أحد أهم أسباب أزمة النظام الدولي المعاصر هو وتيرة التغير المتسارعة، ثم عدم قدرة المؤسسات المختلفة على التكيف. هناك إذن فجوة متزايدة. لا تنعكس أزمة هذا العالم على دوله ومجتمعاته فقط، بل على منظماته الدولية والإقليمية، من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى جامعة الدول العربية (بيت العرب). وقد يشعر بعض القراء بالملل ويتوقفون عن مواصلة القراءة عند ذكر هذه المنظمة التي يأسفون على غياب فاعليتها في مواجهة الأزمات الطاحنة التي تمر بها المنطقة، من استفحال قضية القدس ومذبحة الفلسطينيين من أسبوع إلى آخر، وكذلك انتشار «الحروب الجديدة» في المنطقة وظاهرة قوارب الموت عبر المتوسط حيث يُصيب تدفق اللاجئين وتكرار العمليات الإرهابية صورة العرب في مقتل.
وبالإضافة إلى تجمد هذه المنظمة والحاجة السريعة لتجديدها، فإن أزمات المنطقة أكبر من طاقتها، وهكذا أصبح «بيت العرب» غير قادر على مواجهتها وحتى استيعابها. وبما أن العالم في تغير مستمر، فإن الفجوة بين التوجه الأصلي للمؤسسة -أية مؤسسة- والوضع الجديد يُمثل مشكلة ويتطلب تكيفاً شبه مستمر. فماذا فعلت المنظمات الأخرى لمواجهة مشكلة التكيف المستمر مع ظاهرة التغير ونتائجها؟ الاهتمام بالبحث والتدريب.
أقامت الأمم المتحدة منذ عدة عقود «جامعة الأمم المتحدة»، ومقرها اليابان. أما الاتحاد الأوروبي فيخصص ميزانية بملايين اليوروهات كل عام لأبحاث من خبراء في جميع أنحاء العالم لدراسة عدة أزمات عالمية، وبحث نمطها وتأثيرها على أوروبا وكيفية مواجهتها.
ورغم أن «بيت العرب» لا يفكر بعد في تطبيق هذا الأسلوب البحثي لمواجهة مشاكله، فإن هناك أمثلة مضيئة من بعض مؤسساته التي تتبنى هذا الاتجاه العلمي عن طريق التأهيل الحرفي بوساطة البرنامج التخصصي لإعداد القيادات، والذي تبنته الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري منذ أكثر من عامين. وهدف هذا البرنامج التخصصي هو التعامل مع إحدى نتائج العولمة: أي التغيرات المتسارعة وضرورة التكيف معها من خلال التعلّم والتدريب المستمرين، بالتعاون والشراكة مع واحدة من أفضل المؤسسات الدولية في هذا المجال، وهي المدرسة الوطنية للإدارة بفرنسا، التي تخّرج منها معظم رؤساء فرنسا، بمن فيهم الرئيس الحالي ماكرون، والعديد من رؤساء الوزراء نحو نصف أعضاء مجلس الوزراء الفرنسي وعشرات الزعماء السياسيين وقادة المنظمات والمؤسسات العالمية. وبالمناسبة فإن نموذج هذه المدرسة أو الكلية يُطبَّق في القسم الفرنسي في كندا لتدريب كبار الموظفين.
الجهة المختصة لتنفيذ ذلك البرنامج التدريبي العربي المتميز هي المعهد العربي لإعداد القيادات، والذي يُساعد هذه القيادات على التعامل مع الجديد بأساليب غير تقليدية وعلى صقل وتنمية الكفاءات القيادية بصورة علمية. والهدف هو «إثراء مخزون الكوادر البشرية المرشحة للمناصب العليا والوسطى بعناصر جديدة ومتميزة من القيادات المدربة على أعلى مستوى من التخصص والحرفية».
هذا الإسهام العلمي على مستوى القيادات العليا والوسيطة سيؤدي إلى إصلاح أعم، حيث ينتج عنه انتشار العقلانية في اتخاذ القرارات وعلى أساس معلوماتي وليس توكلي أو ارتجالي كما يحدث في كثير من الأحيان. ثم إن مثل هذه القيادات الرشيدة تُصبح قدوة للمستويات الأدنى، وبالتالي ينتشر مبدأ الحرفية والأسلوب العلمي في المؤسسة والمجتمع ككل. وبالتالي فإن هذا البرنامج التخصصي لإعداد القيادات، والمعهد العربي الذي ينفذه، يُسهمان معاً في إصلاح «بيت العرب» على مستويات أكبر بكثير مما تراه العين المجردة ولمدة زمنية تتعدى الأعوام. إنه مساهمة يتعدى انتشار العديد من بنوك الفكر في المنطقة العربية، لأن فاعليته طويلة الأمد.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد