يُمثّل انتشار فيروس كورونا أزمة عالمية، تختلف تجارب الدول في التعامل معها وفقًا لعدة اعتبارات تتعلق بمستوى انتشار الفيروس، وطريقة إدارة الحكومات المختلفة للموقف، ومستوى قدرة النظام الصحي العام في كل دولة، ومستوى الاستجابة والتحدي من دولة لأخرى. ومع اختلاف تجارب الدول في التعامل مع أزمة انتشار الفيروس، تمثل الحالة الأمريكية تجربة خاصة في إدارة الأزمة، فرغم كل الإجراءات التي تم اتخاذها على المستويين الفيدرالي والمحلي، وجهود الإدارة ومؤسساتها المختلفة، تحولت أزمة انتشار الفيروس من أزمة صحية إلى سياسية، وصفها البعض بأنها أخطر أزمة تواجه الرئيس "ترامب"، وتتجاوز في حدتها إجراءات العزل التي واجهها الرئيس سابقًا.
انتشار الفيروس:
سُجلت أول حالة لمريض بفيروس كورونا داخل الولايات المتحدة الأمريكية يوم 21 يناير 2020، ومنذ ذلك التاريخ فإن معدل انتشار الفيروس يتسارع بشكل لافت، فحتى صباح يوم الجمعة 13 مارس وصل عدد الإصابات بالفيروس داخل الولايات المتحدة الأمريكية إلى 1.663 مصاب في 46 ولاية أمريكية بالإضافة إلى العاصمة واشنطن، ووفاة 41 حالة من تلك الحالات، وسجلت ولاية واشنطن أعلى معدل إصابة بـ420 حالة، تليها ولاية نيويورك في المرتبة الثانية بـ328 حالة، وكاليفورنيا في المرتبة الثالثة بـ252 حالة، وولاية ماساتشوستس في المرتبة الرابعة بـ108 حالات، وسجلت بقية الولايات معدل إصابات أقل من 100 حالة.
ويبدو واضحًا أن الأرقام في الحالة الأمريكية تتزايد بشكل ملحوظ، فالأرقام الرسمية التي قام "مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها"، بنشرها يوم الخميس 12 مارس، كانت 1.215 حالة، والأرقام التي تم تحديثها ونشرها في المصادر الصحفية صباح يوم الجمعة 13 مارس بلغت 1.663 حالة أمريكية.
وتشير تقارير صحفية أمريكية إلى أن "مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها"، وضع سيناريوهات حول انتشار الفيروس، لتقدير أسوأ هذه السيناريوهات. ووفقًا للإحصائيات والنماذج الحسابية، هناك عدةُ سيناريوهات سيئة لانتشار المرض أمريكيًّا، منها سيناريو من المحتمل فيه أن يصاب ما بين 160 إلى 214 مليون أمريكي، وهذا السيناريو قد يستغرق أشهرًا أو عامًا، ووفقًا لهذا السيناريو، فإن معدل الوفيات قد يكون ما بين 200.000 إلى 1.7 مليون شخص أمريكي. وهناك سيناريو آخر يُحتمل في ضوئه إصابة ما بين 2.4 إلى 21 مليون أمريكي، والوصول إلى هذا السيناريو قد يمثل كارثة، وسيؤدي إلى انهيار النظام الصحي الأمريكي.
الاستجابة الأمريكية:
تميزت التجربة الأمريكية في التعامل مع فيروس كورونا بمستويين من الاستجابة الحكومية، شملت استجابة الحكومة الفيدرالية الأمريكية ممثلة في إدارة الرئيس "ترامب" والكونجرس والخطوات التي تم اتخاذها لإدارة الأزمة، والمستوى الثاني هو مستوى التعامل معها على المستوى المحلي داخل الولايات الأمريكية المختلفة. وفيما يلي لمحة عن أبرز الإجراءات التي اتخاذها في الولايات المتحدة الأمريكية للتعامل مع فيروس كورونا:
1- مجموعة العمل الرئاسية Task Force: قام الرئيس "ترامب" يوم 29 يناير بتشكيل فريق عمل رئاسي لإدارة أزمة فيروس كورونا. وهذا الفريق الذي أُطلق عليه مجموعة العمل يهدف إلى مراقبة واحتواء وتخفيف انتشار الفيروس، وضمان حصول الأمريكيين على معلومات دقيقة حديثة حول الموقف بشأن الفيروس. ويضم الفريق أعضاء يعملون في وكالات الأمن القومي، والأمن الداخلي، والميزانية، ومركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها. وفي بداية تشكيل المجموعة كانت برئاسة وزير الصحة، ولاحقًا مع تصاعد الانتقادات لأداء الإدارة، وتزايد اهتمام الرأي العام بالأزمة، قام الرئيس بتعيين "مايك بنس" (نائب الرئيس) ليرأس المجموعة. والمجموعة في حالة انعقاد دائم، وتعقد اجتماعات مع الرئيس "ترامب"، وتقوم بإقامة مؤتمرات صحفية بشكل مستمر لإطلاع الشعب الأمريكي على تطورات الموقف.
ويلعب "مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها" The Centers for Disease Control and Prevention المعروف اختصارًا بـCDC، الذي يُعد أحد مكونات مجموعة العمل؛ دورًا رئيسيًّا في توجيه المؤسسات الصحية، ووضع الدلائل الإرشادية، ونشر الفرق الطبية والصحية، ودعم وزارة الأمن الداخلي في الرقابة بالمطارات والموانئ، وتحديث المعلومات عن المرض، والتأكد من كفاءة المؤسسات الصحية واستعداداتها.
2- التنسيق على المستويين الفيدرالي والمحلي: فرض انتشار فيروس كورونا على أجهزة ووكالات الحكومة الأمريكية، ضرورة التنسيق المشترك، فجهود مواجهة الأزمة تجري على مستويين، المستوى الفيدرالي الذي تقوده الإدارة الأمريكية، وبشكل خاص مجموعة العمل الرئاسية، وعلى المستوى المحلي في الولايات الأمريكية، حيث تقوم حكومات الولايات بجهودها لمواجهة الأزمة، وتعمل على التنسيق المشترك مع الحكومة الفيدرالية. وفي إطار التنسيق المشترك أيضًا بين المؤسسات الحكومية، تقوم إدارة الرئيس "ترامب" بالتنسيق بشكل مستمر مع الكونجرس لتوفير التمويل الخاص لمواجهة فيروس كورونا، ففي البداية طلبت الإدارة تمويلًا خاصًّا بـ2.5 مليار دولار كتمويل عاجل من الكونجرس، لمواجهة انتشار الفيروس، الأمر الذي دفع الكونجرس إلى إقرار تمويل إضافي بقيمة ما بين 7.5 إلى 8 مليارات دولار لدعم جهود الإدارة.
3- دور أجهزة الأمن: تلعب أجهزة ومؤسسات الأمن الأمريكية دورًا في مواجهة فيروس كورونا باعتباره تهديدًا غير تقليدي يواجه الأمن القومي الأمريكي. وفي هذا الإطار، لعبت أجهزة الأمن دورًا مبكرًا في الإنذار من انتشار الأوبئة، فالتقارير السنوية لمكتب الاستخبارات الوطنية National Intelligence Bureau لتقييم التهديدات العالمية World Threat Assessment لأعوام 2017 و2018 و2019 حذرت من انتشار الأوبئة الصحية. وفي تقرير عام 2019 بشكل خاص حذر المكتب من "أن الولايات المتحدة والعالم سيظلون عرضة لوباء الأنفلونزا القادم أو تفشي مرض معدٍ على نطاق واسع يمكن أن يؤدي إلى معدلات هائلة من الوفيات والعجز، وسيؤثر على الاقتصاد العالمي". من جهة أخرى، أشارت تقارير صحفية إلى أن مكتب الاستخبارات الوطنية، ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، يقومان بجمع المعلومات الاستخباراتية عن انتشار المرض والجوانب المختلفة ذات الصلة به حول أنحاء العالم، خاصة في الصين وإيران والهند. وبالإضافة إلى أدوار الإنذار المبكر، وجمع المعلومات، يتركز جزء من جهود أجهزة الاستخبارات على إطلاع الكونجرس على مستجدات الموقف، فقد قام المسؤولون في أجهزة الاستخبارات بتقديم إحاطة للجنة الاستخبارات في مجلس النواب بتطورات الوضع، وسيقوم المسؤولون بالاستمرار في إطلاع اللجنة على تطورات الموقف.
4- إبلاغ الرأي العام: أحد الجوانب البارزة في التجربة الأمريكية هو الاستمرار في إبلاغ الرأي العام بتطورات الموقف، وهذا الدور تقوم به مجموعة العمل الرئاسية في مؤتمراتها الصحفية المستمرة، وحكومات الولايات المختلفة في المؤتمرات الصحفية التي تعقدها لإطلاع السكان المحليين على تطورات الموقف. ويُضاف إلى المؤتمرات الصحية، تخصيص الحكومة الأمريكية صفحة خاصة على موقع "مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها" لتحديث البيانات والمعلومات بشكل مستمر عن الموقف.
5- إعلان حالة الطوارئ الطبية Health Emergency : أحد الإجراءات الرئيسية التي تم اتخاذها على المستوى المحلي والفيدراليهو إعلان حالة الطوارئ الطبية لمواجهة الفيروس. فقد أعلنت ولايات: واشنطن، ونيويورك، وكاليفورنيا -التي سجلت أعلى معدلات إصابة- حالة الطوارئ، وأيضًا ولايات أخرى مثل: أريزونا، وديلاوير، وفلوريدا، وغيرها من الولايات.
6- الإجراءات الاحترازية: تعددت الإجراءات الاحترازية التي تم اتخاذها في الولايات المتحدة، سواء على المستوى الفيدرالي أو المحلي، وشملت تلك الإجراءات المرتبطة بوضع قيود على السفر. فقد وضعت الإدارة الأمريكية حظر سفر على القادمين من الصين، وأعلنت منع السفر من أوروبا إلى الولايات المتحدة لمدة 30 يوميًّا، وهذا الإجراء الذي أعلنه الرئيس "ترامب"، دفع سلطات الأمن الداخلي إلى إعلان أنه لا يشمل المواطنين الأمريكيين الذين يحملون بطاقات الإقامة الدائمة، ويضاف إلى تلك الإجراءات إجراءات العزل الصحي للمشتبه في إصابتهم من المرض القادمين من الخارج، ووضع قيود مشددة على السفر على متن البواخر السياحية الـCruise.
وأيضًا إغلاق المدارس وإلغاء الأنشطة الثقافية والرياضية، حيث اتخذ العديد من الولايات الأمريكية قرارات بإغلاق وتعليق الدراسة في المدارس والجامعات، والانتقال إلى التعليم عن بعد، وأيضًا إغلاق الأنشطة العامة والتجمعات التي ترتبط بالأنشطة الثقافية والرياضية.
وشمل جزءٌ من الإجراءات الاحترازية الأنشطة المتعلقة بحملات الانتخابات الرئاسية 2020، فقد تم إلغاء بعض الجولات الانتخابية لكل من المرشحين الديمقراطيين "جون بايدن" و"بيرني ساندرز"، قبل جولة الانتخابات التمهيدية في بعض الولايات يوم الثلاثاء 10 مارس. وأيضًا تجري الآن مراجعة الموقف بالنسبة للكثير من الأنشطة العامة والتجمعات المرتبطة بالانتخابات.
7- التعامل مع التداعيات الاقتصادية: على المستوى الفيدرالي تُجري الإدارة الأمريكية حاليًّا مشاورات مع الكونجرس لوضع حزمة تحفيز اقتصادية لمواجهة التداعيات الاقتصادية لانتشار الفيروس خاصة على المواطنين الأمريكيين، وتتضمن هذه الخطة إلغاء الضرائب حتى نهاية العام، وتقدم دعمًا للشركات المتوسطة والصغرى، كما شملت جهودُ التعامل مع التداعيات الاقتصادية اللقاء الذي أجراه الرئيس "ترامب" ومجموعة العمل الرئاسية للتعامل مع فيروس كورونا مع شركات التأمين الطبية، لبحث سبل كيفية تعامل الشركات مع التكاليف الطبية للعلاج من الفيروس، والجوانب ذات الصلة بدورها في مواجهة الفيروس.
8- تسريع جهود اكتشاف لقاح: أحد الجوانب في التجربة الأمريكية لمواجهة فيروس كورونا، يتعلق بالجهود التي تتم لاكتشاف لقاح، سواء على مستوى الشركات الخاصة أو المؤسسات الأكاديمية الأمريكية. ففي هذا الصدد تقوم شركات أمريكية مثل Gilead Sciences، وModerna Therapeutics، وInovio Pharmaceuticals، Regeneron Pharmaceuticals، وVir Biotechnology، بجهود متسارعة لإنتاج لقاح للفيروس، فضلًا عن الجهود التي تقوم بها المؤسسات الأكاديمية، والمختبرات التابعة لمؤسسات الجيش الأمريكي.
أزمة سياسية:
انتشار فيروس كورونا في عام 2020 داخل الولايات المتحدة الأمريكية، يجعل كل الجوانب المرتبطة به، سواء مستوى انتشار المرض، وكيفية الاستجابة له، ذات طبيعة خاصة، فعام 2020 هو عام مهم في الحياة السياسية الأمريكية، ليس لأنه عام الانتخابات الرئاسية، وانتخابات التجديد النصفي للكونجرس، ولكنه أيضًا عام التحدي، فمن جهة يريد الرئيس "ترامب" إعادة انتخابه، وفي المقابل يريد الديمقراطيون والكثير من الأمريكيين المعارضين له إزاحته من البيت الأبيض.
ومن ثمّ مثلت كيفية تعامل الرئيس "ترامب" وإدارته مع انتشار الفيروس جزءًا رئيسيًّا في تقييم أداء الإدارة بشكل عام، ولهذا ينظر لانتشار فيروس كورونا داخل الولايات المتحدة الأمريكية ليس باعتبارها أزمة صحية تتعلق بانتشار فيروس، ولكن أزمة سياسية تتعلق بكيفية التعامل مع تهديد يواجه الأمن القومي. فبرغم الجهود المختلفة التي تقوم بها إدارة الرئيس "ترامب" لإدارة الأزمة، تحولت لتصبح أزمة سياسية للإدارة وليست صحية، وذلك للأسباب التالية:
1- موقف الرئيس: يحاول الرئيس "ترامب" بشكل مستمر التقليل من تأثير فيروس كورونا، ويركز في خطابه السياسي وفي تغريداته المستمرة على تويتر التقليل من خطورة فيروس كورونا ومستوى انتشاره، للدرجة التي يكرر فيها أنه شخصيًّا لا يحتاج للقيام بفحص فيروس كورونا رغم مخالطته مسؤولين أجانب بينهم أشخاص مصابون بالفيروس.
2- نقص إمكانيات فحص الفيروسCoronavirus Testing Capacity: تَرَكَّز جزءٌ رئيسي من الهجوم على أداء الإدارة في التعامل مع فيروس كورونا، على إشكالية نقص المستلزمات الخاصة بإجراء فحوصات Test kit على الأمريكيين لمعرفة مدى إصابتهم بالمرض. فبعض التقديرات تشير إلى أن إجمالي عدد الأمريكيين الذين تم إجراء فحوصات عليهم ما بين 8.000 إلى 10.000 شخص، وهذه الأرقام أقل بكثير من معدل الفحوصات التي يتم إجراؤها في دول أخرى. فكوريا الجنوبية -على سبيل المثال- أجرت فحوصات على 210.000 شخص، بمعدل يقارب 20.000 فحص يوميًّا. وفي بريطانيا تم إجراء فحوصات على 29.700 شخص، بمعدل يقارب 1.000 فحص يومي. وهذا القصور الذي يعد جزءًا رئيسيًّا من الإشكالية التي تواجه الحكومة الأمريكية في التعامل مع انتشار الفيروس، دفع الإدارة للقيام بإجراءات عديدة لمواجهته، سواء من خلال العمل بأقصى سرعة على زيادة الإمكانيات الخاصة بإجراء الفحص، أو تسريع التعاون بين الحكومة والشركات والمعامل الخاصة.
3- الدور الرقابي للكونجرس ووسائل الإعلام: يلعب الكونجرس باعتباره المؤسسة التشريعية دورًا مهمًّا في الرقابة على أداء الإدارة في الأزمة. فحتى الآن عقدت لجنة "الرقابة والإصلاح" بمجلس النواب يوم الأربعاء 11 مارس جلسة استماع لتقييم مدى استعداد الإدارة واستجابتها لفيروس كورونا ووجود قصور في نظام الفحص، أدلى فيها بالشهادة مجموعة رئيسية من الشخصيات المنضمة لمجموعة العمل الرئاسية، بينهم د. أنتوني فوسي، مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، الذي أقر في جلسة الاستماع بوجود بعض التحديات في قدرات النظام الصحي العام لمواجهة فيروس كورونا، منها إشكالية نقص مستلزمات إجراءات الفحص. وبالتوازي مع دور الكونجرس تلعب وسائل الإعلام أيضًا دورًا في الرقابة من خلال تغطيتها المستمرة والناقدة لتعامل الإدارة مع انتشار الفيروس، وبدا واضحًا أن الاتجاه العام في تلك الوسائل يرى أن انتشار فيروس كورونا غيّر حياة الأمريكيين، وأن الوضع الطبيعي الآن New Normal، أن الحياة الأمريكية تغيرت ولم تصبح كما كانت قبل الفيروس.
ختاماً على الرغم كل الإجراءات التي تقوم بها إدارة الرئيس "ترامب" لمواجهة فيروس كورونا، إلا أن الانتشار السريع للفيروس، وتداعياته على الحياة الاقتصادية والحياة العامة للمواطنين الأمريكيين، يحتمل أن يؤثر على الرئيس "ترامب". فقد تزايد الانتقاد لأداء الإدارة، وكذلك الحديث عن وجود قصور في هذا الأداء. ومع احتمالات تزايد انتشار المرض، سيزداد الموقف تعقيدًا أمام الإدارة والرئيس، خاصة وأن تزايد انتشار الفيروس قد يطيح بالنجاحات التي حققها الرئيس "ترامب" على المستوى الاقتصادي خلال السنوات السابقة، الأمر الذي قد يفتح الاحتمالات أمام تأثر فرص إعادة انتخابه مع زيادة وطأة انتشار الفيروس.