للمرة الثانية خلال أقل من ثلاثة أشهر تلوح في العراق معالم مواجهة خطيرة بين الولايات المتحدة وإيران، وهي ليست جديدة، بل استمراراً لوضع تشكّل عام 2018 من حدثين: الأول نهاية الحرب لاقتلاع تنظيم «داعش» من مناطق سيطرته في العراق، والثاني إعلان الرئيس دونالد ترامب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي والتمهيد لمسار عقوبات شديدة على إيران. في المرّة السابقة بلغت المواجهة ذروتها باغتيال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني، بُعيد وصوله إلى مطار بغداد. سبق ذلك، أواخر ديسمبر الماضي، إطلاق صواريخ على قاعدة كركوك ومقتل متعاون أميركي، وردٌّ على مواقع داخل العراق وسوريا قُتل فيه عشرات من «كتائب حزب الله» العراقي، إذ اعتُبر الجهة التي أطلقت الصواريخ.
عشية الاغتيال كان قادة «الحشد» وجموع مؤيدة له شاركوا في تظاهرة احتجاج أمام السفارة الأميركية في بغداد، وفي ما بعد قالت واشنطن إن «الحشد» كان ينوي اقتحام السفارة واحتجاز رهائن فيها، كجزء من مخطط كان نسجه سليماني لإرغام أميركا على سحب قواتها ومغادرة العراق. قامت طهران بردّ انتقامي أوليّ على الاغتيال وساد ما يشبه الهدنة بين الطرفين، لكنها تمسّكت بهدفها/ انتقامها الاستراتيجي: «طرد الأميركيين من المنطقة»... ومنذ فرض العقوبات والشروع في سياسة «الضغوط القصوى» الأميركية تحتّمت المواجهة، لكن خياراتها تقلّبت بين المستحيل متمثّلاً بتفادي الصدام المباشر مع أميركا لأنها قد تردّ داخل الأراضي الإيرانية، وبين الممكن الذي يتيح عمليات تُنسب إلى ميليشيات موالية، كما في الاعتداء على منشآت «ارامكو» السعودية، أو الاعتماد على «الوكلاء» أينما كانوا للقيام بهجمات هادفة.
لم يبدُ التحرك متاحاً في سوريا بسبب الوجود الروسي والضربات الإسرائيلية، ولا متاحاً في لبنان نظراً على خطورته على «حزب الله»، لذلك ظل «الخيار العراقي» الأفضل لأن هناك دافعاً لدى ميليشيات «الحشد» (مقتل قائدها العسكري «أبو مهدي المهندس» برفقة سليماني)، ولأن فصائلها الأكثر ولاءً لإيران متحفّزة للثأر، خصوصاً «كتائب حزب الله»، فضلاً عن «النجباء» و«عصائب أهل الحق». يُضاف إلى ذلك أن الكتل الشيعية في البرلمان تمكّنت، بعد يومين على الاغتيال، من استصدار قرار يُلزم الحكومة بطلب انسحاب القوات الأجنبية من العراق. ولم يتمّ تفعيل هذا القرار لأن السنّة والكرد لا يؤيدونه، ولأن وضع الحكومة نفسها لا يؤهلها لتنفيذه، ولأن واشنطن رفضت البحث في الأمر، فيما لوّح الرئيس ترامب بعقوبات اقتصادية وعسكرية على بغداد.
الهجوم الصاروخي على قاعدة التاجي شمالي بغداد كان الثاني والعشرين من نوعه خلال الشهور الماضية، وكان الردّ الأولّ عليه ضد مواقع بين البوكمال والميادين في شرقي سوريا، لكنه استكمل بشكل غير مسبوق داخل العراق، تحديداً ضد «كتائب حزب الله». كان السؤال عما إذا كان الردّ سيشمل هذه المرّة أيضاً «هدفاً إيرانياً» لكن وزير الدفاع الأميركي استبعده عن أولوياته. تزامن الحدث الأخير مع صدور قرار من الكونغرس يمنع الرئيس من شن حرب ضد إيران. لكن الواضح أن واشنطن لا ترغب في الانجرار إلى مواجهة في سنة انتخابية، حتى لو أدّى ذلك إلى إضعاف «سياسة الردع» التي اعتُبر اغتيال سليماني بداية لتطبيقها.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد