تزامن استعداد روسيا لعقد انتخابات مجلس مدينة موسكو، في 8 سبتمبر 2019، مع وقوع احتجاجات واسعة في روسيا، ويُعزَى ذلك إلى قرار اللجنة الانتخابية برفض ترشح 60 مستقلًّا بحجة أنهم يمثلون معارضة غير نظامية، وهي حجة تعتبرها المعارضة الروسية واهية. وقد شهدت موسكو تظاهرات تعد الأضخم منذ صعود "بوتين" لسدة الحكم مرة أخرى في أواخر عام 2011 وبداية عام 2012، وفي هذا الإطار يتساءل التحليل إلى أين تتجه موسكو في ظل احتمالات تصاعد الاحتجاجات لاسيما قبل انتخابات عام 2021؟
تصاعد الاحتجاجات الروسية:
تشهد روسيا احتجاجات واسعة منذ أواخر يوليو بسبب استبعاد 60 من مرشحي المعارضة، حيث ينص القانون على جمع المرشحين 5 آلاف توقيع للمشاركة في الانتخابات، مما أدى إلى تعقيد الأمر بالنسبة للمعارضة. وتدعي الحكومة الروسية أن السبب وراء استبعاد المعارضة هو أن مرشحيهم قد قدموا توقيعات مزورة، لذلك رفضت اللجنة الانتخابية السماح لهم بخوض الانتخابات. ولا يمكن مقارنة هذه الاحتجاجات الضخمة التي تشهدها البلاد بالاحتجاجات الواسعة التي وقعت في عام 2011 ومنتصف 2012 والتي طالبت بحل مجلس الدوما وإقالة "بوتين"، وإجراء مزيدٍ من الإصلاحات الديمقراطية.
فيما تؤكد المعارضة الروسية أن التوقيعات ليست مزورة، وأن قرار اللجنة متعمد لمنعهم من خوض الانتخابات. وتُسوِّق المعارضة دليلًا هو أنه ضمن الاحتجاجات رفع بعض المتظاهرين جوازات سفرهم وهوياتهم لتأكيد أنهم هم من قاموا بالتوقيع على توكيلات ترشح مرشحي المعارضة.
ويرى بعض المحللين أنه توافر لدى الكرملين أنباء عن أنه حال السماح للمعارضة بخوض الانتخابات فإنهم سيفوزون بعدد كبير من المقاعد، وعلى الرغم من أن مجلس مدينة موسكو لا يتمتع باختصاصات حيوية؛ إلا أن الخبراء يرون أن الكرملين لم يكن ليخاطر بالسماح للمعارضة بأن يكون لها موطئ قدم في مجلس مدينة موسكو، خاصة وأنه من المزمع عقد الانتخابات البرلمانية الأكثر أهمية من الانتخابات البلدية في 2021، لذا لم ترغب الحكومة الروسية في أن يُعطِيَ أي انتصار للمعارضة في بلدية موسكو دفعة لزيادة سقف طموحهم للحصول على عدد مقاعد أكبر خلال الانتخابات البرلمانية.
وبغض النظر عن صحة أي من الروايتين؛ إلا أنه لا يمكن إنكار أن الأزمة الحالية ما هي إلا امتداد لمجموعة من الأزمات السياسية التي شهدتها روسيا، فكان الدافع وراء الاستياء من الحزب الحاكم خلال الفترة الماضية مجموعة متنوعة من العوامل بما فيها قيام الحكومة برفع سن التقاعد إلى 65 عامًا، فضلًا عن تزايد المصاعب الاقتصادية، وانتشار اتهامات بالفساد. كما أنه في بداية العام الحالي أصدر البرلمان الروسي تشريعًا يشدد الرقابة على الإنترنت بحجة منع التدخل الأجنبي في الشئون الداخلية الروسية، وهو ما أطلقت عليه المعارضة الروسية اسم "الستار الحديدي" مما أدى إلى تصاعد الاحتجاجات ضد هذا القانون. ناهيك عن أن رد فعل الشرطة على الاحتجاجات التي اندلعت في موسكو هذا الصيف مثّل عاملًا أساسيًّا في تنظيم صفوف المعارضة وتضامن مزيد من المواطنين معها.
انتقاد شركات التكنولوجيا:
في أول تعليق على حركة الاحتجاج غير المسبوقة منذ عودة الرئيس "فلاديمير بوتين" إلى الكرملين عام 2012، نفى الكرملين وجود أزمة سياسية في روسيا، حيث صرح الناطق باسم الكرملين "ديمتري بيسكوف" بالقول: "لا نتفق مع من يصفون ما يحصل بأنه أزمة سياسية"، بل ودافع "بيسكوف" عن حَزْم الشرطة في التعامل مع هذه المظاهرات، ووصفه بأنه مبرر وذلك في سياق التمييز بين "أعمال الاحتجاج المرخصة" وتلك التي يمكن تصنيفها بـــــ"محاولات تنظيم الناس واقتيادهم إلى الإخلال بالأمن العام".
ومن الجدير بالذكر أن بعض المظاهرات التي لم تكن مرخصة انتهت بتوقيف مئات الأشخاص، حيث وصل عدد المعتقلين على خلفية التظاهرات الدائرة في روسيا إلى ما يقرب من 6 آلاف معتقل ، وقامت الشرطة بمداهمة مكاتب الشخصيات المعارضة في واحدة من أكبر حملات القمع التي قام بها "بوتين" منذ 19 عامًا، كما تم الحكم على عدد من شخصيات المعارضة وأبرزهم "أليكسي نافالني" بالسجن لمدد قصيرة تصل إلى 30 يومًا.
ولم تسلم شركات التكنولوجيا من الانتقاد الروسي، حيث وجهت روسيا اتهامًا لشركة جوجل بالتدخل في الانتخابات المحلية، وذلك من خلال سماحها للمعارض الروسي البارز "أليكسي نافالني" بشراء مساحة إعلانية على موقع يوتيوب يسعى من خلالها للتأثير على توجهات الناخبين، وقد وجهت هيئة الاتصالات الروسية الاتهام للمعارضة بشراء أدوات إعلامية من موقع يوتيوب لنشر معلومات حول الاحتجاجات التي تشهدها روسيا.
وعبر زعيم الأغلبية في مجلس النواب الأمريكي "ستيني هوير" عن تأييده لأولئك الذين خرجوا إلى شوارع موسكو للاحتجاج على استبعاد المرشحين من الانتخابات المحلية، وقال "هوير" في بيان يوم الاثنين: "يقف الكونجرس مع أولئك في روسيا الذين يسعون للديمقراطية وحكومة خالية من الفساد" ، كما نددت السفارة الأمريكية في موسكو باستخدام ما وصفته بأنه "قوة شرطة غير متناسبة" ضد المتظاهرين السلميين. وكتبت "أندريا كالان" المتحدثة باسم السفارة في تغريدة أن العنف والاعتقالات "يقوضان حقوق المواطنين في المشاركة في العملية الديمقراطية".
وقد صرّحت المتحدثة باسم الممثلة العليا للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي "مايا كوسيانيتش" بأن "الاعتقالات والاستخدام غير المتناسب للقوة ضد المتظاهرين السلميين يقوض بشكل خطير الحريات الأساسية للتعبير والتجمع، والتي تعد من الحقوق الأساسية المنصوص عليها في الدستور الروسي، لهذا نتوقع حمايتها"، كما دعت السلطات الروسية إلى احترام الالتزامات الدولية عند إجراء الانتخابات المحلية القادمة.
سيناريوهات التغيير السياسي:
تُشير النتائج شبه النهائية لانتخابات مدينة موسكو إلى أن الحزب الحاكم (حزب روسيا المتحدة United Russia) قد مني بهزيمة ثقيلة، إذ خسر فيها أكثر من ثلث مقاعده ، وقد أشاد زعيم المعارضة "أليكسي نافالني" بهذه النتائج، وأشاد بسلوك الناخبين الذين اتّبعوا دعوته للتصويت الاستراتيجي (strategic voting)، والذي يعني التصويت لأي مرشح لا ينتمي لحزب روسيا المتحدة، وعلى الرغم من أن الحزب الحاكم لم يفقد الأغلبية إلا أن مرشحيه قد خسروا عشرين مقعدًا على الأقل من مقاعد مجلس موسكو البالغ عددها 45 مقعدًا ، وعلى الرغم من أن مجالس البلديات في موسكو والمدن الروسية الأخرى لا تتمتع إلا بقدر ضئيل من السلطة، إلا أن خسارة الحزب الحاكم والمرشحين الموالين للكرملين في الانتخابات البلدية ستمثل ضربة قاصمة للحزب الحاكم و"بوتين". وفي ضوء هذه النتائج يُمكن القول إن هناك سيناريوهين سيواجهان النظام السياسي الروسي وذلك فيما يلي:
1- الاستقرار السياسي: وهو على المدى القصير أي قبل عقد الانتخابات البرلمانية في عام 2021، ومفاده أن تبذل موسكو أقصى جهدها للمحافظة على الاستقرار السياسي، ومنع أية تظاهرات أو احتجاجات.
2- تصاعد حدة الاحتجاجات: وهو على المدى المتوسط والطويل، حيث من المنتظر أن تقوى شوكة المعارضة وذلك بسبب زيادة الطموح للتغيير، فضلًا عن ازدياد نسب المتعلمين وتنامي الانفتاح على العالم الخارجي وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي مما سيصعب الأمور على الحكومة الروسية في السيطرة على المطالب المتزايدة للإصلاح الديمقراطي. فالاحتجاجات ليست بالظاهرة الجديدة على روسيا، ومن المتوقع تزايد حدة المعارضة، وما يدعم هذا السيناريو هو تصريحات قادة المعارضة بأن "بوتين" قام بإخماد الاحتجاجات الآن، إلا أنهم يعتزمون العودة مرة أخرى وبشكل أقوى خلال الانتخابات البرلمانية المزمع عقدها عام 2021، والتي ستحسم العديد من ملامح المشهد والحياة السياسية في روسيا.
ومما يُعزز هذا السيناريو أيضًا هو مدى سرعة تشكل حركة الاحتجاج الأخيرة، وكذلك استمرارها لفترة طويلة، وازدياد أعداد المنضمين إليها رغم قمع الشرطة، مما أدى إلى ارتفاع سقف مطالب المتظاهرين من مجرد انتقاد قرار اللجنة الانتخابية الروسية إلى المطالبة بمزيد من الإجراءات الديمقراطية والعمل على محاربة الفساد.وتظل هناك تحديات أمام المعارضة، منها: عدم وجود بديل للنظام الحاكم، ومدى قدرتها على الحفاظ على تماسكها الداخلي وعدم انشقاقها.