رغم ما لاقته رئاسيات 2019 من تعثر في إجرائها بسبب ضغوطات الحراك الشعبي منذ فبراير 2019؛ إلا أن إصرار الإدارة الانتقالية للبلاد بزعامة الرئيس المؤقت "عبدالقادر بن صالح"، وقيادة أركان الجيش الوطني، على إنجاز مهمة الانتقال السياسي، وسد الشغور السياسي الذي خلفته استقالة الرئيس السابق "عبدالعزيز بوتفليقة" كان حاسمًا في الوصول إلى لحظة إعلان السلطة الوطنية لتنظيم الانتخابات فوزَ المرشح الرئاسي "عبدالمجيد تبون" بانتخابات ديسمبر 2019، وذلك وفق النتائج الأولية التي أُعلن عنها. وقد أفرزت هذه الانتخابات العديد من التحديات التي ستواجه الرئيس المنتخب، ومن أبرزها استعادة ثقة الشارع في مؤسسات الدولة، ومعالجة الأوضاع الاقتصادية، وقيادة عملية الإصلاح السياسي.
نتائج الانتخابات:
عاش الشارع الجزائري لأول مرة منذ الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 1999 ليلة من تضارب النسب والإحصاءات التي حصل عليها المرشحون، وذلك لتحديد ما إذا كانت رئاسيات ديسمبر 2019 بحاجة إلى دورٍ ثانٍ كما أعلنت حملة المرشح "عبدالقادر بن قرينة" أم أنها حُسمت من الجولة الأولى كما أفادت حملة الرئيس المنتخب "عبدالمجيد تبون". وفي هذا السياق، مثَّل إعلان السلطة الوطنية لتنظيم الانتخابات للنتائج الأولية لعملية الفرز حسمًا لهذه الادعاءات؛ حيث أعلن "محمد شرفي" رئيس السلطة الوطنية لتنظيم الانتخابات عن حصول "تبون" على ما يقارب خمسة ملايين من أصوات المقترعين بنسبة 58.15%، وتلاه في الترتيب "بن قرينة" الذي حصل على 17.38% من إجمالي الأصوات.
وقد حاول "تبون" في خطابه الانتخابي استمالة الجماهير، من خلال ورقة مكافحة الفساد، واسترداد الأموال المنهوبة، إضافة إلى توظيف المظلومية السياسية التي تعرض لها من الكارتل المالي لنظام "بوتفليقة" الذي أنهى مهامه كوزير أول بعد 3 أشهر فقط.
ورغم دعم حزب جبهة التحرير الوطني للمرشح "عز الدين ميهوبي"، إلا أنه حصل فقط على 7.26%. وقد يُتوقع تطلع المرشح الإسلامي الخاسر "بن قرينة" إلى دورٍ سياسي أكبر خلال الفترة المقبلة من خلال توسيع قاعدة حركة البناء الوطني التي يتزعمها، مستندًا في ذلك إلى الكتلة التصويتية الكبيرة التي اختارته رغم رفض الأحزاب والحركات الإسلامية دعمه، وعلى رأسهم حركة مجتمع السلم الإسلامية (حمس).
مؤشرات الانقسام:
أفرزت نتائج الانتخابات الجزائرية العديد من الدلالات والمؤشرات التي تُعبّر عن حالة الانقسام التي يعج بها المجتمع الجزائري منذ استقالة "بوتفليقة" مطلع أبريل 2019. وسنحاول فيما يلي الإشارة إلى أبرزها:
1- المشاركة السياسية: رغم تسريع السلطات لإجراءات محاكمة رموز النظام السابق بهدف طمأنة الشارع وضمان مشاركته في الانتخابات، إلا أن ذلك لم يُجدِ كثيرًا؛ حيث بلغت نسبة المشاركة في هذه الانتخابات -وفق النتائج الأولية التي أعلنت عنها السلطة الوطنية لتنظيم الانتخابات- حوالي 40%، وهي النسبة الأدنى على الإطلاق في تاريخ الانتخابات الرئاسية الجزائرية التي بلغت في استحقاق 2014 الرئاسي حوالي 52%، فيما تجاوزت في استحقاق عام 1994 التي فاز بها الرئيس الأسبق "اليامين زروال" (1994-1999) 75% تقريبًا. وتفرض هذه النسبة المتدنية تحديات كبيرة أمام إدارة الرئيس المنتخب "عبدالمجيد تبون" لتجاوز أزمة الشرعية، والخروج بالجزائر من حالة الحراك إلى استقرار المؤسسات وانتظام عملها.
2- ظاهرة إبطال الأصوات: برزت في هذه الانتخابات ظاهرة الأصوات المُبطلة؛ حيث تخطت الأصوات الباطلة حاجز المليون ومئتين وخمسين ألف صوت بنسبة 12% تقريبًا من إجمالي عدد الأصوات. واعتبر أحد الناخبين المُبطلين لأصواتهم أن مشاركته في الانتخابات جاءت بدافع إثبات إدلائه بصوته في بطاقته الانتخابية؛ حيث يُمكن أن تطلبها بعض الإدارات والدوائر الحكومية لتسوية بعض الأعمال والمخالصات الإدارية، مثل ملفات الإسكان الاجتماعي.
3- شفافية الانتخابات: رغم حالة الحراك السياسي الممتدة منذ فبراير 2019 التي لازمت العملية الانتخابية، إلا أن المرشحين الخمسة أجمعوا على المطالبة بشفافية الانتخابات، وهو ما وعدت به السلطة الوطنية لتنظيم الانتخابات، التي تشكلت نتيجة توصية للحوار الوطني الذي قادته الهيئة الوطنية للحوار والوساطة، ومن ثم اضطلعت السلطة الوطنية بالدور الذي كانت تقوم به وزارة الداخلية في السابق. ووعدت سلطة تنظيم الانتخابات بنشر محاضر الفرز الرسمية لكافة المراكز الانتخابية على موقعها الرسمي عقب انتهاء عمليات الفرز، وكذلك سمحت لمندوبي المرشحين بملازمة صناديق الاقتراع وذلك بهدف إضفاء الشفافية على العملية الانتخابية.
4- مقاطعة الانتخابات: انتشرت حملات كبيرة في أوساط الحراك الشعبي تدعو إلى التمرد على العملية الانتخابية، ويرى المقاطعون أنه من غير المنطق المشاركة في عملية انتخابية بقوانين نظام "بوتفليقة" وبإشراف أجهزته ومؤسساته كذلك. واتسعت رقعة المقاطعة في منطقة القبائل التي لم يستطع أي من المرشحين الخمسة زيارتها باستثناء "بن قرينة" الذي تعرض مؤتمره لعنفٍ وصدامٍ كبير هناك، وكذلك فشل كل المرشحين في استمالة أهالي المنطقة لفتح مكاتب انتخابية لهم، وهو ما يعني تمرد المنطقة على العملية الانتخابية برمتها. وقال الرئيس الجزائري المنتخب "تبون" في أول كلمة له بعد إعلان النتائج الأولية إنه يتطلع لزيارة منطقة القبائل، ووعد بالتعاطي مع مطالب أهلها. وقد شهدت المنطقة حرق وتدمير محتويات عددٍ من المقار الانتخابية، خاصة في ولايات بجاية، وتيزي وزو، والبويرة، إضافة إلى قيام بعض نشطاء الحراك بتنظيم انتخابات موازية للانتخابات الرئاسية لحض الناس على المقاطعة.
5- تراجع الأحزاب: تراجع دور الأحزاب والنخب التقليدية في هذه الانتخابات تمامًا، فرغم إعلان حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم دعمه للمرشح "عز الدين ميهوبي" وزير الثقافة الأسبق، وأمين عام حزب التجمع الوطني الديمقراطي (شريك السلطة)، إلا أن نسبة الـ7.26% التي حصل عليها "ميهوبي" كانت بمثابة صدمة داخل الأوساط الحزبية الجزائرية. وترى بعض التحليلات أن هذه النسبة الضئيلة كانت نتيجة لحالة الانشقاق والتفتت وغياب التنظيم الذي أصاب أحزاب الائتلاف الحاكم بعد استقالة "بوتفليقة" في أبريل 2019. وفي السياق ذاته، لم تُعلن أحزاب المعارضة الكبيرة كحزب حركة مجتمع السلم، أو الحزب الديمقراطي الاجتماعي، أو جبهة العدالة والتنمية، عن أي دعم، سواء للمرشحين أو للعملية الانتخابية. وقد كان فوز "تبون" كمرشح مستقل انعكاسًا طبيعيًّا لهذه الحالة. ووعد "تبون" في أول خطاب له أنه لن يتطلع إلى تشكيل حزب سياسي.
جزائر ما بعد "بوتفليقة":
لم يُمثل إعلانُ سلطة تنظيم الانتخابات النتائجَ الأولية لرئاسيات 2019 قطيعة مع نظام "بوتفليقة" فحسب، ولكنه أيضًا قطيعة مع شرعية ثورة التحرير التي استند عليها الرؤساء السبعة الذين حكموا الجزائر منذ الاستقلال، وبالتالي يُمثل انتخاب "تبون" حالة انتقال من جيل التحرير الذي يمثل "بوتفليقة" نهايته إلى جيل الاستقلال. وتجدر الإشارة إلى أن جيل الاستقلال هو الأكثر ثقافة وتعليمًا؛ حيث حصل مرشحو الرئاسيات الخمسة على الشهادات الجامعية الأولى، والدراسات العليا في الاقتصاد والمالية والقانون والإدارة، فيما كان رؤساء الجزائر السابقون يجيدون القراءة والكتابة، وبعضهم حاصل على شهادات التعليم الأساسي، وذلك بحكم انشغالهم بالكفاح المسلح ضد الاحتلال الفرنسي، ومن ثم اعتمادهم في التعليم على الخبرة الميدانية التي اكتسبوها من القتال والتثقيف الذاتي.
ويقوم مشروع "تبون" السياسي في جزائر ما بعد "بوتفليقة" على فتح حوار وطني شامل استنادًا إلى توصيات الهيئة الوطنية للحوار والوساطة التي دعت إلى دخول البلاد إلى حقبة انتقالية دستورية بهدف تكييف مؤسسات الدولة مع التطلعات الشعبية التي عبَّر عنها الحراك الشعبي. واعتبر "تبون" أن تشكيل حكومته الجديدة سيكون مفاجأةً للشعب الجزائري، وتعهد بالإفراج عن السجناء السياسيين، وفتح باب الحوار مع الحراك الشعبي، وإطلاق الحريات العامة خاصة الصحافة والإعلام، والعمل على تعديل الدستور، ووضع قانون جديد للانتخابات يتبعه حل مؤسسات السلطة التشريعية والمجالس المحلية التي يسيطر عليها حزبا جبهة التحرير والتجمع الوطني. وكان قد تعهد أثناء حملته الانتخابية بتحديد ولاية الرئيس بمدتين فقط، والعمل على تمكين الشباب وإعدادهم لتحمل المسئولية.
ويبرز من ذلك أن مشروع "تبون" يقوم على ضرورة استعادة ثقة الناس في مؤسسات الدولة، ووقف التدهور الاقتصادي. ورغم الرؤية الطموحة التي يتطلع لها الرئيس المنتخب، إلا أن الفترة التي تولّى خلالها السلطة تُبرز العديد من التحديات التي ستواجهه فور دخوله قصر المُرادية، ومن أبرز هذه التحديات:
1- استمرار الحراك: قد يُمثل الحراك الشعبي المستمر منذ 10 أشهر عقبة أمام برامج "تبون" خاصة المشروع الاقتصادي الذي يتعلق بملفات حساسة كالدعم والأجور، وسيحاول الحراك خلال الفترة المقبلة اكتساب مزيدٍ من الدعم الشعبي بعد تراجعه بهدف الضغط على "تبون" للاستجابة لهم. وبالفعل، لجأ "تبون" في أول خطاباته إلى خيار الحوار مع الحراك؛ حيث دعا ممثلي الحراك للحوار، ووعد بالتواصل مع الجهات المختصة للإفراج عن الموقوفين على خلفية الاحتجاجات، وهو يسعى من هذه الخطوات والوعود إلى تجاوز مسألة الشرعية، وبناء جدار الثقة مع الحراك لإشعار الجزائريين بالتغيير.
2- الأوضاع الاقتصادية: يُمثل الوضع الاقتصادي أكبر التحديات أمام الرئيس المنتخب الذي رفع شعارات محاربة الفساد والمال السياسي، ووعد باسترجاع أموال الشعب المنهوبة من قِبل النظام السابق، والتي قدَّرها بحوالي 20 مليار دولار. إلى جانب ذلك، يدعو "تبون" إلى ترشيد الدعم من خلال فتح حسابات بريدية للأسر المعوزة، وتحويل الدعم إلى دعم نقدي بدل الدعم السلعي الذي يستنزف ميزانية البلاد، حيث وصل إلى 16 مليار دولار عام 2019، ومن المتوقع أن يصل إلى 17 مليار دولار في عام 2020. ويبقى تحدي معالجة العجز المالي، ووقف تآكل احتياطي النقد الأجنبي، وتدهور العملة المحلية، وتقليل الاستيراد، والانتقال من الدعم السلعي إلى الدعم النقدي؛ أكبر التحديات بالنسبة للرئيس المنتخب "عبدالمجيد تبون" نظرًا لتخوفاته من رفض الشارع لهذه الخطوات، ولا سيما مع الخشية من استمرار زخم الحراك الشعبي. في السياق ذاته، قد تُمثل علاقة "تبون" بالكارتل المالي منذ أن كان الوزير الأول عام 2017 عائقًا أمام جذب الاستثمارات؛ حيث أبرزه الكارتل المالي في عهد "بوتفليقة" على أنه معادٍ لطبقة رجال الأعمال، وهو ما عمل على دحضه طوال حملته الانتخابية.
ختامًا؛ مثَّل تمرير الانتخابات الرئاسية الجزائرية انتصارًا لرؤية السلطة الانتقالية بضرورة سد الشغور السياسي الذي خلَّفته استقالة "بوتفليقة"، ومن المتوقع أن تشهد الخريطة السياسية للجزائر تغييرًا جذريًّا خلال الفترة المقبلة، ولا سيما مع إعلان "تبون" عدم نيته تشكيل حزب سياسي.