على الرغم من غياب الإحصاءات الدقيقة، الرسمية أو المستقلة، الوطنية أو الدولية، بشأن واقع الجرائم الجنائية في دول الأزمات، إلا أن الصراعات المسلحة أثرت بشكل كبير على تزايد تلك الجرائم، مقارنة بفترات الاستقرار النسبي الداخلي التي شهدتها تلك الدول، وتحديداً قبل تحولات عام 2011. ومن أبرز تلك العوامل التي وفرت سياقات مُحفِّزة لتلك الجرائم تصدع الأجهزة الأمنية، وتزايد أدوار الميلشيات المسلحة، وانتقال العناصر الخطرة عبر الحدود الرخوة، وتصاعد تحالفات جماعات الجريمة المنظمة.
وقد مثّلت الصراعات المسلحة التي تشهدها بعض الدول العربية، وخاصة ليبيا واليمن وسوريا، بيئة خصبة لنمو نشاط الأعمال الإجرامية، سواء التي يرتكبها أفراد أو جماعات، ووفقاً للتقرير السنوي لمؤشر الجريمة العالمي لعام 2019، الذي تصدره موسوعة قاعدة البيانات "نامبيو"، والتي تعتمد على تصويت زوارها، احتلت ليبيا المركز الأول في معدل الجرائم بمنطقة شمال إفريقيا، إلا أن عدداً من المسئولين الأمنيين في الشرق والغرب لم يتفقا بشأن هذه النسب العالية من معدلات الجريمة، معتبرين أن النسبة الأقرب للدقة متوسطة.
أنماط مختلفة:
فعلى سبيل المثال، قال مدير مكتب الإعلام بوزارة الداخلية بالحكومة المؤقتة، الرائد طارق الخراز، في تصريحات لصحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، في 3 فبراير الجاري: "إن الأجهزة الأمنية بالمنطقة الشرقية تعمل بشكل فاعل وجيد، وتوفر الحماية للمواطنين والأجانب على السواء، وإن كان هذا لا يعني انعدام الجريمة بها، فهى كبقية المجتمعات تشهد وقوع جرائم جنائية معتادة من قتل وسرقات ونصب ولكن بمعدل نسبي"، وأضاف: "إن نسبة الجريمة منخفضة بالشرق، ومتوسطة بالجنوب، وما يقرب من 95% من مجموع الجرائم تتم إحالتها للقضاء بعد القبض على المتهمين بارتكابها".
على جانب آخر، وفي الغرب الليبي، وطبقاً للبيانات التي أوضحها الناطق باسم وزارة الداخلية بحكومة الوفاق، العميد مبروك عبدالحفيظ، لصحيفة "الشرق الأوسط"، في اليوم نفسه، فإن تحليلاً للجرائم الخطيرة خلال عام 2019 أظهر أن نسبة الجرائم المرتكبة في مدينة طرابلس الكبرى ذات الكثافة السكانية المرتفعة سجلت 33% من مجموع الجرائم الخطيرة خلال الفترة نفسها، والبالغ عددها إجمالاً 1838 جريمة". وأشارت البيانات إلى تصدر جرائم سرقة السيارات والسرقة بالإكراه نوعية الجرائم بالغرب الليبي، تليها جرائم سرقة المنازل، ثم جرائم القتل العمد، والتي غلب عليها الطابع الإجرامي الفردي، ثم جرائم خطف الأشخاص والبالغ عددها خلال العام الفائت 141 جريمة. كما بلغ عدد المجني عليهم من الإناث 10 فقط، وتلك غلب عليها الطابع الإجرامي الجماعي.
عوامل مترابطة:
من الصعب التوصل إلى تحديد دقيق لمعدلات ارتكاب الجرائم في دول الصراعات العربية، سواء كانت متوسطة أو مرتفعة، بل يمكن القول إن هناك مجموعة من العوامل المترابطة التي تفسر ازدياد الجرائم الجنائية في دول الصراعات المسلحة العربية، يتمثل أبرزها في:
1- تصدع الأجهزة الأمنية: ينصرف العامل الأكثر تفسيراً لازدهار ارتكاب الجرائم الجنائية في دول الصراعات العربية إلى تفكك الدول الوطنية أو انهيار النظم السياسية، وما قادته بالتبعية إلى تصدع أو تعثر الأجهزة الأمنية في القيام بالمهام الموكلة إليها، على نحو دفع بعض الأفراد والجماعات لارتكاب الجرائم المختلفة من السرقة والخطف والقتل وغيرها، دون وجود رادع، سواء بالقبض عليهم أو محاكمتهم أمام هيئات التقاضي. فعلى سبيل، فإن ما ساعد على ارتكاب الجرائم الجنائية في ليبيا، خلال السنوات التسع الماضية، انهيار نظام معمر القذافي وانتشار الفوضى الأمنية وازدياد حدة الصراع، بشقيه السياسي والعسكري، وهو ما سمح بامتلاك وتداول الأسلحة بشكل معلن.
وبناءً عليه، تغيرت نوعية الجرائم داخل المجتمع الليبي، وانتشر نمط السطو المسلح، وانتهت بعض المشاجرات بين الأفراد إلى جريمة قتل أو الشروع فيه. فضلاً عن ذلك، فإن الانشغال بتعقيدات الصراع السياسي والعسكري أدى إلى عدم القدرة على رصد الجرائم الجنائية وتأمين الحدود.
وعلى ضوء ذلك، فإن استعادة الدولة عافيتها في بؤر الصراعات المسلحة سيؤدي إلى تراجع نسب الجرائم الجنائية. وقد صرح رئيس فرع الأمن الجنائي بالحكومة السورية ناصر ديب بأن "نسبة الجريمة انخفضت في سوريا خلال عام 2019 بواقع 50%، نتيجة عودة الكثير من المناطق إلى سيطرة الدولة، وانخفضت جرائم الاغتصاب بنسبة 50%، والخطف بنسبة 48%، في حين تراجعت جرائم تهريب الأسلحة بمعدل 60%"، وفقاً لما نشرته صحيفة "الوطن" السورية في 8 ديسمبر 2019. وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذه النسب قد تتناقض مع ما ينشر بشأن جرائم الخطف والسيطرة بمناطق سيطرة النظام السوري، وخاصة في درعا والسويداء.
2- تزايد أدوار الميلشيات المسلحة: أصبح الفراغ وما يرتبط به من فوضى وصراع هو سيد الموقف في اليوم التالي لما حدث في دول الصراعات، على نحو أدى إلى ظهور ما تطلق عليه بعض الكتابات "المناطق الخارجة عن السيطرة"، نتيجة قيام أطراف وقوى مختلفة بملء فراغات السلطة وتولي مهام الدولة. فقد صارت الميلشيات المسلحة عنصراً رئيسياً في تحولات ما بعد عام 2011 في كل بؤر الصراعات المسلحة العربية.
فعلى سبيل المثال، ارتفع منسوب الجرائم الجنائية في العاصمة اليمنية صنعاء إلى جانب أب وذمار منذ سيطرة الميلشيا الحوثية على السلطة في سبتمبر 2014، والتي تنوعت ما بين القتل برصاص مجهولين وسرقة المنازل والمحلات التجارية والسيارات والدراجات، وهو ما تشير إليه العديد من وسائل الإعلام اليمنية.
ووصل عدد تلك الجرائم، بحسب الأرقام التي أوردتها إحصائية صادرة عن الإدارة العامة لشرطة العاصمة صنعاء، الخاضعة لقبضة الميلشيا، خلال شهرى سبتمبر وأكتوبر 2019، إلى 2300 جريمة، من بينها 720 جريمة سرقة مختلفة منها 26 سرقة سيارات، و163 سرقة منازل، و94 سرقة محلات تجارية، و78 سرقة من على سيارات، و54 سرقة دراجات نارية، و83 سرقة من أشخاص بما فيها حقائب نسائية، و156 سرقة بالإكراه، و647 سرقة أخرى.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن تقارير عديدة تكشف أن الميلشيا تقف وراء تلك الجرائم، حيث تسعى إلى تسجيل "إنجازات أمنية" لها أمام الرأى العام، ومن ثم ابتزاز الضحية أو المجني عليهم ليقوموا بتقديم المكافأة لها حيال جهودها الوهمية التي تم اصطناعها. فالهدف من هذه الخطة هو إظهار سرعة التجاوب الأمني من قبل الميلشيا وإيهام قطاع واسع من اليمنيين بأن عناصرها على قدرٍ عالٍ من الوعى واليقظة والمسئولية والحس الأمني.
كما أن النفوذ الذي تحظى به الميلشيات المسلحة في غرب ليبيا ربما يكون قد ساهم في ارتفاع معدلات الجريمة المنظمة. وكذلك الحال بالنسبة لسوريا، التي تزايدت فيها الجرائم بعد عام 2011، بحيث حلت في المرتبة الأولى عربياً والسادسة عشر عالمياً من حيث انتشار الجريمة وانعدام الأمن، وفقاً للتقرير السنوي لمؤشر الجريمة العالمي لعام 2019.
3- انتقال العناصر الخطرة عبر الحدود الرخوة: ساهمت حالة الحدود السائلة أو غير المسيطر عليها في هذه الدولة العربية أو تلك من قبل الأجهزة الأمنية في قدوم أفراد للعمل فيما يمكن تسميته بـ"اقتصاديات الظل" ويحمل بعضهم سوابق جنائية في بلاده. وقد أشار الرائد طارق الحراز، في تصريحاته السابقة، إلى "ضبط كثير من حاملي الجنسيات المختلفة الذين تبين دخولهم للبلاد بطريقة غير شرعية، وكيف أنه بالرصد والتعقب وُجِد أن 5% من هؤلاء لهم سوابق جنائية، أما الأغلبية فجاءت بحثاً عن لقمة العيش أو تعاملت مع ليبيا كدولة عبور للدول الأوروبية".
4- تصاعد تحالفات جماعات الجريمة المنظمة: يتعلق أحد الأسباب الجوهرية لازدياد الجرائم الجنائية في بؤر الصراعات المسلحة العربية بالتحالفات التي أبرمتها جماعات الإجرام المنظم مع التنظيمات الإرهابية والميلشيات المسلحة، للقيام بعملياتها برعاية أطراف داخلية مستفيدة، وهو ما ساهم في نمو "اقتصاديات الصراعات المسلحة" بالمنطقة العربية بعد أن كانت منتشرة لعقود في الدول الإفريقية. فعلى سبيل المثال، تقود عصابات مسلحة وقيادات حوثية نشر الجريمة في صنعاء بهدف إثارة القلق لدى قاطني العاصمة وتكريس سيطرة الميلشيا عليها.
بيئة قاعدية:
خلاصة القول، إن العوامل السابق ذكرها تشكل بيئة قاعدية مُحفِّزة لارتكاب الجرائم الجنائية، وبصفة خاصة القتل العمد والسطو والسرقة بالإكراه والاغتصاب وغيرها من أشكال الجريمة في بؤر الصراعات المسلحة العربية، على نحو يجعل دولاً مثل ليبيا واليمن وسوريا من أكثر الدول التي تتسم بعدم الأمان وانتشار الإجرام الجنائي مقارنة بغيرها من الدول العربية.