تواجه شركات النفط الصخري الأمريكية مأزقًا شديدًا بعدما هبطت أسعار النفط العالمية إلى حوالي النصف عقب تعثر تحالف "أوبك+"، في 6 مارس الجاري، في التوصل لاتفاق لخفض إمدادات النفط العالمية نتيجة اعتراض روسيا على مقترح خفض الإنتاج بنحو 1.5 مليون برميل يوميًّا إضافية. وليس بمقدور الكثير من شركات النفط الصخري الأمريكية العمل بربحية عند مستوى أسعار قدره 35 دولارًا للبرميل، وهو ما سيضطرها في ظل المستويات المتدنية الراهنة على الأرجح لتقليص النفقات الرأسمالية والوظائف للتكيف مع الوضع الجديد، ناهيك عن احتمالية إعادة جدولة ديونها المتراكمة عليها مع المقرضين. وليس من المستبعد أيضًا أن يُضطر منتجو النفط الصخري الصغار لإعلان الإفلاس إن استمر المنحنى الهبوطي لأسعار الخام حتى نهاية العام كما هو متوقّع.
تعثراتفاق "أوبك+":
تعرّضت سوق النفط لصدمة واسعة مع فشل تحالف "أوبك+"، الذي يضم أعضاء أوبك وعددًا من المنتجين المستقلين وعلى رأسهم روسيا، في التوصل لاتفاق لتعميق خفض الإنتاج للتعامل مع تداعيات تفشي فيروس كورونا على الطلب العالمي للنفط الخام. ودار خلاف بين أطراف التحالف حول ما إذا كانت هذه الخطوة فعالة على نحو سوف يؤدي إلى استقرار أسواق النفط.
وقد اعترضت روسيا على تعميق خفض إمدادات النفط الخام بنحو 1.5 مليون برميل إضافية، وهو ما كان سيجعل مجموع الخفض 3.6 ملايين برميل يوميًّا، وهي خطوة ربما تعتبرها موسكو ستصب في صالح منتجي النفط في الولايات المتحدة الذين زادوا من حصتهم السوقية العالمية بنحو 4 ملايين برميل منذ عام 2016، ناهيك عن تشديد الإدارة الأمريكية العقوبات الاقتصادية على مشاريع النفط والغاز الروسي.
وما كان من السعودية وغيرها من أعضاء أوبك عقب فشل اتفاق "أوبك+"، إلا أن عدلوا خططهم للإنتاج وقرروا زيادات غير مسبوقة في الإمدادات بدايةً من شهر أبريل المقبل. فالسعودية بصدد زيادة إنتاجها من النفط الخام إلى نحو 12.3 مليون برميل يوميًّا، أي بأكثر من مليوني برميل من مستويات شهري يناير وفبراير الماضيين، وعزّزت هذا التحرك بتخفيض أسعار تسليم الخام بين 3-13 دولارًا لأسواق آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية.
وفي ضوء ذلك، من المتوقع أن تشهد سوق النفط فائضًا قياسيًّا يقدر بنحو ستة ملايين برميل يوميًّا بحلول أبريل -بحسب "جولدمان ساكس"- من شأنه، بالتوازي مع انخفاض الطلب المتوقع على الخام نتيجة تفشي فيروس كورونا، أن يقود أسعار النفط إلى الاستقرار عند مستوى يتراوح بين 20 إلى 30 دولارًا للبرميل في العام الجاري، بحسب توقّعات كثير من المؤسسات.
أزمتا التكاليف والديون:
فقدت أسعارُ خام غرب تكساس الوسيط حوالي 50% من قيمتها، أو ما يعادل 19 دولارًا منذ فشل اتفاق "أوبك+" وحتى الآن لتبلغ 20.37 دولارًا للبرميل بنهاية جلسة 18 مارس الجاري. وهذا المستوى من شأنه أن يربك الأوضاع التشغيلية والمالية لكثير من شركات النفط الصخري في الولايات المتحدة، والتي فقدت أسهمها بالفعل قرابة ثلاثة أرباع قيمتها في الأسبوعين الماضيين.
ومن المعروف أن ضخ النفط من آبار النفط الصخري يتباطأ سريعًا، ومن ثم يقتضي الحفاظ على استقرار الإنتاج ضخ استثمارات كبيرة لزياة مستويات الحفر. ووفقًا لشركة "مورجان ستانلي"، فإن صناعة النفط الصخري الأمريكي تحتاج إلى سعر يبلغ 51 دولارًا للبرميل فقط للوفاء بالتزاماتها المالية وتمويل خططها الاستثمارية.
ويعني ذلك أن كثيرًا من شركات النفط الصخري، باستثناء القليل منها، لا تستطيع الصمود أمام المستويات المتدنية لأسعار النفط الحالية. وطبقًا لشركة "ريستارد إنيرجي، ومقرها أوسلو، هناك نحو 16 شركة نفط صخري بالولايات المتحدة يمكنها العمل بربحية عند مستوى 35 دولارًا للبرميل.
وشركة إكسون موبيل، وهي أكبر منتج للنفط في الولايات المتحدة، واحدة من هذه الشركات التي يمكن أن تحقق ربحًا عند 26.90 دولارًا للبرميل من آبارها في نيو مكسيكو، بينما تعمل شركات أخرى مثل "أوكسدينتال بتروليوم" عند مستوى يزيد على 30 دولارًا للبرميل.
وبالنسبة للشركات السابقة، فإن المشكلة الرئيسية قد تتمثل في مقدار ما تُحققه شركات النفط الصخري من تدفقات نقدية (سيولة) لازمة ليس لمجرد تغطية تكاليف الإنتاج وإنما توزيع أرباح المساهمين، وسداد الديون، بالإضافة إلى تمويل خططها الاستثمارية الحالية.
وعلى هذا النحو أيضًا، يُذكر أن شركات النفط الصخري الأمريكي لديها أعباء ديون كبيرة في الأجلين القصير والطويل. ووفقًا لوكالة التصنيف الائتماني "موديز"، فإن منتجي النفط والغاز في أمريكا الشمالية، بمن فيهم بالسوق الأمريكية، لديهم ديون مستحقة بــ85 مليار دولار حتى عام 2024، منها 5.3 مليارات دولار مستحقة هذا العام، بينما هناك جزء كبير يُقدر بــ25.7 مليار دولار واجبة السداد في عام 2022.
الخيارات المحتملة:
يترك انخفاض أسعار النفط شركات النفط الصخري أمام خيارات محدودة للتعامل مع هذه الأزمة، والتي من المحتمل أن يأتي في مقدمتها اتخاذ تدابير سريعة لخفض النفقات الرأسمالية، وتقليص العمالة أو تعليق توزيع أرباح المساهمين بهدف تخفيف الأعباء المالية الواقعة عليها. ومن المتوقع أن تُخفّض شركات النفط الصخري إنفاقها الرأسمالي بنسبة تصل إلى 40% بحسب شركة "كوراس" لأبحاث النفط، كما سيضطر المنتجون لتسريح ما بين 1500 و3000 موظف في خدمات حقول النفط في الشهرين المقبلين، حسب التوقعات.
وفي هذا الصدد، أقر عدد من الشركات الأمريكية مؤخرًا تعديل خططها الاستثمارية لعام 2020، ومنها "أباتشي" التي ستخفض ميزانيتها الرأسمالية بنسبة 37% إلى ما بين مليار دولار -1.2 مليار دولار. كما ستوقف الأخيرة بجانب شركات أخرى -مثل "أوكسيدنتال بتروليوم" و"ديفون إنيريجي" وغيرها- جميع أنشطة الحفر في حوض بيرميان وغيرها من الأحواض ذات التكلفة المرتفعة للإنتاج.
وفي ضوء ما سبق، ربما ينخفض إنتاج النفط الخام الأمريكي بمقدار مليوني برميل يوميًّا من نهاية هذا العام إلى نهاية العام المقبل وعند مستوى 12.7 مليون برميل يوميًّا، وهذا ما سيضع حدًّا أمام طفرة النفط الصخري الأمريكي التي بدأت في عام 2004، وهو ربما ما تصبو موسكو لإحرازه.
ومن المحتمل في ظل الضغوط المالية المحتملة التي تواجهها الشركات، أن يتخلف بعضها عن سداد ديونها المستحقة عليها في العام الجاري، أو أن تضطر لإعادة هيكلة ديونها مع المقرضين في أحسن الأحوال.
غير أن الخيار السابق سيكون مكلّفًا بالنسبة للشركات، وسيدفع وكالات التصنيف الائتماني -على الأرجح- لخفض تقييم سندات مستحقة بمقدار 140 مليار دولار على منتجي النفط الصخري الأمريكي بحسب التقديرات، من الدرجة الاستثمارية إلى درجة السندات الرديئة أو غير المرغوب فيها استثماريًّا. وفي هذه الأحوال أيضًا، ليس مستبعدًا أن يُضطر كثير من المنتجين الصغار لإعلان إفلاسهم قبل نهاية العام.
وفي مسعى حكومي آخر للتعامل مع الأزمة الأخيرة، أقرت الإدارة الأمريكية في الأسبوع الماضي خطة لملء الاحتياطي الاستراتيجي للولايات المتحدة وشراء ما يصل إلى 77 مليون برميل، على أمل خفض المعروض النفطي في السوق؛ إلا أن ذلك لا يبدو كافيًا سوى لإزاحة جزء ضئيل من الفائض العالمي من الخام الذي سيستمر على الأرجح حتى نهاية العام.
وبخلاف الطرح السابق، ربما تنتهز شركات النفط الصخري خطة التحفيز الحكومية المقررة بتريليون دولار لمواجهة وباء كورونا، في طلب المساعدات العاجلة من أجل تفادي الصناعة خسائر واسعة، قد تعرقل طفرة النفط الصخري، وتُفقد الولايات المتحدة حصة سوقية اكتسبتها بصعوبة في الأعوام الماضية، وهذا ما لا يرغب فيه كل من الحكومة أو الشركات.