التطور السريع للصين ودورها المركزي كمحرك للعولمة إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي خلال الفترة بين عامي 2000 و2019، فقد نما حجم التبادل التجاري بين الاتحاد الأوروبي والصين خلال هذه الفترة بمقدار ثمانية أضعاف، ووصل تقريبًا إلى 560 مليار يورو عام 2019، مما أدى إلى خفض أسعار السلع الاستهلاكية في الدول الأوروبية. فضلًا عن أن الصين أصبحت أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي خلال عام 2020، مما يعني أن الصين باتت المصدر الرئيسي لما يقرب من ربع السلع المستوردة إلى الدول الأوروبية العام الماضي .
ومع ذلك، يرى عدد كبير من الخبراء أنه لا ينبغي المبالغة في أهمية الصين الاقتصادية بالنسبة للاتحاد الأوروبي. وأن طبيعة العلاقة بين الطرفين لا تتسم بهيمنة الصين على الاقتصادات الأوروبية؛ بل إنها علاقة اعتماد متبادل، ويعزز ذلك الرأي خمسة مؤشرات:
1- حجم الاستثمارات الصينية: لا يزال وجود الشركات والاستثمارات الصينية في أوروبا ضئيلًا نسبيًا، حيث تبلغ الاستثمارات الصينية حوالي 5% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في الاتحاد الأوروبي. وهي نسبة ضئيلة إذا ما قورنت بنسب الاستثمارات الأمريكية، حيث تعد الولايات المتحدة أكبر مستثمر في الاتحاد الأوروبي .
2- مركزية السلع الصينية: تشير الإحصائيات إلى أن 43% من الصادرات الصينية لأوروبا هي سلع استهلاكية، مثل: المنسوجات، والأثاث، والألعاب، وكذلك المنتجات الإلكترونية الاستهلاكية (مثل الهواتف المحمولة، وأجهزة الكمبيوتر الشخصية، والأجهزة المنزلية)، مما يعني أن طبيعة العلاقة بين الصين والاتحاد الأوروبي لا تؤدي إلى خلق اعتماد استراتيجي كامل من الاتحاد الأوروبي على الواردات الصينية، فمن الممكن تنويع مصادر توريد السلع الاستهلاكية للاتحاد الأوروبي دون المخاطرة بانهيار الاقتصادات الأوروبية.
3- استيراد المعدات الأوروبية: فالصين تعتمد بشكل كبير على استيراد آلات ومعدات أوروبية متخصصة لتصنيع عدد كبير من السلع والمنتجات التي تصدرها للخارج، خاصة المنتجات الطبية والوقائية. لهذا يرى بعض الخبراء أن الاعتماد الصيني على أوروبا هو أكبر من اعتماد الأخيرة على المنتجات الصينية.
4- قطاع الصناعات التكنولوجية: يؤكد الخبراء صعوبة عثور الصين على بدائل محلية للمنتجات الأوروبية اللازمة لتصنيع المنتجات الإلكترونية فائقة الدقة. وفي الوقت ذاته، تعتمد الدول الأوروبية هي الأخرى بشكل مكثف على الصين في قطاع الإلكترونيات. حيث يهيمن المنتجون الصينيون على توريد المدخلات الحرجة المستخدمة في الإنتاج الأولي للعديد من الصناعات التكنولوجية. ويتضمن ذلك اللبنات الأساسية للعديد من المنتجات الإلكترونية.
فعلى سبيل المثال، ستصبح الرقائق الدقيقة التي تنتجها أوروبا عديمة الفائدة بدون لوحة الدوائر المطبوعة المناسبة (PCB) التي يتم استيرادها بشكل أساسي من الصين. ولن تتمكن الصين من تطوير الرقاقات الدقيقة بمفردها دون الاستعانة بالمنتجات الأوروبية.
5- محورية الشركات الأوروبية: يُعد الاتحاد الأوروبي أحد أكبر المستثمرين الأجانب في الصين، خاصة مع تركيز الشركات الأوروبية على الاستثمار في مجالات البحث والتطوير، والذي هو المحرك الأهم لاستمرار النمو الصيني. ففي عام 2019، أعادت فولكس فاجن استثمار 90% من أرباحها في الصين في مجالات البحث والتطوير داخل الصين.
كما أطلقت شركة BASF للكيماويات الألمانية مشروعًا بقيمة 10 مليارات دولار أمريكي في مقاطعة جواندونج، وبدأت شركة الكيماويات الدنماركية Hempel في بناء مصنع بقيمة 100 مليون يورو في مقاطعة شاندونج.
كما تلعب الشركات الأوروبية، ولا سيما الألمانية، دورًا كبيرًا في خلق فرص عمل داخل الصين، حيث تشير الإحصائيات إلى أن الشركات الألمانية قد تمكنت من خلق أكثر من مليون موظف في الصين. كما قامت فولكس فاجن بتشغيل 26 منشأة إنتاج في الصين توظف أكثر من 100 ألف صيني في عام 2019.
ومن ثمّ تعتبر استثمارات الشركات الأوروبية ضرورية للتنمية الاقتصادية في الصين، وضرورية أيضًا لتحقيق الشركات الأوربية مزيدًا من الأرباح.
معوقات الانفصال الاقتصادي:
لا يمكن أن نُرجع دوافع الاتحاد الأوروبي لمراجعة طبيعة علاقته الاقتصادية بالصين إلى الضغوط الأمريكية فحسب، بل يمكن التمييز بين نوعين من الدوافع الإضافية التي تعزز من ضرورة قيام الدول الأوروبية بإعادة تقييم مسار علاقتها مع الصين.
الدافع الأول هو التهديد الاقتصادي، فالقادة الأوروبيون بدأوا يدركون حقيقة الخطر الذي تمثله الصين على الاقتصادات الأوروبية، وقد تجلى ذلك في تحذير "فولفجانج نيدرمارك"، عضو مجلس الإدارة التنفيذي في اتحاد الصناعة الرئيسي في ألمانيا، من أنه "يجب البدء في التعامل مع الصين على أنها منافس استراتيجي"، وأنه لا يمكن تقبل فكرة أن الصين لا تزال سوقًا ناشئة.
كما عبرت التقارير عن الإحباط الأوروبي بسبب عدم بذل الحكومة الصينية للجهود المطلوبة لزيادة استيراد المنتجات الأوروبية، خاصة في قطاعي الزراعة والتكنولوجيا . وهو ما يؤكد استمرار المشكلة المزمنة التي تعاني منها العلاقات الاقتصادية الصينية-الأوروبية، وهو وجود عجز بشكل شبه دائم في ميزان التبادل التجاري لصالح الصين، مما سيؤثر على المدى الطويل بالسلب على قاعدة الصناعة والابتكار الأوروبية.
أما الدافع الثاني فهو متعلق بالقيم التي يتبناها الاتحاد الأوروبي، حيث يرى عدد كبير من الخبراء أن انتهاكات الصين لحقوق الإنسان في شينجيانغ وهونغ كونغ والتبت أصبحت تثير قلق القادة الأوروبيين، لما تمثله الممارسات الصينية من تحدٍّ للنموذج القيمي الأوروبي القائم على إعلاء قيمة حقوق الإنسان وذلك وفقاً لرؤيتهم.
فضلًا عن أن هذه الانتهاكات قد ألقت بظلالها على الشق الاقتصادي، حيث أقامت ثلاث مجموعات ضغط أوروبية وامرأة من أقلية الإيغور –سبق اعتقالها في شينجيانغ- دعوى قضائية في باريس ضد أربعة من مصنعي الملابس الأوروبيين والأمريكيين بسبب قيامهم باستيراد قطن من إقليم شينجيانغ .
ولكن رغم وجود مؤشرات قوية على تراجع العلاقات بين الطرفين، ووجود دوافع لدى الاتحاد الأوروبي للاستمرار في مراجعة العلاقات مع الصين وعدم تعزيزها على المدى القصير على الأقل؛ إلا أن هناك عدة معوقات قد تقف أمام جهود الاتحاد الأوروبي لإتمام هذه المراجعة وتغيير نهج العلاقات بشكل كامل مع الصين. ويمكن إجمال أهم هذه المعوقات فيما يلي:
1- التخوف من التبعية لواشنطن: أكد "مانفريد ويبر"، زعيم حزب الشعب الأوروبي الذي يعد أكبر فصيل في البرلمان الأوروبي، على ضرورة أن تعمل أوروبا على توحيد مواقفها مع الولايات المتحدة تجاه الصين وذلك للدفاع عن المصالح المشتركة. إلا أن هناك أصواتًا معارضة لهذا التوجه خاصة في ألمانيا وفرنسا، حيث يرى بعض المحللين الأوروبيين أنه يتعين على أوروبا أن تتخذ مسارًا منفصلًا عن واشنطن تجنبًا لأن تصبح أوروبا تابعة للولايات المتحدة. وهو توجه تروج له مجلة (Global Times) التابعة للحزب الشيوعي الصيني والتي أكدت أنه يتعين على القادة الأوروبيين عدم الانسياق وراء الولايات المتحدة، وهو ما قد يمثل ضغطًا على قادة الاتحاد الأوروبي في تنسيق مواقفهم مع واشنطن.
2- الانقسام الأوروبي حول بكين: هناك عدد من الدول الأوروبية التي تدعم الصين ولا ترى في صعودها أي خطر عليها، مثل اليونان والمجر وإيطاليا والبرتغال وصربيا. فالمجر قامت مرتين بمنع صدور بيان من الاتحاد الأوروبي لإدانة الممارسات الصينية في هونغ كونغ.
وفي عام 2016، تمكنت اليونان والمجر من تخفيف لهجة بيان الاتحاد الأوروبي بشأن تأييد حكم بحر الصين الجنوبي والصادر عن محكمة التحكيم الدائمة ضد الصين. بينما عارضت اليونان في عام 2017 بيانًا للاتحاد الأوروبي بشأن سجل حقوق الإنسان في الصين.
ومما يعزز هذا الانقسام هو تباين مدى قوة العلاقات الاقتصادية بين الصين ودول الاتحاد الأوروبي. فعلى سبيل المثال، تستحوذ الصين على حصة أعلى من صادرات دول أوروبا الغربية والدول الإسكندنافية مقارنة بدول أوروبا الوسطى والشرقية.
3- استمرار النمو الاقتصادي الصيني: فالصين في طريقها لتجاوز الولايات المتحدة كأكبر سوق استهلاكية قريبًا، مما سيصعب من الانفصال الاقتصادي بين أوروبا والصين، أو على أقل تقدير سيجعل من عملية الانفصال بطيئة للغاية. فضلًا عن أن السوق الصينية قد ازدادت أهميتها بالنسبة للعديد من الشركات الأجنبية بشكل أكبر خلال الجائحة، حيث مثّلت الصين السوق الرئيسية التي تحقق معدل نمو في عام 2020. وبالتالي سيواجه الاتحاد الأوروبي صعوبة في إقناع الشركات الأوروبية بالإحجام عن التوسع في استثماراتها في الصين والتي تدر عليها أرباحًا طائلة، خاصة في ظل الكساد الاقتصادي العالمي.
ختامًا، إن تحقيق الانفصال الاقتصادي بين الصين والدول الأوروبية هو عملية طويلة ومعقدة، وقد تستلزم عقودًا لإتمامها أو لتؤتي ثمارها. فتغير بنية سلاسل التوريد والتصنيع العالمية هو أمر ليس سهلًا على الإطلاق، ويتطلب استثمارات ضخمة وتوافقًا سياسيًا واقتصاديًا مستمرًا بين عدد كبير من الدول لإعادة هيكلة بنية سلاسل التوريد العالمي وما يتبعه ذلك من تغير في موازين القوى الاقتصادية ومن ثمّ الدولية، وبالتالي فهي عملية تدريجية وبطيئة.
ولكن هذه الحقيقة لا يمكن أن تنفي أو تقلل من أهمية وجود اختلافات جوهرية بين الاتحاد الأوروبي والصين، فالاتحاد الأوروبي يلتزم بمبادئه التأسيسية لحقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون، وهي ما تتصادم بشكل جذري مع المبادئ الخمسة الصينية للتعايش السلمي، والتي تشمل عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
لذا، من المرجّح أن يقوم الاتحاد الأوروبي بتحديد علاقاته الاقتصادية مع الصين بشكل أكبر وتدريجي في الفترة القادمة. وستتزامن هذه الخطوة مع بذل الدول الأوروبية مزيدًا من الجهود الداخلية والتنسيق مع الدول الأخرى خاصة الولايات المتحدة لتوفير احتياجاتها البديلة من بعض المنتجات الصينية على المدى المتوسط والطويل. في حين أنه من المرجح أيضًا أن تستمر الدول الأوروبية في التنسيق مع الصين في الموضوعات ذات الاهتمام المشترك، مثل: مكافحة التغير المناخي والأوبئة، وجهود تطوير اللقاحات لفيروس كورونا المستجد.