يتعرض قطاع النفط في فنزويلا المتدهور منذ فترة طويلة لضغوط شديدة في الآونة الأخيرة مع تطبيق الإدارة الأمريكية عقوبات جديدة عليه بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في يناير الجاري على خلفية اعتراف الولايات المتحدة بزعيم المعارضة الفنزويلية "خوان جوايدو" رئيسًا للبلاد لسحب الشرعية من الرئيس الحالي للبلاد "نيكولاس مادورو". ومن شأن العقوبات الأمريكية أن تخلق عراقيل كبيرة أمام فنزويلا في تسويق نفطها بالولايات المتحدة التي تعتبر أكبر مشترٍ له، بما قد يحرمها من جزء كبير من عائدات صادرات النفط ما لم تجد سريعًا مشترين آخرين لنفطها في الأسواق الدولية، وهذا ما قد يتسبب في نهاية المطاف في تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد، وزيادة وتيرة الضغوط السياسية والدولية على "مادورو".
تصعيد أمريكي:
زادت الإدارة الأمريكية من ضغوطها بالآونة الأخيرة على "نيكولاس مادورو" الرئيس الحالي لفنزويلا لإجباره على التخلي عن السلطة وتنصيب منافسه "خوان جوايدو" زعيم المعارضة الفنزويلية بدلًا منه، وقد اعترفت واشنطن بالأخير رئيسًا للبلاد في يناير الجاري، وهو ما دفع "مادورو" في خطوة متوقعة لقطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة في 23 يناير الجاري.
ومن أجل تدعيم سلطة "جوايدو"، وضعت الإدارة الأمريكية الأصول المملوكة للبنك المركزي الفنزويلي وللشركات الفنزويلية في البنوك الأمريكية تحت تصرف "خوان جوايدو"، كما فرضت عقوبات إضافية مؤخرًا على الاقتصاد الفنزويلي، وتستهدف بالأساس قطاع النفط الفنزويلي الذي يُعد النشاط الاقتصادي الرئيسي، علمًا بأن صادرات الخام تمثل أكثر من 95% من صادرات البلاد.
وبموجب جولة العقوبات الأمريكية الجديدة، جمدت وزارة الخزانة الأمريكية أصول شركة النفط الفنزويلية (بتروليوس دي فنزويلا) في الولايات المتحدة والبالغ قيمتها 7 مليارات دولار، كما فرضت قيودًا على مدفوعات المشترين الأمريكيين نظير واردات النفط الفنزويلية، حيث لن تتسلمها حكومة "مادورو" وإنما سيتم إيداعها في حسابات بنكية خاضعة عمليًّا لسيطرة زعيم المعارضة الفنزويلية، وينطوي ذلك أيضًا على عائدات شركة سيتيجو التابعة لشركة بتروليوس دي فنزويلا، التي تعمل في السوق الأمريكية من خلال تشغيل ثلاث مصافٍ في ولايات لويزيانا وتكساس وإيلينوي، وبطاقة كلية قدرها 750 ألف برميل يوميًّا.
وسبق وأن فرضت وزارة الخزانة الأمريكية في العامين الماضيين عقوبات على الاقتصاد الفنزويلي بهدف تقييد وصول فنزويلا للنقد الأجنبي، وشلمت حظر استثمار الأفراد أو الكيانات الأمريكية في الديون الفنزويلية، أو استخدام العملة الإلكترونية التي استحدثتها الحكومة الفنزويلية مؤخرًا، كما أبقت على إمكانية فرض عقوبات على القطاعات الاقتصادية في فنزويلا في أي وقت بالاتفاق مع وزارة الخارجية الأمريكية.
ضغوط تشغيلية:
ربما من المبكر إجراء تقييم نهائي لتبعات الأزمة السياسية الراهنة في فنزويلا على نشاط قطاع النفط، حيث من الوارد أن يتطور المشهد السياسي في البلاد بعد التدخل الأمريكي وفق سيناريوهات مختلفة قد تتمثل في انتقال السلطة إلى نظام آخر بديل، أو تفاقم الأوضاع نحو حرب أهلية تحت وطأة تصاعد حدة الانقسام السياسي بين أتباع "مادورو" و"جوايدو".
ولكن في حدود تحليل الخطوة الأمريكية بفرض عقوبات على قطاع النفط الفنزويلي، يمكن التنبؤ أنها قد تتسبب في أضرار جسيمة لشركة النفط الفنزويلية (بتروليوس دي فنزويلا) من خلال الحد من قدرتها على بيع إنتاجها من الخام بالسوق الأمريكية، مع العلم بأن الولايات المتحدة تستقبل تقريبًا نصف صادرات النفط الفنزويلية للعالم. وهذا من شأنه أن يحرم حكومة "مادورو" من جزء كبير من عائدات صادرات النفط الخام التي تمول استيراد السلع الأساسية مثل الأغذية والأدوية بما قد يتسبب في نهاية المطاف في تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد، كما يخلق صعوبات مرحلية لدى شركة النفط الفنزويلية في سداد أعباء ديونها المتافقمة والبالغة نحو 34 مليار دولار بنهاية عام 2018. وسيتوقف نجاح حكومة "مادورو" في تجاوز تبعات هذه العقوبات على إيجاد مشترين آخرين في الأسواق الدولية للخام الفنزويلي.
ونظريًّا، قد يكون لدى فنزويلا خيار متاح بتحويل وجهة صادراتها من الولايات المتحدة إلى أسواق أخرى على غرار الهند والصين التي قد تبدي اهتمامًا بشراء الخام الفنزويلي لتعويض نقص إمدادات النفط الإيراني. ومع ذلك، لن يكون من السهل نجاحها في هذه الخطوة لاعتبارات فنية تتعلق بأن معظم مصافي النفط الآسيوية مصممة لاستقبال النفط الخفيف والمتوسط، فيما يعتمد القليل منها على معالجة الخام الثقيل.
كما قد تجد فنزويلا لأسباب سياسية صعوبات في إقناع المستهلكين في آسيا بشراء إنتاجها من النفط الخام في الوقت الراهن، لا سيما مع نية الإدارة الأمريكية فيما يبدو لتحجيم وصول النفط الفنزويلي للأسواق الدولية على غرار العقوبات المفروضة على النفط الإيراني مؤخرًا.
وهذا الاتجاه أكده مستشار الأمن القومي الأمريكي "جون بولتون" عندما حذر في 30 يناير الجاري الكيانات التجارية والاقتصادية من التعامل مع فنزويلا، مهددًا إياها بمواصلة اتخاذ مزيد من الإجراءت، ويقصد بذلك فيما يبدو إمكانية قيام الإدارة الأمريكية بفرض عقوبات على الكيانات المتعاونة مع حكومة "مادورو".
إنتاج فنزويلا من النفط الخام (مليون برميل يوميًّا)
المصدر: التقارير الشهرية لمنظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك)
ومن المؤكد أيضًا أن يترتب على الانقسام السياسي بين أتباع "مادورو" و"جوايدو" الذي قد يتصاعد في الفترة المقبلة، حدوث اضطرابات أمنية واسعة في البلاد قد تهدد بدورها نشاط قطاع النفط من خلال أعمال تخريبية في مناطق الإنتاج أو إضرابات عمال النفط أو سرقات لمواقع الإنتاج، وهذا من شأنه أن يزيد من حدة هبوط إنتاج فنزويلا من النفط الخام بعد أن وصل لأقل مستوياته في 70 عامًا عند 1.1 مليون برميل يوميًّا في ديسمبر الماضي.
وحتى دون الأخذ في الاعتبار التطورات السياسية الأخيرة، فقد ذهبت غالبية توقعات مراقبي النفط إلى أن إنتاج النفط في فنزويلا قد يهبط في العام الجاري بكميات تتراوح ما بين 300 ألف إلى 400 ألف برميل يوميًّا ليصل إلى ما يتراوح بين 700 إلى 800 ألف برميل يوميًّا مع استمرار الأزمة الاقتصادية في البلاد التي حدت من قدرة الحكومة على ضح استثمارات لدعم إنتاجية الحقول.
ارتفاع محدود للأسعار:
لا يمثل إنتاج فنزويلا الحالي من النفط الخام سوى 1% من الإمدادات العالمية، وهذا ما طمأن مراقبي أسواق النفط العالمية بأن حدوث أي انقطاع في إمدادات الخام الفنزويلي للأسواق العالمية قد لا يترتب عليه إلا صعود محدود للأسعار العالمية للنفط، وهذا ما حدث بالفعل في الأيام الماضية، حيث ارتفعت أسعار خام برنت في جلسة 30 يناير الجاري تأثرًا بالعقوبات الأمريكية على قطاع النفط الفنزويلي بـ0.5% فقط إلى 61.6 دولارًا للبرميل.
فيما صعد خام غرب تكساس الوسيط الأمريكي بنسبة أكبر في نفس الجلسة وبـ1.7% وصولًا إلى 54.2 دولارًا للبرميل، ولعل ذلك يعود إلى مخاوف المصافي الأمريكية من حدوث نقص في النفط الثقيل اللازم لإنتاج وقود الطائرات والبنزين وغيرها من المنتجات النفطية بعد العقوبات الأمريكية على قطاع النفط الفنزويلي، حيث تستورد الولايات المتحدة سنويًّا من فنزويلا ما يتراوح بين 500 ألف - 600 ألف برميل يوميًّا من النفط الثقيل.
ومن اللافت أيضًا في الأيام الماضية أنه بيعت خامات النفط الثقيل (على غرار خامي لويزيانا ومارس) بالسوق الأمريكية بعلاوات سعرية بـ6 دولارات للبرميل فوق مستوى أسعار خام غرب تكساس الوسيط، مما يؤكد أن مصافي النفط الأمريكية قد تجد صعوبة في إيجاد بدائل سريعة للنفط الفنزويلي في ظل محدودية المعروض العالمي من الخام الثقيل.
خسائر الحلفاء:
تفرض تطورات المشهد السياسي الأخيرة في فنزويلا تهديدات محتملة للمصالح الروسية والصينية معها، وهما أهم الحلفاء لها منذ فترة طويلة، حيث من المتوقع أن تتسبب في تقويض العلاقات التجارية بين الطرفين، فضلًا عن أنها قد تخلق مخاطر تشغيلية كبيرة لمشاريع النفط التي تشارك بها الشركات الصينية والروسية في فنزويلا متأثرة بالاضطرابات السياسية والأمنية المحتمل تصاعدها في البلاد بالفترة المقبلة.
ومن المعلوم أن شركات النفط الروسية والصينية من أكبر المستثمرين الأجانب في قطاع النفط الفنزويلي بعد أن قام الرئيس الفنزويلي السابق "هوجو تشافيز" بين عامي 2007 و2009 بتأميم أصول الشركات الأوروبية والأمريكية في البلاد، مثل: بي بي البريطانية، وشركات إكسون موبيل، وشيفرون، وكونوكوفليبس الأمريكية.
وحاليًّا، تمتلك شركة روسنفت الروسية حصصًا في خمسة مشاريع للتنقيب والإنتاج النفط في فنزويلا، وتشكل مجتمعة حوالي 4% من إجمالي إنتاج النفط في فنزويلا، فيما تشارك الصين بحصص في عدة مشاريع من أبرزها مشروع سينوفينسا الذي تسيطر فيه مؤسسة البترول الصينية الوطنية على حصة بـ49% ويبلغ إنتاجه نحو 10% من إجمالي إنتاج فنزويلا من النفط.
كما ستدفع التطورات الأخيرة فنزويلا حتمًا لتأجيل سداد مستحقات الدائنين الرئيسيين للبلاد، ومن بينهم الصين وروسيا اللتين لا تتلقيان مستحقاتهما نقدًا وإنما كمبيعات نفط. وفي هذا الإطار، قال نائب وزير المالية الروسي "سيرجي ستورشاك" في 29 يناير الجاري: "إن فنزويلا قد تواجه مشكلات في سداد ديونها المستحقة لموسكو والبالغة 3.15 مليارات دولار في ضوء العقوبات الأمريكية على قطاع النفط الفنزويلي"، ناهيك عن ديون أخرى للصين بقيمة 19.3 مليار دولار وفق بعض التقديرات.
وبناء عليه، يمكن القول إن قطاع النفط الفنزويلي سيتضرر بشدة من العقوبات الأمريكية المفروضة عليه مؤخرًا، وهذا ما سيؤدي بنهاية المطاف لتفاقم الأوضاع الاقتصادية في البلاد، بما يزيد من حدة الضغوط المحلية والدولية على "مادورو" لدفعه للتخلي عن السلطة، هذا ما لم يتدخل حليفاه روسيا والصين لإنقاذه.