على الرغم من محاولات رئيس الوزراء البريطاني "بوريس جونسون" تنفيذَ تعهده بالخروج من الاتحاد الأوروبي في 31 أكتوبر 2019 مهما كان الثمن؛ إلا أن هذا التعهد تواجهه العديد من التحديات في ظل فقدانه الأغلبية البرلمانية، وتمرير مجلس العموم قرارًا يمدد مهلة الخروج من الاتحاد الأوروبي إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق حول "بريكست". وفي هذا الإطار، يحاول هذا التحليل التعرف على استراتيجية "بوريس جونسون" لإدارة ملف البريكست، والسياقات المعقدة التي تحيط بهذا الملف، والسيناريوهات المحتملة.
استراتيجية "جونسون":
يسعى رئيس الوزراء "بوريس جونسون" لتنفيذ استراتيجيته المتعلقة بالبريكست فيما يلي:
1- الضغط لإعادة التفاوض: حيث يسعى "بوريس جونسون" إلى الإيحاء بجدية تمسك حكومته بخيار الخروج من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق، وذلك لدفع الاتحاد الأوروبي إلى تقديم تنازلات، وتغيير بعض النقاط الواردة في الاتفاق السابق الذي توصلت إليه رئيسة الوزراء السابقة "تيريزا ماي" ومن بينها نقطة "شبكة الأمان" بين الأيرلندتين والتي يحاول "بوريس جونسون" أن يحذفها، معتبرًا في تصريح صحفي موجه لشركائه الأوروبيين على هامش انعقاد قمة مجموعة السبع في بياريتس في أغسطس 2019 أنهم "إذا كانوا لا يريدون بريكست من دون اتفاق؛ فعلينا التخلص من شبكة الأمان في المعاهدة".
فيما يعارض الاتحاد الأوروبي أي خطوة قد تعزز عودة الحدود البرية الجامدة بين مقاطعة أيرلندا الشمالية، وجمهورية أيرلندا العضو في الاتحاد الأوروبي، وقد استبعد كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي "ميشال بارنييه" في مقال نشرته "صنداي تايمز" في سبتمبر الجاري إمكانية تفاوض الاتحاد الأوروبي حول هذا البند.
ويحاول "جونسون" عبر إصراره على التفاوض على هذه النقطة فتح التفاوض حول هذه النقطة، وكسب تأييد مناصري حزب البريكست الذين يعتبرون أن شبكة الأمان تُقيّد من سيادة بريطانيا، وتمنعها لاحقًا من إبرام اتفاق تبادل تجاري حرٍّ مع الاتحاد الأوروبي، وذلك لتعزيز فرص فوزه في أي انتخابات جديدة قد تحدث. حيث اعتبرت افتتاحية صحيفة "الجارديان"، في 2 سبتمبر 2019، أن استراتيجية "جونسون" الحقيقية ليست تحقيق البريكست بقدر ما هي "الحفاظ على وظيفته"، وفي حال حدوث سيناريو بريكست من دون اتفاق فإن "بوريس جونسون" سيحاول رفع المسئولية عن نفسه عبر التحجج برفض قادة الاتحاد الأوروبي إعادة التفاوض.
2- تهديدات للمحافظين المعارضين: حيث تم تداول تسريبات من داخل حزب المحافظين في مطلع سبتمبر 2019 بأن "جونسون" أطلق تهديدات بحرمان النواب المحافظين الذين يصوتون ضد خيارات حكومته من الترشح ضمن لوائح الحزب في أي انتخابات مقبلة، وتنفيذًا لهذه التهديدات قام في 4 سبتمبر 2019 بفصل 21 نائبًا محافظًا من الكتلة البرلمانية لحزبه التي يترأسها، وذلك بعد تصويتهم مع المعارضة العمالية بغية تأجيل موعد الخروج من الاتحاد الأوروبي، كما تعمد في خطاباته تصوير النواب المعارضين لخطواته في تطبيق البريكست بالمعرقلين الذين يقفون في وجه الإرادة الشعبية التي عبر عنها ٥٢% من الشعب البريطاني.
3- تعليق عمل البرلمان: في خطوة أثارت الكثير من اللغط، وأشار إليها حزب العمال باعتبارها "إهانة فاضحة لديمقراطيتنا"؛ استخدم "جونسون" صلاحياته الدستورية لتعليق عمل البرلمان من ١٤ سبتمبر إلى ١٤ أكتوبر، علمًا بأن عمليات التعليق السابقة كانت تدوم فترات أقصر، ويهدف "بوريس جونسون" من وراء هذه الخطوة إلى كف يد البرلمان البريطاني أطول فترة ممكنة عن التدخل في تطبيق سياساته الخاصة بالبريكست، ومنع إضعاف موقفه خلال أي مفاوضات جديدة قد تحدث مع الاتحاد الأوروبي. وتهدف أيضًا إلى استباق أي محاولة من المعارضة داخل البرلمان بتقديم طلب لطرح الثقة بحكومة "جونسون". فيما أشار رئيس مجلس العموم البريطاني "جون بيركو" إلى هذه الخطوة باعتبارها ستؤدي إلى "منع البرلمان من مناقشة بريكست وأداء مهامه في صياغة مسار للبلد". وقد قلل "جونسون" من الانتقادات الموجهة إلى هذه الخطوة، معللًا بأنه سيكون هناك متسع من الوقت أمام البرلمان لمناقشة الخطة التي ستسفر عنها المباحثات في القمة الأوروبية المزمع عقدها في ١٧ أكتوبر.
سياقات معقدة:
يتحرك رئيس الوزراء "بوريس جونسون" في بيئة معقدة لتنفيذ استراتيجيته، ويمكن توضيح هذا الأمر فيما يلي:
1- فقدان الأغلبية: على الرغم من أن فقدان الأغلبية البرلمانية لحزب "جونسون" لا يعني حتمًا إقالة حكومته؛ إلا أن لذلك دلالات أهمها إضعاف الخيارات التي تسير بها هذه الحكومة، حيث اعتبرت صحيفة "التايمز"، في 3 سبتمبر 2019، "أن الهزيمة أمام البرلمان تركت جونسون من دون أغلبية أضرت بخطته للخروج من الاتحاد الأوروبي"، كما أن فقدانها من شأنه التشكيك في شرعية تمثيل هذه الحكومة، حيث أشار زعيم حزب العمال المعارض "جيريمي كوربين" إلى أن "عصابة داونينج ستريت الذين يحاولون فرض الانسحاب من الاتحاد الأوروبي من دون صفقة أو تفويض ديمقراطي يُعتبر ضد غالبية الرأي العام"، وجاء هذا التصريح في أعقاب انشقاق النائب المحافظ "فيليب لي" عن حزب المحافظين وانتقاله للانضمام إلى صفوف حزب الديمقراطيين الأحرار احتجاجًا على ممارسات "جونسون" التي اعتبرها لا تعبر عن ناخبيه، مما أدى إلى فقدان حزب المحافظين أغلبيته التي كانت قائمة على صوت واحد.
2- استقالة الحلفاء: تقدم عدة وزراء باستقالاتهم من حكومة "جونسون" احتجاجًا على طريقة تعامله مع ملف البريكست، ومن بينهم شقيقه المعين كوزير دولة، معللًا ذلك بفصل قناعاته عن صلة القرابة. كما كانت استقالة وزيرة العمل والمعاشات "أمبر رود" أشد وقعًا؛ حيث استقالت احتجاجًا على طرد "جونسون" 21 نائبًا محافظًا من كتلته البرلمانية بسبب تصويتهم ضد خياراته، معتبرة أنهم "نواب محافظون وجيدون ومعتدلون". وفي الرسالة التي تشرح فيها أسباب استقالتها التي وجهتها لجونسون، والتي نشرتها على حسابها على موقع تويتر؛ اعتبرت أنها "لم تعد تعتقد أن مغادرة الاتحاد بصفقة هو الهدف الرئيسي للحكومة"، فيما استغل معارضو "جونسون" هذه الاستقالات للتشكيك في مصداقيته، وفقدانه ثقة نواب ووزراء حزبه.
3- قرار لإطالة التفاوض: استفزت إطالة مدة تعليق عمل البرلمان من قبل "جونسون" المعارضة التي ردت على هذه الخطوة بتمرير قرار يمنع خروج بريطانيا من دون اتفاق، ويُجبر رئيس الحكومة على طلب تمديد موعد البريكست في قمة 17 أكتوبر في حال لم يتم التوصل إلى اتفاق بحدود 14 أكتوبر، حيث قام العديد من نواب حزب المحافظين بالتمرد على "جونسون"، والتصويت إلى جانب المعارضة. ويُعتبر هذا التشريع الذي جاء بعد سحب سلطة تحديد الأجندة البرلمانية من الحكومة بمثابة ضربة قوية لجونسون الذي بنى حملته الانتخابية على الخروج من الاتحاد الأوروبي في 31 أكتوبر مهما كانت التبعات.
4- إخفاق خيار الانتخابات المبكرة: لمواجهة خسائره المتوالية عمد "جونسون" إلى الدفع بخيار إجراء انتخابات مبكرة بحدود منتصف أكتوبر، معتمدًا على استطلاعات الرأي التي تضع حزبه في المقدمة بحوالي ٣٥% من الأصوات؛ إلا أن هذا الاقتراح سقط مرتين في التصويت داخل مجلس العموم، حيث يحتاج ليصبح نافذًا الحصول على أغلبية الثلثين. ولقد تحدى "جونسون" زعيم المعارضة "جيريمي كوربن" بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع لمعرفة أين يقع خيار الشعب، ولكنّ استراتيجية المعارضة لا تقضي بالسير في انتخابات مبكرة إلا في حال إقرار خيار عدم خروج بريطانيا من دون اتفاق، وبالتالي إرجاء موعد الخروج حتى يتم الإفساح للتوصل لاتفاق، وذلك لإضعاف "جونسون" وإجباره على خوض الانتخابات بعد مخالفة وعوده الانتخابية السابقة بالخروج مهما كان الثمن.
سيناريوهات محتملة:
من المتوقع أن تواجه بريطانيا خلال الفترة المقبلة عددًا من السيناريوهات يتمثل أهمها فيما يلي:
1- خروج بدون اتفاق في 31 أكتوبر: يتحقق هذا السيناريو في حالة عدم استقالة "بوريس جونسون"، وعدم التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي قبل هذا التاريخ، ولكن في هذه الحالة سيكون "جونسون" معرضًا للمساءلة القضائية لمخالفته القانون الذي تم إقراره مؤخرًا، والذي صادق عليه مجلس اللوردات والملكة والذي يمنع الخروج من دون اتفاق. كما أن الوثائق المعروفة باسم عملية "يلو هامر" والتي أرغمت المعارضةُ حكومةَ "جونسون" على نشرها في 11 سبتمبر 2019، أظهرت أن استعدادات الحكومة لمواجهة بريكست من دون اتفاق ما زالت متدنية جدًّا، وقد يؤدي هذا إلى حدوث اضطرابات أهلية، ونقص في قطاعات الأغذية والأدوية.
2- خروج مع اتفاق في 31 أكتوبر: التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي قبل هذا الموعد، ومصادقة البرلمان البريطاني عليه؛ كفيل بحدوث هذا السيناريو مع أنه احتمال ضعيف جدًّا، وهو ما أشار إليه "جونسون" نفسه في 13 سبتمبر 2019 في كلمة له في شمال بريطانيا بأن "هناك شكلًا تقريبيًّا لاتفاق يجب إنجازه.. وأنا متفائل بحذر". كما أنه أعلن في 9 سبتمبر 2019 أنه يفضل الخروج غير الفوضوي، وإبرام اتفاق مع الاتحاد الأوروبي من أجل المزارعين والأعمال التجارية والملايين من الناس العاديين. وقد اعتبر بعض المحللين أن هذا تغيرًا تكتيكيًّا في استراتيجيته بعد الضربات المتتالية التي تلقاها من البرلمان.
2- خروج مع اتفاق في 31 أكتوبر: التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد الأوروبي قبل هذا الموعد، ومصادقة البرلمان البريطاني عليه؛ كفيل بحدوث هذا السيناريو مع أنه احتمال ضعيف جدًّا، وهو ما أشار إليه "جونسون" نفسه في 13 سبتمبر 2019 في كلمة له في شمال بريطانيا بأن "هناك شكلًا تقريبيًّا لاتفاق يجب إنجازه.. وأنا متفائل بحذر". كما أنه أعلن في 9 سبتمبر 2019 أنه يفضل الخروج غير الفوضوي، وإبرام اتفاق مع الاتحاد الأوروبي من أجل المزارعين والأعمال التجارية والملايين من الناس العاديين. وقد اعتبر بعض المحللين أن هذا تغيرًا تكتيكيًّا في استراتيجيته بعد الضربات المتتالية التي تلقاها من البرلمان.
3- تأجيل جديد لموعد الخروج: يجب لحدوث هذا السيناريو أن يبدي "جونسون" قدرًا كبيرًا من التنازل في حال عدم التوصل إلى اتفاق، ويطلب من الاتحاد الأوروبي تأجيل الخروج إلى 31 يناير 2020، أو أن تقوم حكومة انتقالية برئاسة شخصية تُكلّفها الملكة بالقيام بهذا الطلب في حال قرر "جونسون" الاستقالة، وفي كلتا الحالتين فإن قبول طلب التأجيل مرهون بقبول الاتحاد الأوروبي.
4- عقد انتخابات مبكرة: فوفقًا لهذا السيناريو قد تحدث انتخابات مبكرة في عدة حالات، منها استقالة حكومة "جونسون" قبل موعد الخروج المحدد في 31 أكتوبر، أو في حال الاتفاق بين "جونسون" والمعارضة على إجراء انتخابات مبكرة، علمًا بأن المعارضة غير متحمسة لإجراء هذه الانتخابات قبل حدوث التأجيل الثالث، وذلك لإضعاف "جونسون" وتعزيز فرصها في النجاح، علمًا بأن فوز المعارضة في الانتخابات المبكرة من شأنه أن يُعزز احتمالات إجراء استفتاء ثانٍ حول البريكست.