عرض: سارة محمود خليل - باحثة في العلوم السياسية
تتزايد أهمية قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في الدول التي مزقتها الحروب والصراعات المسلحة، ولا سيما تلك التي لا تتواجد بها قوات أمن حكومية قادرة على تحقيق الأمن والاستقرار. وفي هذه الحالة، تتولى قوات المنظمة الأممية، أو ما يعرف بـ"أصحاب القبعات الزرقاء"، مسئولية الحفاظ على الأمن بالدول التي تنتشر بها. وتُعد تلك القوات ثاني أكبر قوة عسكرية منتشرة في الخارج بعد القوات الأمريكية.
وعلى الرغم من انتشار قوات حفظ السلام فيما يقرب من ٥٠ منطقة صراع حول العالم، يعيش بها أكثر من مليار ونصف شخص تحت تهديد العنف، وزعم المنظمة الأممية أنها ساعدت في إنهاء العديد من الصراعات المسلحة وتعزيز المصالحة من خلال عمليات حفظ سلام ناجحة في كثيرٍ من مناطق الأزمات حول العالم؛ تثير تلك القوات الكثير من الجدل في ظل إخفاقاتها في أغلب عملياتها.
ولتسليط الضوء على تلك الإشكالية، ظهرت العديد من الأدبيات التي تناقش أسباب عجز قوات حفظ السلام الأممية في تحقيق أهدافها المرجوة، ومن بينها مقالة بعنوان "أزمة قوات حفظ السلام: لماذا لم تستطع الأمم المتحدة إنهاء الحروب؟"، لأستاذ العلوم السياسية بكلية بارنارد بجامعة كولومبيا "سيفيرين أوتيسير"، والمنشورة بدورية "فورين أفيرز" في عددها الأول لعام ٢٠١٩.
بدايات التأسيس
بدايةً، يُشير "أوتيسير" إلى أن منظمة الأمم المتحدة مع بداية تأسيسها في عام ١٩٤٥ لم تكن تعتزم امتلاك قوات مقاتلة خاصة بها، حيث لم يُشر ميثاقها إلى مهمات لحفظ السلام في الخارج. لكن مع مرور الوقت واشتعال الصراعات الدولية والحروب الأهلية داخل دول العالم الثالث، أصبحت هناك ضرورة ملحة لتأسيس قوة تقوم بمهام حفظ السلام. وبالفعل تأسست تلك القوات، وتعمل بعد تلقِّي دعوة من الحكومة المضيفة، وموافقة جميع أطراف النزاع. وبذلك ترسل المنظمة الأممية قواتها بعد التوصل إلى تسوية لحل النزاع، أو وقف إطلاق النار بشرط عدم اعتراض أي من أعضاء مجلس الأمن الدولي، لأنه المسئول عن قرار نشرها.
ومنذ تأسيسها وحتى انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، كان تدخل القوات الأممية مقصورًا على المناطق التي ليست مجالًا للتنافس بين الشرق والغرب، حيث كان لقوات حفظ السلام مهام محددة أثناء الحرب الباردة. وفي حين ساهم وجود تلك القوات في العديد من المناطق في منع تفاقم بعض الصراعات؛ فإنها -في أحيانٍ أخرى- لم تستطع القيام بذلك. ويتجسد هذا النموذج في أعقاب حرب أكتوبر ١٩٧٣، حيث نجحت قوات حفظ السلام في تطبيق وقف إطلاق النار على طول الحدود المصرية-الإسرائيلية في سيناء، ولكنها فشلت في القيام بالأمر ذاته على طول الحدود السورية-الإسرائيلية في مرتفعات هضبة الجولان.
ومن الجدير بالذكر أنه -وفقًا للمقالة- على الرغم من منح قوات حفظ السلام جائزة نوبل للسلام في عام ١٩٨٨؛ إلا أن تأثيرها العالمي لا يزال محدودًا. فمع أوائل التسعينيات من القرن المنصرم، شاركت القوات الأممية في عمليات لحفظ السلام أكثر مما شاركت فيها على مدى أربعين عامًا منذ تأسيسها، لكن التفاؤل حولها سرعان ما تلاشى بعجزها عن القيام بمهامها في عمليات عديدة.
أسباب الفشل
تُشير المقالة إلى أنه في الغالب ما تفشل القوات التابعة للأمم المتحدة لحفظ السلام في تحقيق أهدافها الرئيسية في العديد من مناطق انتشارها. وقد أرجع "أوتيسير" أسباب فشلها إلى عدة عوامل، هي على النحو التالي:
أولًا- نقص الموارد: أشارت المقالة إلى أنه من الصعب إلقاء اللوم على منظمة الأمم المتحدة بشأن تلك المسألة؛ لأنها تعتمد على المساهمات المادية من أعضائها. وعادةً ما تُوجِّه قيادات قوات حفظ السلام اللوم إلى مجلس الأمن الدولي لعدم توفيره الموارد الكافية. وعلاوة على ذلك، فإن القوى العظمى لا تكترث كثيرًا بالأزمات التي ترسل من أجلها القوات الأممية في ظل قلة الموارد المتاحة للقيام بمهامها.
فعلى الرغم من أن ميزانية قوات حفظ السلام تصل إلى ٧ مليارات دولار سنويًّا، إلا أنها تمثل أقل من نصف الواحد بالمائة من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي. ومن المتوقع -وفقًا للمقالة- أن تساعد الأمم المتحدة في حل أكثر من ربع الحروب الدائرة في العالم بالاعتماد على تلك الميزانية. وحتى عندما تقدم الدول القوية والدول التي تساهم بقواتها موارد وفيرة لإحدى عمليات حفظ السلام؛ فإن جهودها غالبًا ما تفشل. ولذا، ترى قيادات قوات حفظ السلام أنه لا بد من توفير الدعم المالي واللوجيستي اللازم، والمزيد من الأشخاص المدربين؛ لإنجاح مهماتها في تحقيق السلام والاستقرار بمناطق النزاع. وتدعو كذلك إلى عدم وضع القيود على عمل قوات حفظ السلام لأن هذا يؤدي إلى نتائج مأساوية.
ثانيًا- تبني استراتيجية خاطئة: تتجاهل استراتيجية الأمم المتحدة التعامل مع المواطنين العاديين، وفي المقابل تفضل التعامل مع النخب. وبذلك، تغفل المنظمة الأممية عن القيام بما ينبغي من خلال تبني استراتيجيات تركز على نهج "من أسفل لأعلى"، والذي يقوم على المعرفة الجيدة بمجتمعات مناطق الانتشار، والسماح بمشاركة الشعوب أنفسهم للوصول إلى أفضل السبل لتعزيز السلام.
وتشير المقالة إلى أن بعض السكان في المناطق التي تعمل بها قوات حفظ السلام يَشْكُون من غطرستها، وأنها قليلًا ما تقوم بأعمالها، وينتقدونها، ويرونها شكلًا جديدًا للاستعمار. كما تنتشر بعض الادعاءات بمشاركة بعض جنودها في التعذيب والاعتداءات الجنسية والاستغلال مما تسبب في ضرر جسيم لسمعة الأمم المتحدة. وانطلاقًا مما سبق؛ فإن السكان المحليين غالبًا ما يرفضون التعاون مع المبادرات الأممية.
وينتقد "أوتيسير" نهج الأمم المتحدة في إنهاء الحروب والنزاعات المسلحة باستضافة مؤتمرات كبيرة ومكلفة من أجل إبرام الاتفاقات بين الحكومات والقادة المتمردين، وتنظيم تصويت قومي. ويكمن ضعف هذا النهج -وفقًا للمقالة- في أن الحروب ليست نتاج التنافس القومي أو الدولي فحسب؛ وإنما التنافس المحلي أيضًا. ويُضيف الكاتب أنه عندما يتعلق الأمر بتحديد الأمم المتحدة للانتخابات، فإن المشكلة تكمن في أن الضغط من أجل التصويت قبل أن تصبح الدولة جاهزة قد يضر أكثر مما ينفع.
ثالثًا- ضآلة عدد القوات المشاركة: نظرًا إلى أن الأمم المتحدة ليس لديها قوات عسكرية خاصة بها، وأن قوات حفظ السلام تعمل في ظل ظروف قاسية وبنية تحتية متهالكة ومسئولين فاسدين؛ فإن عدد القوات المشاركة على الأرض ضئيل للغاية. وغالبًا ما تتردد الدول في المخاطرة بحياة جنودها في صراعات لا تملك أي مصلحة فيها. ولذلك، غالبًا ما يستغرق الأمر شهورًا لتحشد المنظمة الأممية القوات التي تحتاجها، وينتهي الأمر بمشاركة جنود غير مدربين وذوي أجور ضعيفة.
رابعًا- تدخل ضباط بعض الدول في عمليات حفظ السلام: يحتاجُ مجلس الأمن الدولي إلى إجبار الدول التي تساهم بقواتٍ على التوقف عن التدخل في العمليات على الأرض، ومطالبة ضباطها باحترام التسلسل القيادي. ولكن قوات حفظ السلام لا يمكنها إلقاء المسئولية على مجلس الأمن بشأن جميع أوجه القصور.
محاولات الإصلاح
مع توجيه الكثير من المراقبين النقد لقوات حفظ السلام، أدركت الأمم المتحدة أهمية إعادة التفكير في النهج الخاص بها في عام ١٩٩٩. وبدأت أولى محاولات الإصلاح في العام ذاته، عندما أعلن الأمين العام للمنظمة الأممية آنذاك "كوفي أنان" عن رغبته في منع تزايد العمليات الفاشلة. ونتيجة لذلك، طلب تقريرين عن التدخل الدولي. أحدهما كان لإجراء إصلاحات على قوات حفظ السلام لجعل عملياتها أكثر كفاءة وفاعلية. أما الآخر، فقد أرسى مبدأ "مسئولية الحماية"، الذي يركز على أن المجتمع الدولي مسئول أخلاقيًّا عن مساعدة الشعوب التي تعيش في الدول غير القادرة على حماية مواطنيها من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان.
وقد أدى ذلك إلى تطور نهج قوات حفظ السلام، فلم تعد تقتصر مهامها على مراقبة وقف إطلاق النار. وبدلًا من ذلك، أصبح لها موقف استباقي باستخدام القوة العسكرية لمنع المقاتلين من ارتكاب العنف، لتجنب تكرار الأحداث المأساوية في رواندا أو البوسنة، على سبيل المثال. كما أنها أصبحت تركز على الحفاظ على السلام داخل الدول، بدلًا من محاولة إنهاء الحروب بين الدول فحسب. بالإضافة إلى توسع مهامها لتشمل إعادة تنظيم الجيوش لحماية السكان وتنظيم الانتخابات.
كما أن الهيكل الوظيفي شهد بعض التطوير بتدريب الجنود، وضم بعثات الأمم المتحدة خبراء في مجال التنمية والسياسة والاقتصاد والإدارة وحقوق الإنسان، وأيضًا إزالة الألغام الأرضية والانتخابات والإعلام والاتصالات. ونتيجة لتلك التطورات؛ فإن قوات حفظ السلام أصبحت مختلفة للغاية عما كانت عليه خلال الحرب الباردة.
وعلى الرغم من أنها لم تشهد محاولات أخرى جادة للإصلاح سوى ما أثير مؤخرًا بشأن وجود محاولات لإعادة التفكير في الاستراتيجية الحالية التي تُدار من خلالها العمليات التي تقوم بها قوات حفظ السلام من أجل تحقيق سلام دائم؛ فإن المشكلة الأساسية تكمن في سوء الفهم حول كيفية جعل السلام مستدامًا، كما أشارت المقالة.
إشكالية التفسير
على الرغم من كل التطورات التي شهدتها قوات حفظ السلام؛ فإنها غالبًا ما تفشل في تحقيق التوقعات التي خططت لها، حيث يستخدم الخبراء تعريفات متباينة لقياس النجاح، لذلك يتوصلون إلى استنتاجات مختلفة. ومن ثم، فإن فشل بعثة الأمم المتحدة، لا يُعد سوى مسألة تفسير وفقًا للمقالة.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى توصل بعض الباحثين إلى تقييمات إيجابية، فعلى سبيل المثال، توصل الباحثان "مايكل جيليجان" و"إرنست سيرجينتي" إلى أن ٨٥٪ من عمليات الأمم المتحدة أدت إلى إطالة فترة السلام أو تقصير فترات الحرب. وتوصل بعض الباحثين الآخرين إلى أن نشر قوات حفظ السلام الأممية يؤدي إلى قلة عدد الوفيات في ساحة المعركة وأيضًا عدد القتلى في صفوف المدنيين.
وفي المقابل، توصل عدد من الباحثين الآخرين إلى نتائج أكثر سلبية. فمثلًا توصل الباحث "جيريمي وينستن" إلى أن ٧٥٪ من الحروب الأهلية التي شاركت فيها الأمم المتحدة تم استئنافها خلال عشر سنوات من توقفها. ومن جانبه، قام "مايكل دويل" بدراسة ١٣٨ عملية حفظ سلام، ووجد أن أكثر من نصف تلك العمليات تقريبًا فشلت خلالها قوات حفظ السلام في الحد من مستوى العنف وزيادة الديمقراطية. وكشف تحليل آخر لأحد الباحثين الذين قاموا بدراسة ١١ مهمة من مهام حفظ السلام التابعة للمنظمة الأممية أن اثنتين فقط من بينها كانت القوات قادرة فيها على بناء سلام دائم.
خلاصة القول، إن ما تناولته المقالة لا يعني التقليل من أهمية قوات حفظ السلام. ففي العديد من مناطق النزاع، تعتبر هي المسئول الوحيد عن حماية السكان المحليين من الإساءات التي يتعرضون لها من قبل الجماعات المتمردة حتى وإن كان ذلك بشكل متقطع وغير متقن. كما أنه لا توجد هيئة دولية أو آلية بديلة لإحلال السلام في البلدان التي تعاني من الصراعات. ونتيجة لذلك، ينبغي إعادة التفكير في الاستراتيجية التي تدار بها لتناسب الأوضاع القائمة بالنظر إلى الحقائق المحلية لكل مهمة من المهام التي تتولاها قوات حفظ السلام، فضلًا عن ضرورة تجنب أسباب الفشل.
المصدر:
Severine Autesserre, "The Crisis of Peacekeeping: Why the UN can't End Wars", Foreign Affairs, Issue 1, January /February 2019, p 101-116.