بدأت تركيا، في 24 أغسطس 2016، في شن عملية عسكرية في شمال سوريا أطلقت عليها "درع الفرات" بهدف الحد من نفوذ قوات "وحدات حماية الشعب الكردي"، فضلا عن طرد تنظيم "داعش" من المناطق الحدودية، وذلك بالتزامن مع خوض مواجهة عسكرية أخرى ضد مسلحي "حزب العمال الكردستاني" بعد انهيار عملية السلام بين الطرفين.
لكن يبدو أن المواجهة لا تتركز فقط على الجانب العسكري، حيث تسعى تركيا في الوقت ذاته إلى الإسراع في قطع فرص التمويل أمام هذين الفصيلين المسلحين بهدف تقويضهما بصفة نهائية. ولأكثر من عامين، حظي مقاتلو الأكراد – مثل "وحدات حماية الشعب الكردي" و"البيشمركة"- بدعم واسع من قبل المجتمع الدولي بهدف محاربة تنظيم "داعش". وفي المقابل، يبدو أن مسلحي "حزب العمال الكردستاني" أكثر استقلالا من الناحية المالية، إذ يجني أموالا وفيرة من مصادر متعددة على غرار التجارة غير المشروعة والابتزاز وغيرها.
لكن ذلك لا ينفي أن مهمة تركيا لتحجيم الموارد المالية للميليشيات الكردية لا تزال صعبة، وتظل رهنًا بعوامل خارجية أخرى، أهمها تنسيق جهود مكافحة الجريمة غير المنظمة مع الدول المجاورة، علاوة على قطع فرص التمويل القادمة من المجتمع الدولي وهو ما يبدو غير ممكن حاليًّا في ظل التوتر الناشئ مع القوى الدولية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية.
هياكل التمويل
تعتمد الفصائل العسكرية الكردية على مصادر تمويل عديدة، أهمها الدعم المالي الدولي، علاوة على مصادر ذاتية أخرى تضم التجارة غير المشروعة والضرائب والإتاوات. فبالنسبة لقوات "البيشمركة"، فإنها تعتبر، وفقًا للمجتمع الدولي، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، شريكًا ناجحًا في مواجهة "داعش" منذ عام 2014، حيث تمكنت من هزيمة الأخير وطرده من محافظات كركوك ونينوى.
وبشكل رئيسي، تعتمد هذه القوات على الدعم الدولي في عمليات التدريب والتسليح؛ حيث لم تلتزم الحكومة المركزية العراقية بتعهداتها الخاصة بدفع مبلغ 100 مليون دولار شهريًّا للوفاء بأجور قوات "البيشمركة" ضمن الموازنات المالية لعامى 2015 و2016. ويُعتقد أن هذا الإخلال يرجع إلى حظر بغداد صرف أية مستحقات مالية إضافية للإقليم ما لم تتوصل إلى اتفاق نهائي حول تقاسم النفط المُنتَج بالإقليم.
ولتجاوز هذا المأزق، وجهت كلٌّ من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي دعمًا ماليًّا وعسكريًّا خاصًّا لـ"البيشمركة"، وتزايدت وتيرته في عام 2016. وفي هذا السياق، اتفق وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، في غضون أغسطس 2014، على تسليح "البيشمركة" لتتوالى المساعدات المقدمة إليها، لا سيما من بريطانيا وألمانيا.
بدورها أيضًا، قدمت الولايات المتحدة الأمريكية دعمًا نوعيًّا لـ"البيشمركة" عبر مخصصات محددة في الموازنة العسكرية الأمريكية، حيث منح قانون إقرار الدفاع الوطني لعام 2016، الرئيس الأمريكي سلطات واسعة في تسليح "البيشمركة" دون الرجوع للحكومة المركزية العراقية. وبموجب هذا النص التشريعي المرن، وقَّع إقليم كردستان العراق والولايات المتحدة الأمريكية، في يوليو 2016، بروتوكولا للتعاون العسكري بين الجانبين يضمن تقديم الأخيرة مساعدات سياسية وعسكرية ومالية تقدر بـ450 مليون دولار لقوات "البيشمركة" في مواجهة "داعش".
لكن على عكس الاعتماد المفرط على التمويل الخارجي، يبدو "حزب العمال الكردستاني"، المدرج على لائحة وزارة الخارجية الأمريكية للإرهاب منذ عام 1997، أكثر استقلالا من الناحية المالية، إذ يجني أموالا وفيرة من التجارة غير المشروعة والابتزاز والسرقة والتهريب، وقد هيأت الظروف الأمنية المضطربة على الحدود التركية مع سوريا والعراق بيئة خصبة لنمو مصادر تمويله من إنتاج وتهريب المخدرات وغيرها من السلع الأخرى.
وفي هذا الصدد، تكشف تقديرات وزارة الداخلية التركية أن الحزب يجني عائدًا سنويًّا في حدود 1.7 مليار دولار من إنتاج وتهريب المخدرات في جنوب شرق البلاد، لا سيما في محافظة ديار بكر. وكمصادر أخرى، يعتمد التنظيم على جنى الأموال من الابتزاز والسرقة والدعم المقدم من بعض المتعاطفين معه بالخارج لا سيما أوروبا. ونظرًا لأن الدول الأوروبية المجاورة تمثل محورًا رئيسيًّا في شبكة تمويل أنشطته غير المشروعة، علاوة على كونها مصدرًا هامًّا للتبرعات الخارجية؛ تشير تقديرات الشرطة التركية إلى أن حوالي 70% من أنشطة "حزب العمال الكردستاني" التمويلية تأتي من أوروبا.
وبحكم الأمر الواقع، تمثل الروابط الأيديولوجية والفكرية التي تجمع بين "وحدات حماية الشعب الكردي" (الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي) و"حزب العمال الكردستاني"، رافدًا رئيسيًّا لإتاحة تمويل مهم للأولى. ورغم ذلك تحرص قيادات "وحدات حماية الشعب الكردي" على نفى أى روابط مالية تجمع بين الطرفين. وفي هذا الإطار، استبعد ريدور خليل القيادي في "وحدات الحماية" والناطق الرسمي لها، في ديسمبر 2013، أية محاولات للتنسيق المالي بينهما.
وحول مصادر التمويل الأخرى، أشار ريدور أيضًا في تصريحات، خلال العام نفسه، إلى أن الفصيل يجني مبالغ تصل إلى ملايين الدولارات من الجاليات الكردية حول العالم، في الوقت الذي بدأ فيه المجتمع الدولي في دعم وتدريب "وحدات حماية الشعب الكردي" منذ تصعيد هجماته على مواقع تنظيم "داعش" بالعراق وسوريا.
فضلا عن ذلك، فإن "وحدات الحماية" تعتمد في مصادر تمويلها على الضرائب التي تجبيها في المناطق الكردية الرئيسية. ومن دون شك، فإن الامتداد الجغرافي المتسع باستمرار للأكراد بسوريا سمح بسيطرة أكبر على موارد النفط السورية. وحاليًّا يقع ضمن نطاق سيطرة الإدارة الذاتية الكردية أهم الحقول النفطية السورية وهي حقول الحسكة بما فيها رميلان والسويدية وكراتشوك، وحقول الجبسة بما فيها جبسة وجونة وكبيبة وتشرين، وهاتان المنطقتان من المفترض أن تُنتجا حوالي 250 ألف برميل يوميًّا، ولكن نظرًا لعدم الصيانة وعدم كفاية الخبرات الفنية ينتج حاليًّا من هذه المناطق كميات محدودة تتراوح بين 15 و20 ألف برميل يوميًّا.
آليات المواجهة
تُشير تطورات المعارك العسكرية التي تخوضها تركيا ضد الأكراد، لا سيما في إطار عملية "درع الفرات"، إلى تقييد محتمل لمصادر تمويل الأكراد في سوريا وتركيا، وذلك في إطار السياسة التي تتبناها الأخيرة والتي تنقسم إلى شقين يمكن تناولهما على النحو التالي:
1- سياسة مزدوجة (حزب الاتحاد الديمقراطي): تمزج تركيا بين استخدام القوة الخشنة والناعمة من أجل الحد من نفوذ "حزب الاتحاد الديمقراطي" ذي الصلات الوثيقة بـ"حزب العمال الكردستاني". وتحقيقًا لهذه الغاية تحاول تركيا بالتزامن مع عملية "درع الفرات" العسكرية المستمرة حتى الآن، التواصل مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تدعم "وحدات حماية الشعب الكردي" لممارسة ضغوط عليها من أجل التراجع إلى شرق نهر الفرات. بيد أنه ليس مؤكدًا ما إذا كانت الجهود الدبلوماسية والسياسية مع واشنطن ستُكلل بالنجاح، وربما يدفع هذا تركيا إلى مواصلة العمليات العسكرية لتحقيق غايتها بالحد من نفوذ الأكراد في سوريا.
وتدرك تركيا جيدًا أن "وحدات حماية الشعب الكردي" شريك رئيسي للولايات المتحدة الأمريكية، فمع أن الأخيرة أعلنت، في نوفمبر 2015، عن حظر إرسال أسلحة أو مهمات لـ"وحدات حماية الشعب الكردي"، فإنها -وفق دلائل ومؤشرات عديدة- برهنت على عكس ذلك.
وعلى الأرجح، فإن كلا الطرفين - أي الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا- غير مستعدين لتقديم تنازلات رئيسية في هذا الملف، ومن ثمَّ فمن المرجح استمرار دعم واشنطن تجنبًا لخسارة طرف مهم في محاربة "داعش"، كما أن أنقرة ستُعزز عملياتها العسكرية لردع القوات الكردية.
وبالتوازي مع ذلك، تواصل تركيا إقامة جدار إسمنتي في بلدة كاركميش بمحافظة غازي عنتاب على الحدود مع سوريا والمتاخمة لمدينة جرابلس السورية لمنع تسلل الإرهابيين.
وربما تُشكل العمليات العسكرية التي تقوم بها تركيا ضد القوات الكردية خطورة أكبر على مواردها المالية إذا ما استهدفت المنشآت الحيوية التي تشمل النفط بطبيعة الحال، وهو ما قد يهدد طموحها في تصدير النفط عبر ميناء جيهان التركي مرورًا بإقليم كردستان.
هذا في الوقت الذي يستبعد فيه بعض المسئولين الأكراد إمكانية تصدير النفط المنتج نظرًا لتقادم أساليب الإنتاج، والتخوف من الغارات الجوية التي يشنها النظام السوري أيضًا. وفي هذا الصدد صرّح رئيس هيئة الطاقة في مقاطعة الجزيرة سليمان خلف بأن "أى عملية بيع نفط من جانب الإدارة الذاتية إلى خارج حدود المقاطعة، سواء إلى إقليم كردستان أو تركيا؛ لن تتم إلا بموافقة دولية وموافقة السلطات في العاصمة دمشق".
2- إحكام الحصار (حزب العمال الكردستاني): حاولت الحكومة التركية منذ انهيار عملية السلام مع "حزب العمال الكردستاني" تجفيف منابع تمويله، وهو ما يفسر العمليات الأمنية المستمرة من قبل الجيش والشرطة التركيين، والتي تستهدف بشراسة تهريب وإنتاج المخدرات وخاصة بمحافظة ديار بكر.
ففي أوائل سبتمبر 2016، أعلن رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم مصادرة القوات الأمنية خلال عملياتها في جنوب شرق البلاد 40 طنًّا من المخدرات، وتوقيف 8.561 آلاف شخص لتورطهم في عمليات تجارة المخدرات. كما تُخطط الحكومة لتفكيك الحاضنة الشعبية بمحافظات جنوب شرق البلاد من خلال إقالة رؤساء البلديات المتواطئين مع الحزب، حسب ما أعلن رئيس الوزراء التركي.
وعلى الرغم من هذه الجهود، فإنها لا تزال غير كافية لحصار تمويل الحزب، حيث تشير التضاريس الجبلية لمناطق إنتاج المخدرات إلى صعوبة مهمة قوات الأمن في تدميرها نهائيًّا، علاوة على ذلك فمن الصعوبة تخطي حاجز الحاضنة الشعبية الذي يستمر في تقديم الدعم المالي واللوجستي للحزب، علاوة على صعوبة تفكيك شبكة التمويل المعقدة التي تربط الحزب ببعض الدول الأوروبية.
وعلى عكس السابق، تبدو تهديدات تمويل قوات "البيشمركة" أقل خطورة باستثناء الدعم الإضافي المقدم من قبل الحكومة المركزية العراقية والذي يظل رهنًا بمدى إحراز تقدم في ملف تقاسم الإنتاج النفطي للإقليم.
ويُمكن القول، إنه على الرغم من المعارك التي تخوضها تركيا ضد الميليشيات الكردية، فإن جهودها تظل غير مجدية بالشكل الكافي لقطع مصادر تمويلها لا سيما الخارجية. لكن في الوقت نفسه، يظل التمويل الخارجي أحد نقاط الضعف الرئيسية للميليشيات الكردية مستقبلا خاصة مع تحسن علاقات تركيا بالمجتمع الدولي.