تزايدت أزمات الوقود في بؤر الصراعات المسلحة العربية، بشكل لافت للنظر، خلال الأسابيع القليلة الماضية، على نحو ما عكسته جملة من المؤشرات الدالة عليها مثل انتشار طوابير السيارات أمام محطات البنزين وانخفاض عدد السيارات في الساحات العامة. وقد تمثلت أسباب ذلك في العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران، وتصاعد حدة الخلافات بين بعض القوى الإقليمية والدولية، واشتداد المواجهات المسلحة بين أطراف الصراع، وتشكل اقتصاديات تهريب الوقود، وسوء تعامل الميلشيات المسلحة مع الموارد الاقتصادية، وتعرض المصافي النفطية للتدمير خلال المواجهة مع التنظيمات الإرهابية، وغياب الإمكانيات التقنية والتجارية لتصدير النفط.
مؤشرات دالة:
ثمة مجموعة من المؤشرات التي تعبر عن تفاقم أزمات الوقود في سوريا واليمن وليبيا والعراق، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- انتشار الطوابير الطويلة للسيارات في العاصمة السورية دمشق للحصول على البنزين قرب محطات الوقود، خلال إبريل الجاري، فضلاً عن ظهور ساحات في دمشق خالية من السيارات في إشارة واضحة إلى انعدام البنزين، على نحو ما عكسته الصور المنتشرة على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك". وتجدر الإشارة إلى أن الإنتاج المحلي من النفط يبلغ 24 ألف برميل يوميًا، في حين تحتاج البلاد يوميًا إلى 136 ألف برميل، أى ما يعادل 17.6% فقط من الاحتياجات المحلية لتأمين المشتقات النفطية بالكامل.
2- اتساع نطاق أزمة نقص الوقود في بعض المدن اليمنية التي تسيطر عليها الميلشيا الحوثية الانقلابية، على مدى الأسابيع الثلاثة الماضية من إبريل 2019، وهو ما انعكس في إغلاق محطات الوقود، وتناقص كميات الوقود في مخازن شركة النفط، دون تبلور أى بوادر للحل.
3- ازدحام أغلب محطات الوقود في مدينة بني وليد بليبيا، في 24 إبريل 2019، عقب وصول شحنات من الوقود إليها بعد انقطاع دام عدة أيام. وقال مدير إحدى محطات الوقود في بني وليد لـ"بوابة الوسط" الإخبارية الليبية أن "سبب الازدحام هو تأخر وصول الشحنات المخصصة للمدينة من مستودعات شركة البريقة للنفط فرع مصراتة". وذكر عضو لجنة متابعة توزيع الوقود والغاز المنزلي ببلدية بني وليد حاتم التويجر أن "اللجنة على تواصل مستمر مع شركة البريقة من أجل سد العجز التي تشهده محطات الوقود بالمدينة".
اعتبارات عديدة:
تشير كتابات مختلفة إلى مجموعة من العوامل التي تفسر ازدياد حدة أزمة الوقود في بؤر الصراعات المسلحة العربية، وتتمثل في:
1- العقوبات الأمريكية المفروضة على إيران: والتي أثرت على أزمة الوقود في عدة مدن سورية. إذ ما زالت طهران الداعم الرئيسي للحكومة السورية فيما يتعلق بتوفير النفط، إلا أن العقوبات الأمريكية منعت الحكومة الإيرانية من تصدير النفط عبر العراق إلى سوريا، وهو ما بدأت مضاعفاته تظهر في الآونة الأخيرة. وهنا، قالت صحيفة "الوطن" السورية القريبة من نظام الأسد، في 17 إبريل الجاري: "منذ توقف الخط في 15 أكتوبر الماضي، وسوريا تفتقد النفط، ولا ناقلة نفط خام وصلت إلى سوريا".
وقد شهدت المناطق التي يسيطر عليها الجيش النظامي السوري، منذ بداية فصل الشتاء في ديسمبر الماضي، نقصًا حادًا في إمدادات الوقود، وعودة انقطاع التيار الكهربائي لساعات، ثم امتدت الأزمة لتطال البنزين، منذ ما يزيد عن ثلاثة أسابيع، بل إن ثمة قلقًا في دمشق من انسحاب أزمة الوقود على مواد غذائية أخرى، حيث قررت وزارة النفط السورية، في 15 إبريل الجاري، تحديد كمية البنزين الموزعة، وقالت في بيان: "كإجراء مؤقت بهدف توزيع البنزين بعدالة على جميع أصحاب الآليات تم تحديد المخصصات التالية: السيارات الخاصة على اختلاف أنواعها 20 لترًا خلال خمسة أيام، والدراجات النارية على اختلاف أنواعها 3 لتر خلال خمسة أيام، وسيارات التاكسي العمومية 20 لترًا كل 48 ساعة".
2- تصاعد الصراعات بين بعض القوى الإقليمية والدولية: على غرار الصراع بين روسيا وإيران على شبكة المصالح في سوريا. فقد استغلت روسيا أزمة الوقود التي تواجهها الأخيرة، بعد توقف إمدادات النفط الإيراني، لتوسيع اتفاق استئجار قاعدة طرطوس البحرية ليشمل كل الميناء والأراضي المحيطة به، للنقل والاستخدام الاقتصادي، وتأسيس نقاط تمركز طويلة الأمد في البلاد، وهو ما يفسر أهمية الزيارة التي قام بها نائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف إلى دمشق مؤخرًا، والتي نقل خلالها رسالة مفادها، حسب تقارير عديدة، حل أزمة الوقود مقابل توسيع النفوذ الروسي. فبدلاً من اللاذقية "الإيرانية" ستغدو طرطوس "الروسية" بوابة النفط الرئيسية إلى دمشق.
3- اشتداد المواجهات المسلحة بين أطراف الصراع: امتدت أزمة البنزين إلى خارج العاصمة الليبية طرابلس لتصل إلى المدن الأخرى على أطراف العاصمة، حيث أكد عضو المجلس البلدي ولجنة أزمة الوقود والغاز في بلدية سبها أبوسيف الأحول، في 10 إبريل الجاري، على أن "أسباب نقص الوقود وازدحام السيارات عند المحطات يرجع إلى توقف إمدادات الوقود من مستودع مصراتة نتيجة الأحداث التي تشهدها المنطقة".
4- تشكل اقتصاديات تهريب الوقود: تستغل بعض الجماعات تفاقم الصراعات الداخلية العربية لتحقيق مكاسب مالية من وراء ما يطلق عليه "شبكات الظل" المتخصصة في الإتجار غير المشروع، ومنها شبكات تهريب الوقود، وخاصة على الحدود الليبية- التونسية. وفي هذا السياق، أشار عضو المجلس البلدي ولجنة أزمة الوقود والغاز في بلدية سبها أبوسيف الأحول، في 10 إبريل الجاري إلى أن "لجنة أزمة الوقود والغاز في بلدية سبها تعمل على حل الأزمة من خلال إمدادات من مستودع الزاوية النفطي"، مضيفًا أن "تهريب الوقود خلال المدة الماضية تسبب في نقص الوقود". كما سلطت وسائل إعلامية سورية، في 21 إبريل الجاري، الضوء على ظاهرة عصابات سرقة البنزين من السيارات المتوقفة في محافظة اللاذقية.
5- سوء تعامل الميلشيات المسلحة مع الموارد الاقتصادية: وينطبق ذلك على اليمن، حيث اتخذت اللجنة الاقتصادية التابعة للحكومة اليمنية قرارًا، في 18 إبريل الجاري، بمنع استيراد أى شحنة نفطية إلا عبر البنك المركزي، وأرجعت ذلك إلى سعيها للحفاظ على الريال اليمني، لا سيما في ظل انتشار مكثف للسوق السوداء، فضلاً عن افتعال المتمردين الحوثيين لأزمة الوقود للمتاجرة بمعاناة المواطنين في مناطق سيطرتهم، والتحكم بأسعار الوقود وتمرير الزيادة في أسعار المشتقات النفطية.
وكذلك الحال بالنسبة لأزمة نقص الوقود في طرابلس، حيث تشير عدد من وسائل الإعلام الليبية المحسوبة على حكومة الوفاق الوطني، إلى أن سبب النقص الحاصل في الوقود يرجع إلى تأخر دفع المستحقات المالية للناقلات، مضيفة أن رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فايز السراج، قد أعطى الإذن، في 22 إبريل الجاري، لوزير المالية ومدير المصرف الليبي الخارجي ومؤسسة النفط، لدفع هذه المستحقات ومعالجة الاختناقات التي تواجه عملية تزويد السوق المحلية بالمشتقات النفطية.
6- تعرض المصافي النفطية للتدمير خلال المواجهة مع التنظيمات الإرهابية: أدى التدمير الذي لحق بمصافي النفط العراقية، بيجي والموصل وحديثة، خلال المواجهات العسكرية التي اندلعت مع تنظيم "داعش"، إلى أزمة وقود حادة في بعض محافظات العراق خلال فصل الصيف الماضي، بعد أن تراجعت إمدادات الوقود وارتفعت أسعاره بشكل كبير في السوق السوداء.
7- غياب الإمكانيات التقنية والتجارية لتصدير النفط: وهو ما يطرحه خبراء النفط بشأن تفسير عدم قدرة موسكو على تصدير النفط إلى سوريا، حيث لا توجد بنية تحتية برية لذلك (أنابيب أو نقل بري)، في حين أن تكلفة الوقود عبر النقل البحري سوف تتضاعف حوالي 20 مرة، لدرجة أن اتجاهات عديدة تستهجن ذلك باعتبار أنه سيكون "نفطًا ذهبيًا" حسب رؤيتها. في حين ترى اتجاهات أخرى أن روسيا ترفض دعم الحكومة السورية بالمحروقات، حتى يتم إلغاء التفاهمات مع إيران، بما يتيح لها الوصول إلى البحر المتوسط عبر ميناء اللاذقية.
أزمة مستمرة:
خلاصة القول، إن هناك حزمة من الأسباب التي تفسر أزمات الوقود في دول الصراعات العربية، منها نقص الإمدادات الخارجية الناتجة عن العقوبات الأمريكية على سوريا وإيران، مع التعهد بتصفير صادرات النفط الإيراني، في الوقت الذي تسيطر التنظيمات الكردية المسلحة على منطقة شرق الفرات الغنية بالنفط، بعد تحريرها من سيطرة تنظيم "داعش"، فضلاً عن الاتجاه مستقبلاً بشكل تدريجي لبيع المشتقات النفطية بالسعر غير المدعوم، لعدم قدرة الحكومة السورية على توفير الاحتياجات الأساسية للمواطن. هذا بخلاف نشاط وتكتيك الجماعات الإجرامية المتخصصة في تهريب الوقود، وتعقيدات تأهيل الآبار والمشاريع النفطية والغازية في المناطق المحررة من الإرهاب وإعادتها للعمل، وهو ما يجعل هذه الأزمة مرشحة للاستمرار خلال المرحلة القادمة.