أصدر البيت الأبيض بعد ٤٥ يومًا من أداء الرئيس الأمريكي "جو بايدن" اليمين الدستورية في ٢٠ يناير الماضي، وثيقة "التوجيه الاستراتيجي المؤقت لاستراتيجية الأمن القومي" التي تتضمن توجهات الإدارة الأمريكية الأولية لوكالات الأمن القومي حتى تتمكن من العمل على الفور مع التحديات الدولية بعد أربع سنوات من حكم الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترامب"، الذي أحدث قطيعة مع سياسات أمريكية ترجع لعقود، والتي كان لها كبير الأثر على دور ومكانة الولايات المتحدة الأمريكية في النظام الدولي الذي أسسته في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية.
وقد أكد وزير الخارجية الأمريكي "أنتوني بلينكن"، خلال أول خطاب له عن مقاربات السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية بعنوان "سياسة خارجية للشعب الأمريكي" بوزارة الخارجية الأمريكية في ٣ مارس الجاري؛ على أن الإدارة الأمريكية لا تزال تعمل على وضع استراتيجية أكثر عمقًا للأمن القومي على مدى الأشهر القليلة الماضية.
وقد هدفت الوثيقة التي صدرت في ٣ مارس الجاري إلى توصيف المشهد العالمي كما تراه الإدارة الأمريكية بقيادة "جو بايدن"، وشرح أولويات سياساتها الخارجية، وكذلك كيفية تجديد مَواطن قوة الولايات المتحدة لمواجهة التحديدات، وتقديم التوجيهات اللازمة لضبط تحركات كافة مؤسسات صنع القرار الأمريكي بما يتلاءم مع رؤية الرئيس الأمريكي، الذي تعهّد منذ اليوم الأول في البيت الأبيض بعودة الولايات المتحدة مجددًا للقيادة الدولية والتعامل مع التحديات العالمية بصورة تحفظ أمن واستقرار واشنطن وحلفائها. وتقوم الوثيقة على ضرورة إعادة تجديد المزايا الدائمة للولايات المتحدة، لتمكنها من العودة لقيادة النظام الدولي مرة أخرى، في وقت تواجه فيه منافسة قوية من الصين وروسيا وتحديهما للقوة والنفوذ الأمريكيين عالميًا.
مقاربات لمعالجة التحديات الدولية:
أعادت وثيقة "التوجيه الاستراتيجي المؤقت لاستراتيجية الأمن القومي" التأكيد على مقاربات الإدارة الأمريكية للتعامل مع التحديات الدولية، والتي أعلنها الرئيس "جو بايدن" أكثر من مرة خلال حملته الانتخابية، وكذلك أعضاء إدارته منذ توليه السلطة رسميًا، والتي تتمثل في:
1- إعادة بناء الداخل الأمريكي: أكدت الوثيقة على أن استعادة الولايات لدورها العالمي وشراكاتها الدولية التي انهارت خلال سنوات حكم الرئيس "ترامب" ترتبط بضرورة إعادة بناء الداخل الأمريكي، وتحديث القدرات العسكرية، وإعادة تأسيس الركائز الاقتصادية، واستعادة الثقة في الديمقراطية التي تعرضت لعديد من الانتكاسات خلال السنوات الأربع الماضية، لأنها نقطة الانطلاق الرئيسية لتمكن الولايات المتحدة من إعادة العمل مع الحلفاء والشركاء لتعزيز المصالح الأمريكية، ولمواجهة المنافسين والتحديات العالمية والمشتركة والقضايا التي لا تستطيع واشنطن مجابهتها بمفردها. وكثيرًا ما أكد الرئيس "بايدن" على أن واشنطن يمكنها المنافسة عالميًا من موقع قوة من خلال إعادة البناء بشكل أفضل في الداخل.
2- ربط السياسة الخارجية بالسياسات الداخلية الأمريكية: ذكر الرئيس الأمريكي في أول خطاب له عن السياسة الخارجية الأمريكية، في ٤ فبراير الماضي بوزارة الخارجية الأمريكية، أنه ليس هناك خط واضح بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية لأن الولايات المتحدة يجب أن تضع في اعتبارها الداخل الأمريكي عند كل إجراءات تتخذ في الخارج.
وقد أكدت الوثيقة على أن تحقيق المصالح الاقتصادية الأمريكية خارجيًا ينبغي أن يتماشى مع مصالح الطبقة الوسطى بالنظر إلى أن تأثير قرارات السياسة الخارجية ذو أبعاد اقتصادية على دخل الأفراد والعائلات، ولا سيما في وقت تُولي فيه الإدارة الأمريكية الاهتمام بالنمو الاقتصادي الشامل والعادل، والاستثمار لتشجيع الابتكار، والعمل على توفير وظائف برواتب جيدة للمواطنين، وتعزيز القدرة التنافسية المحلية، وإعادة بناء سلاسل التوريد الأمريكية للسلع الحيوية.
ويتفق ذلك مع التقرير الذي نشرته مؤسسة "كارنيجي" للسلام الدولي في سبتمبر من العام الماضي (٢٠٢٠)، والذي أعده مجموعة من الخبراء، منهم "جيك سوليفان" الذي اختاره الرئيس "جو بايدن" لشغل منصب مستشار الرئيس للأمن القومي، والذي خلص إلى أن قوة ونفوذ الولايات المتحدة خارجيًا تنبع من قوتها في الداخل، وأن توسيع الطبقة الوسطى من الركائز الأساسية للولايات المتحدة، والحفاظ عليها يفرض على صانعي السياسة الخارجية الأمريكية أن يتبنوا سياسات جديدة من شأنها إعادة بناء الثقة في الداخل والخارج.
ملامح الاختلاف عن استراتيجية الأمن القومي لـ"ترامب":
عكست وثيقةُ "التوجيه الاستراتيجي المؤقت لاستراتيجية الأمن القومي" لإدارة الرئيس "بايدن" ملامح اختلاف السياسة الخارجية للإدارة الأمريكية الجديدة عن تلك التي انتهجتها الإدارة الأمريكية السابقة (إدارة "دونالد ترامب")، والانتقادات التي توجه لها. ولذا اختلف الوثيقة في كثير من القضايا عن استراتيجية الأمن القومي للرئيس "ترامب" التي صدرت في ديسمبر ٢٠١٧، وتتمثل أبرز الاختلافات فيما يلي:
1- الدور الأمريكي القيادي في النظام الدولي: أكدت الوثيقة على الانخراط الأمريكي في الشؤون الدولية، وعودة الولايات المتحدة إلى قيادة النظام الدولي الذي أسسته في أعقاب نهاية الحرب العالمية الثانية، على عكس استراتيجية إدارة "ترامب" التي ركزت على شعاره "أمريكا أولًا". فقد شددت وثيقة "بايدن" على أن الولايات المتحدة لا تستطيع الغياب مرة أخرى عن قيادة النظام الدولي، وأن عليها الانخراط في المؤسسات المتعددة الأطراف لضمان "قيادة نظام دولي مستقر ومنفتح".
2- التحالفات والشراكات الأمريكية: تراجعت أهمية التحالفات الدولية في استراتيجية الرئيس "ترامب"، مع التركيز على السيادة الأمريكية ضد التهديدات المحتملة. وفي المقابل، أكدت وثيقة الإدارة الديمقراطية على أهمية التحالفات والشراكات الأمريكية التي تُعد أحد مصادر قوة الولايات المتحدة، لتتمكن من تحمل المسؤوليات التي تُمكّنها من الحفاظ على مصالح الشعب الأمريكي، ومواجهة التحديات الدولية في ظل دور أمريكي نشط دوليًا للحفاظ على أمن واستقرار النظام الدولي، حيث تُتيح التحالفات فرصة لتكوين جبهة مشتركة، وإنشاء قواعد عالمية فعالة، وإنتاج رؤية موحدة للتعامل مع مختلف القضايا، ومحاسبة الدول على انتهاكاتها مثل الصين.
وقد جددت الوثيقة الالتزام الأمريكي بالشراكة عبر الأطلنطي، والتعاون مع الاتحاد الأوروبي لمواجهة التحديات القائمة من خلال وضع جدول أعمال مشترك، مع عدم إغفال أهمية تعزيز العلاقات مع جيران الولايات المتحدة مثل المكسيك وكندا، وهو الأمر الذي يتطلب التعاون مع الكونجرس لدعم الدول في أمريكا الوسطى.
3- قضية تغير المناخ: في الوقت الذي لم ترَ فيه استراتيجية "ترامب" أن قضية تغير المناخ تمثل تهديدًا للأمن القومي الأمريكي، وانسحاب الإدارة الأمريكية من اتفاقية باريس للمناخ؛ فقد أكدت وثيقة "بايدن" على دور الولايات المتحدة الريادي من خلال المنظمات الدولية لمواجهة التحديات العالمية، والتي يأتي في مقدمتها مواجهة تغير المناخ، والاتجاه للطاقة النظيفة لتقليل انبعاثات الغازات المسؤولة عن الانبعاث الحراري، ومساعدة الدول على التخفيف من آثار التغير المناخي، وتقديم الدعم للمجتمعات المتضررة من الكوارث الطبيعية.
4- الالتزام الأمريكي بدعم الديمقراطية وحقوق الإنسان: لم تتضمن استراتيجية "ترامب" أي التزام أمريكي بتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان عالميًا، لكن وثيقة "بايدن" أكدت على الدور الأمريكي للدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان عالميًا، لأنهما يخدمان المصلحة القومية الأمريكية، وكذلك عقد قمة عالمية من أجل الديمقراطية لضمان تعاون واسع بين حلفاء الولايات المتحدة وشركائها بشأن المصالح والقيم المشتركة.
ولا يقتصر تأكيد الوثيقة على نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان عالميًا، ولكن التشديد على استعادة الديمقراطية الأمريكية التي تعرضت لأزمات تهدد مصداقيتها خلال إدارة الرئيس "ترامب"، ولا سيما بعد رفضه نتائج الانتخابات الرئاسية التي أجريت في ٣ نوفمبر الماضي، واقتحام أنصاره الكونجرس الأمريكي في ٦ يناير الماضي، ووقف إجراءات تصديقه على نتائج المجمع الانتخابي بفوز "جو بايدن" في تلك الانتخابات. وقد أشارت الوثيقة إلى العمل على استعادة الثقة في الديمقراطية الأمريكية باعتبارها السبيل الوحيد لتحقيق الازدهار والسلام والحرية، وإثبات أن النموذج الديمقراطي للولايات المتحدة "ليس من مخلّفات التاريخ"، وأنه لا يزال قادرًا على تقديم العديد من الأمور للشعب الأمريكي ولمختلف الدول حول جميع مناطق العالم.
5- السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط: عكست وثيقة "بايدن" التحولات في السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط عن تلك التي تبنتها إدارة الرئيس السابق "دونالد ترامب"، ويأتي في مقدمتها التأكيد على الأداة الدبلوماسية للتعامل مع الأزمات بالمنطقة وفي مقدمتها أزمة البرنامج النووي الإيراني، وذلك في سياق الإجراءات والترتيبات الأمريكية للحد من انتشار الأسلحة النووية، وردع إيران من خلال العمل مع الشركاء الإقليميين لمواجهة الدور الإيراني المزعزِع للاستقرار في المنطقة. والعمل على حل النزاعات المسلحة بالمنطقة، ومواجهة الأزمات الإنسانية التي تترتب عليها. وعودة الدور الأمريكي كوسيط لحل الصراع العربي-الإسرائيلي على أساس حل الدولتين.
وعلى الرغم من الاختلاف بين مقاربات الإدارة الديمقراطية للتعامل مع التحديات الدولية والتي انعكست في وثيقة "التوجيه الاستراتيجي المؤقت لاستراتيجية الأمن القومي" عن توجهات الإدارة الجمهورية السابقة والتي عبرت عنها استراتيجيتها للأمن القومي في ديسمبر ٢٠١٧؛ إلا أنّ هناك اتفاقًا على عودة سياسات "منافسة القوى العظمى"، والحديث عن قوتين منافستين للولايات المتحدة (روسيا والصين)، وأنهما قوتان تعديليتان في النظام الدولي تسعيان لتشكيل نظام دولي جديد يتعارض مع المصالح والقيم والثروة الأمريكية، ومساعيهما لإزاحة واشنطن من مناطق نفوذها وقيادتها للنظام الدولي، ونشر ملامح نظامهما الاستبدادي وعملهما على توسيع نفوذهما على حساب سيادة الدول الأخرى.
خلاصة القول، عكست وثيقة "التوجيه الاستراتيجي المؤقت لاستراتيجية الأمن القومي"، التي تحدد الخطوط العريضة لكيفية تعامل مؤسسات صنع القرار مع التحديات الخارجية التي تواجهها الولايات المتحدة بعد أربع سنوات من حكم الرئيس السابق "دونالد ترامب" التي مثلت قطيعة مع سياسات أمريكية ترجع لسبعة عقود، والتي هددت القيادة الأمريكية للنظام الدولي؛ التحول في المقاربة من "أمريكا أولًا" إلى "القيادة الأمريكية مجددًا"، وعودة واشنطن إلى الانخراط في الشؤون الدولية والمؤسسات متعددة الأطراف، وإعادة تشكيل التحالفات والشراكات الأمريكية التي تعد أحد مصادر القوة الأمريكية، وأخيرًا أن فاعلية الدور الأمريكي خارجيًا تنبع من الداخل، ولذا كان هناك تأكيد بالوثيقة على ضرورة إعادة بناء الداخل الأمريكي.