بعد فترة من الصمت الرسمي حول الأنباء المتواترة عن انسحاب القوات التركية من نقطة مورك شمال حماة، نفت وزارتا الدفاع والخارجية التركيتان صحة تلك الأنباء. إلا أن عملية الانسحاب، التي وثقها إعلاميون محليون ومراقبون من ثلاث نقاط تالية بالتتابع (شير مغار بجبل شحشبو جنوب غربى إدلب، والصرمان جنوب شرقى إدلب، وتل طوقان شرقى إدلب)، شككت في الرد التركي، لكنها زادت من جانب آخر من غموض ما تجري صياغته من ترتيبات بين موسكو وأنقرة، خاصة في ظل تراجع مستوى العلاقات بين الطرفين، بسبب الاشتباك في العديد من الملفات التي تتجاوز الساحة السورية ويصعب الفصل بينها، الأمر الذي وسَّع هامش التكهنات بشأن مصير التفاهمات المشتركة بينهما في سوريا ومقاصدها.
اعتبارات عديدة:
بحسب خريطة الانتشار التركي في إطار تفاهمات سوتشي وتحت سقف مسار "آستانة" الخاص بنقاط خفض التصعيد، تمركزت تركيا في حوالي 12 نقطة عسكرية في المناطق الخاضعة للنظام كان من المفترض أن تنسحب منها بحلول أكتوبر 2020. لكن بالنظر إلى اتجاهات الانسحاب من على جانبى الطريق الدولي، وباتجاه منطقة جبل الزاوية وتحديداً عند قرية قوقفين الاستراتيجية وفقاً لتقارير مختلفة، يمكن طرح تفسيرات عديدة لما تتخذه تركيا من خطوات، تتمثل في:
1- كانت تلك المناطق، واقعياً، مهددة عسكرياً من جانب قوات الجيش السوري الذي يسيطر على تلك المناطق، ويقطع الطريق على نقاط إمدادها التي بدت كجزر منعزلة عن محيطها، وبالتالي لم يكن بمقدور تركيا تأمينها على الدوام، كما أنها لم تكن تمثل قيمة في التوازن العسكري بقدر ما شكلت عبئاً عليها. 2- نُفِذت عملية خروج القوات التركية بالتنسيق مع الشرطة العسكرية الروسية وبشكل متسارع للحيلولة دون حدوث احتكاك بين الطرفين السوري والتركي، وهو ما يرجح أن الأمر تم في سياق تفاهمات مشتركة بين الجانبين على عملية الإخلاء.
3- بالتزامن مع عملية الانسحاب، أعلنت روسيا عن دعوتها لعقد مؤتمر دولي لإعادة اللاجئين وعملية إعادة الإعمار، وبالتالي تسعى موسكو إلى توظيف عملية الانسحاب في إطار تحسين صورة النظام الذي يمكن، في رؤيتها، أن يقبل بعودة اللاجئين تحت مظلته في ضوء وجود القوات الروسية، وليس تحت تأمين وحماية تركية في مناطق المعارضة، بما يعني تفكيك هذه الصورة.
لكن على الجانب الآخر، لم تكشف تركيا عن موقفها من الدعوة الروسية، في حين أنها أكثر الأطراف المعنية بها، حيث تستضيف، حسب التقديرات، نحو 3.7 مليون لاجيء سوري. وتشير اتجاهات عديدة إلى أن اللاجئين هم من سيدفعون ثمن هذه التطورات في ظل صعوبة عودتهم إلى مناطق يسيطر عليها النظام. إلا أن تركيا ما زالت تروج إلى أنها لا تستطيع تحمل أعباء استمرار هذا العدد الهائل من اللاجئين. كما أنه سيكون من الصعوبة تأمين إعادتهم إلى سوريا إلا في حالة استقطاع مناطق من ميليشيا "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) على نحو ما جرى في السابق، وتحديداً في 20 أكتوبر الفائت، عندما انسحبت قوات "قسد" من مناطق في ريف القامشلي على تخوم تركيا. لكن لا يمكن لهذه المناطق استيعاب كم كبير من اللاجئين وفق المساعي الروسية.
سيناريوهات محتملة:
تطرح هذه التفسيرات ثلاثة سيناريوهات محتملة وإن كان يحيط بها الغموض في المرحلة الحالية، لاسيما في ظل غياب التصريحات أو البيانات الرسمية من أى طرف: يتمثل السيناريو الأول، في الوصول إلى تفاهمات تركية – روسية تهدف إلى تنفيذ عملية إعادة تموضع في مناطق أكثر أهمية لأنقرة في الشمال. ويدعم هذا السيناريو الإشارة إلى أنه ستجري عملية جديدة لصياغة ترتيبات شاملة ليس فقط بالنسبة للتواجد التركي في مناطق إدلب وحماة، ولكن أيضاً بالنسبة للقوات الروسية في السويداء ودرعا جنوباً، ونقاط إيرانية في شرق الفرات.
كما أن الإبقاء على نقاط عسكرية ضعف النقاط التي تم الانسحاب منها ربما يشير إلى أن عملية الانسحاب ستتم على مراحل لاختبار ما ستفضي إليه تلك التفاهمات، لا سيما أنه قد يتم توظيفها كأوراق للضغط على روسيا والنظام في المستقبل، حيث من الصعب تصور انسحاب كامل للقوات التركية من مواقع النظام بدون التوصل إلى صفقة متكاملة حول مصير المعارضة الموالية لها من جهة وخطوط الانتشار الخاصة بالقوات السورية على مواقع متقدمة في تلك المناطق من جهة أخرى.
وينصرف السيناريو الثاني، إلى التصعيد العسكري، وإن كان هذا السيناريو هو الأقل ترجيحاً، لكنه يظل قائماً في ظل غموض الموقف حول باقي المناطق ووضع قوات المعارضة السورية في تلك المواقع، فضلاً عن أن عملية إعادة ترتيب الانتشار ستتم من خلال تمركزات أقل لكن أقوى على مستوى التعزيزات الهجومية والتحصينات، لاسيما وأنه لم يتم أيضاً الإعلان عن خطة بديلة لاتفاق سوتشي، خاصة وأن خبرة الطرفين الروسي – التركي تكشف أن الاتفاقيات يتبعها اتفاقيات وليس مجرد تفاهمات، كما أن أنقرة لا تريد أن تمنح النظام السوري هامشاً للتحرك في مناطق نفوذها وسيطرتها بدون مقابل، وإنما تسعى إلى التخلص من يمكن تسميته بـ"الخاصرة الرخوة" التي تضعفها طبيعة انتشار القوات النظامية التركية، في الوقت الذي تعزز فيه تواجدها العسكري في إدلب بإمدادات إضافية على عكس ما كان متفقاً عليه في اتفاق سوتشي، حيث تتضمن عملية خفض التصعيد أيضاً خفض مستوى القدرات العسكرية.
ويجمع السيناريو الثالث، بين السيناريوهين السابقين، إذ قد تكون هناك تفاهمات ناضجة بين الطرفين لكنها لا تزال في مرحلة الاختبار ولم ترق إلى مستوى الاتفاق، وقد بدأت في مارس 2020 وفقاً للمبعوث الروسي الخاص إلى سوريا ألكسندر يفيموف، وهو ما يؤكد على عملية الانسحاب من جهة، ووجود تفاهم روسي – تركي من جهة أخرى، لكن كل طرف يريد الاحتفاظ بأوراق القوة مقابل الطرف الآخر، بحيث يمكن لتركيا، في حال إبداء شكوك في تلك التفاهمات، الاستدارة مرة أخرى إلى تلك الجبهة التي انسحبت منها، خاصة وأنها أنكرت عملية الانسحاب موحية بأنها بصدد عملية إعادة انتشار لقواتها.
تأثيران رئيسيان:
وإلى أن تتضح تلك السيناريوهات، من المتصور أن هذه التحركات ستفرض تأثيرين رئيسيين هما:
1- تعزيز موقف النظام السوري، الذي يفرض سيطرة على المناطق شرق خط M5، لكنها سيطرة لم تغير بشكل فارق في موازين القوى العسكرية، مع اتجاه أنقرة إلى التوغل أكثر من ذلك في عمق إدلب بالنظر إلى السياج الكبير الذي تفرضه نقاط التمركز العسكري التركية غرب هذا الخط، والتي تُطوِّق إدلب وتصل إلى 50 نقطة انتشار تقريباً، وتسمى بمنطقة الممر الآمن. ومع استخدام آليات هجومية جديدة كالطائرات من دون طيار بشكل مكثف، فقد يتم توظيف هذا المتغير لاحقاً لصالحها، خاصة أن أحد أهدافها يكمن في الابتعاد عن خطوط سيطرة النظام إلى خطوط أفضل دفاعياً وهجومياً.
2- التأثير على مستقبل العلاقات التركية- الروسية، خاصة وأن تركيا، على الأقل في المرحلة الراهنة، لا تسعى إلى مجرد ترتيبات حدودية خاصة بالملف الكردي وإنما لا يزال لديها قائمة من الأهداف الأخرى وبالتالي لن تقدم تنازلات مجانية لصالح أى طرف. ومن جانب آخر، فإنه حتى وإن كانت عملية الانسحاب ستوظف شكلياً في إطار اتفاق سوتشي الذي لم تلتزم أنقرة بمقرراته، إلا أن السياق الحالي لم يبن على هذا الأساس، حيث تجد تركيا نفسها مضطرة للتماهي معه كونها الطرف الأضعف في هذه المعادلة ولم تتمكن من إزاحة القوات السورية المدعومة روسياً.
إجمالاً، من المتصور أن هناك ملامح لترتيبات جديدة تتعلق بطبيعة الانتشار العسكري الشامل في سوريا من قبل كافة الأطراف، لاسيما في إطار المحور الروسي – التركي – الإيراني. ورغم أنها تبدو غامضة إلى حد كبير، إلا أنها ليست مستبعدة في سياق نمط إدارة هذا المحور لصفقات من هذا النوع بشكل دائم. ويعني ذلك في النهاية أن الخطوات التركية الأخيرة بالانسحاب من النقاط الأربعة تعتبر، على الأرجح، خطوات تكتيكية تسعى أنقرة إلى تحويلها من نقطة ضعف لها إلى نقطة قوة سواء في المسار السياسي أو العسكري، لكن المؤكد أنها ليست نقلة استراتيجية في الملف بشكل عام.