تزايدت مشكلات العشائر في بؤر الصراعات المسلحة العربية، خلال الفترة القليلة الماضية، لا سيما بعد تنامي النزاعات العشائرية الداخلية، وإعلان الإدارة الأمريكية عزم إيران استهداف رعاياها ومصالحها في العراق من خلال فصائل مسلحة تابعة لها (الحشد الشعبي)، واستمرار شكاوي أهالي العشائر العربية في شرق سوريا من هيمنة ميليشيا "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) الكردية على المدن والبلدات، وتعاظم التهديدات الأمنية من الحدود الرخوة، وهى تحديات تأتي بشكل متوازٍ وليس متتاليًا، مما يضاعف من تأثيراتها.
وللعشائر سلطة كبيرة في عدة دول عربية على نحو جعلها أحد الفاعلين الأمنيين غير الرسميين، في ظل تراجع هيبة الدولة وضعف إجراءات القضاء، في الوقت الذي تبرز قدرة العشائر على توفير الأسلحة وحل نزاعات الأفراد بواسطة دفع الأموال، في إطار ما يطلق عليه "مجلس العشائر" المنتشرة في المحافظات والبلدات. وقد كشفت تفاعلات عام 2019 عن مشكلات أو أزمات تواجه العشائر في بؤر الصراعات العربية، يمكن تناولها على النحو التالي:
اقتصاديات التمويل:
1- تنامي النزاعات العشائرية الداخلية: وهو ما ينطبق على النزاعات في محافظة البصرة العراقية، على الرغم من أنه يفترض أن لهذه العشائر دورًا في تسوية الصراعات السياسية على مدى تاريخ العراق. وفي هذا السياق، يشير اتجاه في الكتابات إلى أن إيران لم تتوانى خلال السنوات الماضية عن تأجيج الصراعات العشائرية من خلال تسليح عدد من العشائر في جنوب العراق، ومحاولة الزج بأبنائها في صفوف الميلشيات التابعة لها بهدف إضعاف قوة النسيج الاجتماعي وتقليص دور العشائر وإشغالها في دوامة الحروب الداخلية.
وتبعًا لهذا الهدف، فإن النزاعات العشائرية تعد أحد المصادر الرئيسية لتمويل الميلشيات بالأموال، وهو نتاج بيع الأسلحة للعشائر، وإطلاق سراح العناصر الإجرامية، وتقوية شبكات تهريب النفط والحديد والمخدرات والأسلحة والإتجار بالبشر في العاصمة بغداد وجنوب العراق، إذ ترتبط شبكات الظل هذه بـ"فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني، الذي يتولى الدور الأبرز في العمليات التي يقوم بها الحرس على الساحة الخارجية.
وهنا تجدر الإشارة إلى ما ذكرته بعض المصادر الإعلامية نقلاً عن مجلس محافظة البصرة، بأن النزاعات العشائرية أسفرت خلال عام 2018 عن مقتل أكثر من 113 مواطنًا وإصابة أكثر من 440 آخرين، سواء من أطراف النزاع أو المارة، بخلاف الأضرار التي لحقت بالبنى التحتية والممتلكات العامة والخاصة.
عمليات انتقامية:
2- تحذير العشائر العربية في العراق من استهداف واشنطن معسكرات "الحشد الشعبي": وذلك في سياق تصاعد حدة التوتر بين إيران والولايات المتحدة، بحيث يرجح أن تستهدفها واشنطن باعتبارها تمثل تهديدًا لمصالحها في العراق، وهو ما أشار إليه مزاحم الحويت الناطق باسم العشائر العربية، في 12 مايو 2019، لمراسل قناة "العربية" الفضائية.
وقد تحدث الحويت عن سجون تديرها فصائل "الحشد الشعبي" المقربة من طهران، وتضم آلاف المساجين، حيث قد تستخدم تلك الميلشيات السجناء كدروع بشرية أو كمفخخات، في حال استهدفتها واشنطن، على نحو ما أكد عليه أيضًا ثائر البياتي الأمين العام لمجلس العشائر العربية. وربما يمكن القول إن ما يعزز من صحة هذا التحليل لقاء الرئيس الإيراني حسن روحاني مع شيوخ ووجهاء العاصمة بغداد ومحافظات جنوب ووسط العراق خلال زيارته للعراق في مارس الماضي، والتي سبقها بأسابيع لقاء جمع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بشيوخ العشائر العراقية.
وقد دعا الرئيس روحاني خلال كلمة له أمام جموع حاضرة في كربلاء، في 13 مارس 2019، إلى ما وصفه بـ"الاتحاد الكبير لإيجاد القوة الإقليمية الكبيرة" ضد الولايات المتحدة، مشيرًا إلى وقوف طهران إلى جانب العراق لمحاربة تنظيم "داعش" عقب سقوط الموصل في عام 2014.
ومن هذا المنطلق، يمكن تفهم حرص زعماء العشائر العربية في أربيل، في 12 مايو الماضي، على المطالبة بانسحاب "الحشد الشعبي" من معسكراتهم داخل المدن والقرى، وكذلك إبعاد العراق عن سياسة المحاور، لأن مناطقها لم تستقر أمنيًا منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003. كما أكد عضو مجلس عشائر الأنبار عواد الدلمة، في 22 مايو الجاري، على أن "شيوخ المحافظة المجتمعين مع الأمريكان لتسليحهم لا يمثلون إلا أنفسهم"، مبينًا أنه "يرفض زج المحافظة بالصراعات الإقليمية والدولية".
تصاعد الاستياء:
3- تزايد شكاوي بعض العشائر العربية في مدن وبلدات شرق سوريا من "قسد": وهو ما عكسه مؤشر محدد تمثل في خروج تظاهرات مناهضة لها في أرياف مدينتى الرقة ودير الزور في بداية مايو الجاري، للمطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية بعد فشل المجالس المحلية التي أسستها الميليشيا الكردية، ووضع حد لانتهاكاتها بعد استمرار احتجاز المئات من المدنيين في مخيمات قسرية ووضع قيود على تحركات السكان داخل مناطقهم، والاعتقال العشوائي لعدد من الشباب بدعوى انتمائهم لتنظيم "داعش".
وقد برز مطلب طرد ما أطلق عليه المحتجون "الاحتلال الكردي" لمدنهم، حيث يشكل المكون الكردي المعروف بـ"وحدات حماية الشعب" النسبة الأكبر من هيكل "قوات سوريا الديمقراطية" بحوالي 70%، في حين تعود النسبة المتبقية للمكون العربي.
وفي هذا السياق، تحاول أنقرة استمالة العشائر العربية القاطنة في تلك المناطق لتصبح حليفًا لها، عبر تشكيل قوة عسكرية من أفرادها لتسلم إدارة الأوضاع في شرق الفرات ومنبج، في حال التوصل لاتفاق مع الولايات المتحدة بخصوص المنطقة الآمنة. في مقابل ذلك، دعا مجلس سوريا الديمقراطية، في 3 مايو 2019، إلى لقاء تهدئة في بلدة عين عيسى مع العشائر باعتبارها "الضامن للسلم الأهلي"، وهو ما يعكس حرص "قسد" على استمرار الحفاظ على المناطق التي تسيطر عليها.
وقد أصدر مجلس سوريا الديمقراطية بيانًا أكد فيه "تمسكه بالحوار واحترام جميع أبناء الشعب السوري، لأن ما بعد مرحلة التحرير يتطلب العمل على ترسيخ السلم واستقرار المناطق التي تم تحريرها من داعش"، كما اعتبر أن "ما يقوم به مجلس سوريا الديمقراطية هو تجربة وركيزة لسوريا الجديدة، لا سيما وأن جميع العشائر ووجهائها ومكونات الشمال السوري يبدون حرصهم على وحدة التراب السوري وأبناء العشائر هم ضامن للسلم الأهلي وسلامة البلاد وعدم التخلي عن شبر من تراب الوطن وتحرير المناطق المحتلة وهم الرابط الذي بإمكانه تجاوز مصطلحات غربى الفرات وشرقه بحكم أن سوريا موحدة لكل السوريين".
وشدد البيان في الختام على إدانة المجلس للممارسات التي تزيد من الشرخ والفتنة، داعيًا جميع أبناء الشعب السوري إلى "الاستفادة من ثماني أعوام من الدمار، والبدء بحوار وطني يؤسس لتعميم التجربة الديمقراطية في عموم البلاد".
تخوم مأزومة:
4- تعاظم التهديدات الأمنية من الحدود الرخوة: إذ كان للعشائر دور محوري في محاربة التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، وتقديم بعض الخدمات للاجئين من بؤر الصراعات الاندماجية في سوريا والعراق، على نحو ما ينطبق على عشائر سوريا والعراق، خاصة بعد محاولة تنظيم "داعش" العودة للقيام بعمليات إرهابية في مناطق الحدود المشتركة وتجنيد بعض أبناء تلك العشائر فضلاً عن محاولة استهداف الأردن.
وفي هذا السياق، استعرض رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي، في 8 مايو الجاري، خلال لقائه شيخ قبائل الجور في الوطن العربي الشيخ نواف العبدالعزيز المسلط الجبوري، دور العشائر في مقاتلة "داعش"، وأكد الحلبوسي، وفق بيان المكتب الإعلامي، على أن "المواقف البطولية للشعب العراقي بكل قبائله وعشائره في مقاتلة تنظيم داعش كانت رديفًا لقواتنا من الجيش والشرطة، وساهمت بتحقيق النصر الذي روته الدماء الزكية من كل المدن العراقية".
كما سبق أن صرح العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، خلال زيارته البادية الشمالية في 15 يونيو 2015، موجهًا حديثه لشيوخ العشائر ووجهائها: "أنتم قريبون من الحدود وتشعرون بمشاكل اللاجئين وما يجري في سوريا والعراق أكثر من باقي مناطق المملكة. ما يهمنا هو التعامل مع تحدي الفقر والبطالة، خصوصًا في مناطق شمال وشرق المملكة التي استقبلت العدد الأكبر من اللاجئين منذ بدء الأزمة السورية".
وأكد الملك عبدالله على أن "من الواجب علينا كدولة حماية العشائر في شرق سوريا وغرب العراق، والعالم يدرك أهمية دور الأردن في حل المشاكل في سوريا والعراق وضمان استقرار وأمن المنطقة".
خلاصة القول، إن ثمة تحديات تواجه العشائر كفاعل أمني في بؤر الصراعات المسلحة بالإقليم، سواء كانت داخلية أو خارجية، وهو ما يمنح الفرصة للتيارات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية وجماعات الجريمة المنظمة والأطراف الإقليمية والدولية لتوظيف هذا الضعف بما يصب في صالحها ويزيد مؤشرات الضعف داخل بنية بعض الدول العربية التي تعاني في الأساس من الانقسام وعدم الاستقرار.