اتسع نطاق الخلافات بين القوى والأطراف السياسية اللبنانية خلال الآونة الأخيرة حول ملف عودة المغتربين في إطار الإجراءات التي تتخذها حكومة حسّان دياب لاحتواء تمدد فيروس "كورونا" في الداخل. إذ شنت حركة أمل حملة انتقادات ضد الحكومة على خلفية اتهامها بالتأخر في حسم عودة المغتربين من الدول التي انتشر فيها الفيروس، على نحو لا يمكن فصله سواء عن محاولاتها الضغط على دياب والتيار العوني اللذين يعملان، في رؤيتها، على تهميش نفوذها حكومياً، أو عن الصراع بين المؤسسات الدستورية، ومحاولة الحركة تحسين صورتها أمام الرأى العام في ظل الإخفاق الحكومي، إضافة إلى الاتجاه نحو استقطاب أصوات المغتربين في الانتخابات النيابية المقبلة.
ويبدو أن إدراك العونيين ودياب وحزب الله لخطورة ذلك التصعيد، دفعهم إلى التحرك من أجل التهدئة، حيث كان الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله حريصاً، في كلمته التي ألقاها في 28 مارس الفائت، على دعم الحكومة، بالتوازي مع مساعيه لتسوية الخلاف حول هذا الملف. وربما تطرح تلك التطورات في مجملها دلالات عديدة يتمثل أبرزها في تزايد احتمالات اتجاه حركة أمل إلى تبني دور المعارضة في الحكومة، على نحو سيثير العديد من الخلافات التي قد تهدد تماسك قوى تيار "8 آذار".
حملة مستمرة:
اكتسب ملف عودة المغتربين أهمية وزخماً خاصاً على الساحة الداخلية اللبنانية خلال الفترة الأخيرة، خاصة بعد أن أدلى وزير الصحة اللبناني حمد حسن بتصريحات، في أول إبريل الجاري، بدا من خلالها أنه حريص على توجيه تحذيرات من أن لبنان قد تشهد تصاعداً في مستوى انتشار الفيروس في الفترة القادمة. إذ قال في هذا السياق أن "لبنان ستدخل يوم الأحد القادم مرحلة جديدة مع بدء عودة المغتربين وهو تحدٍ جديد ويجب أن ننتبه إلى الإجراءات"، مشيراً إلى أن "لبنان ما زالت في عين العاصفة ودائرة الخطر والانزلاق سريع إن لم نعرف كيف ندير المعركة ضد فيروس كورونا".
وربما لا ينفصل ذلك عن الجدل الذي تصاعد خلال الأيام الأخيرة بسبب التباين في التعامل مع هذا الملف. إذ كان زعيم حركة أمل رئيس مجلس النواب نبيه بري قد وجه انتقادات للحكومة بسبب تأخرها في إجلاء اللبنانيين العالقين في دول موبوءة بفيروس "كورونا"، حيث دعا، في 27 مارس الفائت، الحكومة إلى عقد جلسة استثنائية من أجل إعادة النظر بقضية المغتربين الذين يواجهون خطر الوباء في أماكن انتشارهم، مستنكراً موقف الحكومة في هذا السياق.
كما هدد بري بتعليق تمثيل حركة أمل في الحكومة، وهو ما جاء رداً على مواقف الأخيرة التي أوضحها رئيسها حسّان دياب، الذي شدد على مفهوم "العودة الآمنة" للمغتربين، عبر وضع آلية مناسبة لذلك من خلال إجراء الفحوصات اللازمة عندما تتوافر الأجهزة المطلوبة لذلك.
ومن هنا، أشارت اتجاهات عديدة إلى أن هذا الخلاف كان من الممكن أن يتسبب في إسقاط الحكومة ويهدد تماسكها، خاصة أنه توازى مع خلاف آخر حول ملف التعيينات بعد تهديد رئيس تيار المردة سليمان فرنجية بتعليق تمثيله في الحكومة في حالة ما إذا لم يتم تعيين اثنين من حصته في التعيينات التي ستعلن في 2 إبريل الجاري.
وقد توصلت الحكومة في النهاية إلى آلية لتسوية هذا الخلاف، حيث أقرت في اجتماعها في 31 مارس الفائت، آلية لإعادة المغتربين بداية من 5 من الشهر الحالي، وهو ما يفسر أسباب التحذيرات التي أطلقها وزير الصحة في هذا التوقيت تحديداً.
أسباب متعددة:
يمكن تفسير اتجاه حركة أمل إلى التصعيد ضد الحكومة في ضوء اعتبارات عديدة، يتمثل أهمها في:
1- الضغط على حسّان دياب، وذلك في إطار إبداء الحركة رفضها للسياسة التي تتبناها الحكومة في التعامل مع الملفات المختلفة.
2- الخلاف مع التيار الوطني الحر، وهو الأمر الذي زادت حدته في الفترة الماضية نتيجة اتساع مساحة التباين حول بعض الملفات، مثل ملف الكهرباء الذي يرفض بري نهج التيار العوني في إدارته.
3- تفعيل دور الحركة، خاصة أنها باتت ترى أن حكومة دياب تتبنى سياسات تتناقض مع توجهاتها، بما يعني أن التصعيد يمثل محاولة من جانبها لتقليص نفوذ التيار العوني داخل الحكومة، والذي تتهمه بالسعى لتقويض دورها.
4- تحسين الصورة، وذلك في ظل عدم تحقيق نتائج بارزة في إدارة الملف الاقتصادي (خاصة بعد إعلان التعثر وعدم سداد ديون الدولة)، مما يقوّض من فرص نجاحها، وفي هذا الصدد يرغب نبيه بري في تصدر مشهد "الرافض" للأداء الحكومي أمام الشارع، تحسيناً لصورته في حالة عدم نجاحها أو تصدعها داخلياً.
5- استقطاب الأصوات الانتخابية، من خلال ضمان أصوات المغتربين في الخارج في الانتخابات النيابية المقبلة، حيث أتاح قانون النسبية الجديد للبنانيين المقيمين في الخارج فرصة ممارسة حقهم في الاقتراع في الانتخابات النيابية 2018 من دون الحاجة إلى الانتقال إلى لبنان، وبالتالي يريد بري الحصول على تلك الأصوات التي قد تحدث فارقاً في زيادة نفوذه في مجلس النواب.
مساعي التهدئة:
كان لافتاً بعد موجة الهجوم التي شنتها حركة أمل، صدور مواقف ساعية للتهدئة من قبل القوى التي استهدفتها الحركة، حيث تم الاتفاق على عقد جلسة حكومية في 31 مارس (المهلة التي حددتها الحركة لحسم ملف المغتربين)، للبحث في كيفية إعادة المغتربين ضمن ضوابط صحية، بالتوازي مع إعلان رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل دعم موقف بري حول ضرورة إعادة المغتربين بهدف المهادنة معه. وبالفعل اتخذت الحكومة في جلستها قراراً بالبدء في إعادة المغتربين بداية من 5 إبريل الحالي.
وفي السياق نفسه، اتجه حزب الله إلى محاولة تقليص حدة التنافر بين حركة أمل ورئيس الحكومة والتيار العوني، وهو ما أكده ممثل الحزب في الحكومة وزير الصناعة عماد حب الله، الذي صرح بأن "القرار في الحكومة مُتخذ لإعادة اللبنانيين العالقين في الخارج، مع أخذ الحكومة بالاعتبار أن عودتهم تتطلب المزيد من الاحتياطات، والتأكيد على أن العودة ستكون بأسرع وقت ممكن، وأن من واجبات الحكومة المحافظة عليهم والاهتمام بهم وإعادتهم".
لكن ذلك لا ينفي أن هناك أزمة داخلية في الحكومة بسبب نهج التيار العوني الساعي، في رؤية بعض القوى، للسيطرة على السلطة، وهو ما انعكس في موقف رئيس تيار المردة سليمان فرنجية من ملف التعيينات في مؤسسات الدولة، حيث أشار إلى أنه يتم استغلال انتشار فيروس "كورونا" لتهريب التعيينات وتمرير الصفقات، وهو ما دعمه بري الذي آثر الانضمام لموقف فرنجية لتشكيل كتلة ضغط قد ينتج عنها تراجع في مواقف التيار العوني، وبما يضمن تدخل حزب الله للوصول إلى تهدئة تسفر عن تحقيق مطالب المعارضة الداخلية في الحكومة.
ومن هنا، يبدو أن حركة أمل اختارت ساحة الحكومة لتعزيز نفوذها، وذلك بعد إخفاقها في فرض أجندتها في عدد من الملفات، وهو ما يرتبط بشكل كبير بمحاولاتها تحقيق مصالحها السياسية وتحسين صورتها في ظل الفشل الحكومي في إدارة العديد من الأزمات، الأمر الذي يشير إلى أن تصعيد نبيه بري ضد حكومة دياب لن يكون الأخير خلال الفترة المقبلة.