الإنسان يفهم العالم من خلال مفاهيم صنعها ليحدد لنفسه ولتعامله مع الآخرين معاني يستطيع البناء عليها وتطويرها عبر التحليل والتركيب وعبر النقد والنقد المضاد، وغالباً لا تتطور هذه المفاهيم إلا بفعل حدثٍ كبيرٍ ومؤثرٍ أو اختراقٍ علميٍ يغير معادلات العلم.
لطالما تمّ تقديم الديمقراطية على أنها النموذج الأمثل للدول والمجتمعات دون أي اعتبارٍ للمعطيات المؤثرة والمختلفة بين شعبٍ وشعبٍ، بين سياقٍ حضاريٍ وسياقٍ حضاري آخر، ويتناقل الكثيرون قول تشرشل: «الديمقراطية نظام سيء ولكنه الأفضل من بين خيارات كلها سيئة» باعتباره قولاً نهائياً وغير قابل للمراجعة، وهذا بكل بساطة كلام لا يمت للعلم بصلة.
جائحة «كورونا» تثير ضمن ما تثير أحقية مراجعة مثل هذه المقولات المطلقة، والتي لم يحتج الباحثون إلى مراجعتها لعقودٍ باعتبارها المعتمدة في الدول الغربية المتقدمة، وهي تتكئ على سندٍ أخلاقي إنساني قويٍ، ولكن ما يوجب إعادة التفكير هو الحدث الدولي الضخم، جراء آثار فيروس كورونا، بحيث أصبح الإنسان حراً في أوروبا ولكنه يموت بسبب فشل النظام الصحي، وبسبب ضعف الدولة الغربية أمام منظمات حقوقية وإنسانية وجامعاتٍ ومفكرين وتيارات فكرية وسياسية ظلت تسعى لعقودٍ من أجل إضعاف الدولة.
كيف يمكن تحديد الحدّ الفاصل بين حياة الإنسان وصحته وبين حريته وحقوقه؟ كيف يمكن إعادة ترتيب الأولويات لدى الإنسان عندما تكون الحياة على المحك؟ أيهما أنفع للإنسان أن ينتقص شيء من حريته مقابل صحته وحياته أم أن تكون حريته بلا قيدٍ أو شرطٍ وإنْ تعرضت حياته للخطر؟ هذه أسئلة يطرحها فيروس كورونا على كل طاولات العالم.
ليس شرطاً أن تكون خيارات الإنسان حديةً إلى هذه الدرجة، فثمة مساحات للتوفيق بين الحياة والحرية، ولكن الأزمات الكبرى قد تدفع الإنسان إلى اختيارات لم تكن مطروحة في رغد العيش والحياة الهانئة، ولا شك أن التفكير في هذه العلاقة بين الأمرين واختبار المساحات للتوفيق بينهما سيكون موضوعاً جديراً بالبحث والتأمل في المستقبل القريب والبعيد.
جادل كثير من الفلاسفة والمفكرين في كون المفهوم الغربي للحرية المطلقة والنموذج الديمقراطي المنجز والنهائي يحتاج إلى الكثير من المراجعة، وقد كانت «مدام رولان» تقول إبان الثورة الفرنسية: «أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك» وكان جان جاك روسو يقول: «إن الحرية هي الخضوع للقوانين».
قيمة الدولة ودورها كانا محلّ إضعافٍ وتنظير فلسفي وتطبيق عملي وبخاصة في الدول الأوروبية على مدى عقودٍ، ووربما كان هذا صحيحاً في زمن الاستقرار والازدهار ولكن إعادة التفكير تصبح واجبةً حين تأتي أزمةٌ تهدد البشرية بالموت والفناء.
العدل هو غاية الإنسان، والدولة والديموقراطية شكل من أشكال تحقيق العدل، والعدل أصلٌ والديموقراطية فرعٌ، ويحلو لمتكلمي المسلمين وأئمة أصول الفقه القول بأن «الفرع لا يرجع على إبطال أصله» والديموقراطية حين تكون مانعاً من تحقيق العدل تبطل.
ليس المراد بهذا السياق التعمق في تفاصيل غير مهمة بل المراد به إثارة أسئلة مستحقة والتشكيك في مفاهيم كانت تقدم كمسلمات غير قابلة للنقاش وقد جاءت اللحظة المناسبة للتعمق أكثر في مثل هذه الأسئلة التي أصبحت ملحةً وتحتاج إلى جدلٍ واسعٍ ونقاشٍ عريضٍ، أقلّه في الجامعات وحواضن العلم للخروج بأجوبة جديدةٍ تمنح آفاقاً جديدةً للتفكير وبناء المفاهيم.
أخيراً، فعلاقة الدولة بالفرد، وأولويات كلٍ منهما، واحتياج كلّ طرفٍ للآخر ستظل على الدوام محل تفكير وتنظيرٍ، وكل من يزعم أنها مقولاتٌ منتهيةٌ ولا تحتاج نقاشاً لا يدرك أساسيات العلم.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد