شكّل إعلان الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" في مارس 2018، قبول دعوة نظيره الكوري الشمالي لعقد اجتماع معه في مايو المقبل، مفاجأة للعديد من المُتابعين للتفاعلات الدولية. فعلى الرغم من سياسات المهادنة التي اتبعتها بيونج يانج تجاه جارتها الجنوبية والولايات المتحدة؛ إلا أن التفاوض المباشر بين "دونالد ترامب" و"كيم جونج أون" لم يكن مُتخيلًا حتى من جانب وزير الخارجية الأمريكي السابق "ريكس تيلرسون" الذي أعلن أن الرئيس لم يقم باستشارته قبل اتخاذ هذا القرار، وهو ما يُثير تساؤلات حول دوافع انعقاد هذه القمة والقضايا التي ستتم مناقشتها، ومشروطيات نجاح المفاوضات بين الطرفين.
سوابق تاريخية:
يزخر التاريخ الأمريكي باجتماعات شبيهة بقمة "ترامب-كيم جونج أون" المنتظرة، حيث سبق وأن التقى رؤساء أمريكيون بقادة دول يمكن وصفهم بالغرماء للولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يمكن الإشارة إليه فيما يلي:
1- الاجتماع غير الرسمي بين كينيدي-خورتشوف في يونيو 1961 بفيينا، والذي انعقد في أوج الحرب الباردة، ولم يخرج أي من الطرفين بنتائج ملموسة نتيجة عدم التخطيط الجيد للاجتماع، وعدم وجود أجندة واضحة له. وعلى النقيض من كافة التوقعات، تدهورت العلاقات بين المعسكر الشرقي والغرب بشكل كبير بعد الاجتماع، وتم بناء جدار برلين في أغسطس 1961 بعد شهرين فقط من هذا الاجتماع.
2- اجتماع نيكسون-ماو تسي تونج في فبراير 1972 ببكين، وهو اللقاء الذي نجح في تخفيف حدة التوتر بين البلدين. ويُشبّه العديد من المحللين اللقاء المرتقب بين "ترامب" و"كيم جونج أون" بهذا الاجتماع، حيث كان "نيكسون" من أشد المعادين للشيوعية، ولم يكن من المتوقع أن يقوم بزيارة لأحد أقطاب الشيوعية.
3- لقاء ريجان-جورباتشوف في نوفمبر 1985 بجنيف، وقد أشار "ريجان" بعد هذا اللقاء أنه لن يزعم بوجود قواسم مشتركة كثيرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، ولكن على الأقل أصبح الطرفان يفهمان بعضهما بشكل أفضل، إلا أن الاجتماع الذي تلاه في أكتوبر 1986 لم يحقق أي نتائج ملموسة فيما يتعلق بالحد من التسلح.
4- قمة أوباما-راؤول كاسترو في أبريل 2015 في بنما، وهو اللقاء الأول بين رئيسي الدولتين منذ نصف قرن، وقد جاء ذلك في إطار رغبة "أوباما" في تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع كوبا. وأكد "أوباما" في نهاية الاجتماع أن هناك اختلافات بين الجانبين، ولكنهما سيعملان على تعظيم مصالحهما المشتركة. وبشكل عام، يُمكن القول إن هذه الاجتماعات لم تتمكن من تحقيق أهدافها في معظم الأحيان.
دوافع الانعقاد:
تتعدد الدوافع التي حفّزت كلًّا من "دونالد ترامب" و"كيم جونج أون" لقبول التفاوض المباشر، وعقد قمة رئاسية فيما بينهما، وتتمثل أهم هذه الدوافع فيما يلي:
1- قوة الردع: تمكنت كوريا الشمالية من رفع قدرتها في تصنيع الأسلحة النووية، واستطاعت امتلاك قوة ردع موثوق بها إلى حد كبير، وهو ما سيُعزز موقفها التفاوضي. فعلى سبيل المثال، أطلقت بيونج يانج في نوفمبر 2017 صاروخًا باليستيًّا عابرًا للقارات "هواسونج-15"، وقد أشارت وزارة الدفاع في كوريا الجنوبية إلى أنها تعتقد أن من الممكن أن يقطع الصاروخ مسافة أطول من 13 ألف كم، وهو ما يعني أن مداه يصل إلى واشنطن بالولايات المتحدة.
2- العقوبات الاقتصادية: من ناحية أخرى تزايدت العقوبات الاقتصادية المفروضة على بيونج يانج، وتزامن مع هذا تراجع الدعم الصيني، والتي كانت تعد الحليف الأول لكوريا الشمالية، خاصة بعد أن امتثلت بكين لعقوبات الأمم المتحدة، وقامت بإيقاف واردات خام الحديد والرصاص والمنتوجات البحرية والتي كانت تأتي من كوريا الشمالية، وهو ما أثر على الاحتياطي النقدي الأجنبي بشكل كبير.
3- صعوبة التنبؤ: تصاعدت تهديدات الولايات المتحدة بتوجيه ضربة عسكرية محدودة لكوريا الشمالية، أو ما تطلق عليه الإدارة الأمريكية (Bloody Nose)، والتي لن تكون ضربة مدمرة، ولكنها ستكون بمثابة إنذار لكوريا الشمالية للتراجع عن نهجها التصعيدي، وهو التهديد الذي ربما تعاملت معه الحكومة الكورية بشكل مختلف هذه المرة، حيث تعاملت بيونج يانج على مدى سنوات طويلة مع قادة متوقَّعِين(predictable) ، بيد أن ترامب لا يمكن التنبؤ بتصرفاته.
4- المهرب الخارجي: على الصعيد الأمريكي لم يملك "ترامب" خيارًا آخر سوى قبول دعوة كوريا الشمالية، وإلا فسيكون بمثابة إعلان صريح عن عدم رغبته في السعي لحل دبلوماسي للأزمة. ويُلاحَظ أنه قام بالموافقة بشكل سريع دون الرجوع لبعض أفراد إدارته المهمّين، وهو ما قد يرجع لطبيعة شخصية "ترامب" المتهورة. كما رأى بعض المحللين أن الموافقة السريعة تعود إلى رغبته في صرف النظر عن المشكلات الداخلية، وقضية تدخل موسكو في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث تُعد هذه القمة بمثابة انتصار رمزي يُعزز من وضعه في الداخل.
قضايا المفاوضات:
لم يتم الإعلان عن مكان انعقاد القمة حتى الآن، ومن المستبعد أن تنعقد القمة في بيونج يانج، حيث من غير المرجح أن يقوم "ترامب" بهذه الخطوة التي ستعمل بشكل ما على تعزيز شرعية نظام كوريا الشمالية، كما يُستبعد أن يقوم "كيم جونج أون" بزيارة الولايات المتحدة، لذا قد يتم عقد اللقاء في كوريا الجنوبية أو دولة غير طرف في القضية بشكل مباشر، مثل سويسرا أو سنغافورة أو السويد، كما أشارت بعض التقارير الصحفية.
ويتوقع المحللون أن تناقش هذه القمة مصير البرنامج النووي الكوري، وقد تطالب كوريا الشمالية بضرورة "ضمان أمن بيونج يانج"، والذي يعني سحب القوات الأمريكية من شبه الجزيرة الكورية نهائيًّا، وهو ما يرتبط بضرورة أن تقوم كوريا الشمالية بالتوقيع على معاهدة السلام مع جارتها الجنوبية.
كما قد تشمل أجندة الاجتماع موضوع إطلاق سراح الأمريكيين الذين ما زالت كوريا الشمالية تحتجزهم كرهائن، بالإضافة إلى أنه من المنتظر أن يطلب "كيم جونج أون" تقديم مساعدات إنسانية لشعبه، لا سيما وأن الدعم الغذائي المقدم لها قد تراجع بشكل كبير بسبب رفضها السماح للأمم المتحدة بمراقبة توزيع الأغذية، بالإضافة للعقوبات المفروضة عليها أيضًا. وفي هذا الإطار، أشار مؤشر الجوع العالمي لعام 2016 إلى أن اثنين من كل خمسة أشخاص في كوريا الشمالية يعانون من نقص التغذية.
مشروطيات النجاح:
يتوقف نجاح القمة في تحقيق أهدافها على تحقق عددٍ من الشروط يتمثل أهمها فيما يلي:
1- التوافق على التنازلات: لا تعني رغبة كوريا الشمالية في عقد القمة أنه أصبحت لديها قناعة بضرورة إيقاف برنامجها النووي بشكل كامل، حيث يُعتبر مصدر شرعية للنظام الحالي، وفي المقابل يُصر "ترامب" على تفكيك ترسانة بيونج يانج النووية بشكل كامل، وعلى الرغم من أن "ترامب" أشار في تغريدة له على موقع التواصل الاجتماعي تويتر في مارس 2018، إلى أن "كيم جونج أون" ناقش نزع الأسلحة النووية مع ممثلي كوريا الجنوبية، وليس فقط مجرد تجميد للأنشطة النووية، إلا أن ذلك لم يقابله أي تأكيد من بيونج يانج.
ونقلت صحيفة "واشنطن بوست" تصريحات لسفير كوريا الشمالية في الأمم المتحدة بنيويورك، أشار خلالها إلى وجود تطورات "للقرار الشجاع الذي اتخذه أون"، وأكد على ضرورة ضمان السلام والاستقرار في شبه الجزيرة الكورية ومنطقة شرق آسيا، مما يؤكد التكهنات الخاصة بموافقة بيونج يانج على وقف التجارب الصاروخية، ولكن هذا لا يؤكد امتثالها لتفكيك ترسانتها النووية بالكامل، فمن الواضح أن هناك اختلافات جوهرية بين واشنطن وبيونج يانج حول تفسير مفهوم نزع السلاح النووي.
2- كفاءة التنظيم والتواصل: من المنتظر أن تسبق هذه القمة تحضيرات واجتماعات مكثفة لتقريب وجهات النظر فيما يخص القضايا المحورية. فبدء المفاوضات وكل منهما لديه افتراضات خاطئة عن نوايا الطرف الآخر، وشعور كل منهما بأنه في وضع تفاوضي أقوى (in the driver seat)؛ قد تكون له عواقب كارثية، حيث يشعر "كيم جونج أون" بأنه في وضع قوي بعد عدد من التجارب الصاروخية الناجحة، فيما قد يتعاظم هذا الشعور لدى "ترامب" نظرًا لقوة دولته ومناهضة المجتمع الدولي لتجارب كوريا الشمالية، وقد تؤدي رغبة الزعيمين في تحقيق نتائج سريعة إلى إخفاق المفاوضات.
وفي هذا الإطار، تواجه إدارة "ترامب" بعض التحديات على مستوى التنسيق، خاصة بعد تقاعد الممثل الأمريكي الخاص لسياسة كوريا الشمالية في وزارة الخارجية "جوزيف يون" في فبراير 2018، وهو الأمر الذي أثار العديد من المخاوف، حيث يُعد "يون" من أكبر الدبلوماسيين المعنيين بالشأن الكوري الشمالي ولديه خبرة تزيد عن 30 عامًا في هذا الصدد. وهو ما دفع "هيذر ناورت" المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية إلى التصريح بأن: "وزارة الخارجية لديها 75 ألف فرد يعملون من أجلنا في أنحاء العالم. التلميح بأن السفير يون هو الوحيد القادر على التعامل مع كوريا الشمالية أمر خاطئ تمامًا"، من جانب آخر، لم يقم "ترامب" بتعيين سفير جديد في كوريا الجنوبية حتى الآن، وهو المنصب الذي يُعد في غاية الأهمية في المرحلة الحالية.
3- تعزيز المساندة الدولية: حيث يجب تضمين عدد من الدول في صياغة الاتفاق النهائي، ويأتي على رأسهم الصين وروسيا اللتان تُعدان من الوسطاء التقليديين في هذه الأزمة، بالإضافة إلى ضرورة إشراك عدد من الدول الآسيوية الكبرى مثل اليابان. وفي هذا الإطار، أعلن كبير المستشارين الأمنيين لرئيس كوريا الجنوبية في مارس 2018 أنه سيقوم بزيارة كل من بكين وموسكو وطوكيو.
كما قام "كيم جونج أون" بزيارة بكين في 25 مارس 2018، وهي الزيارة الرسمية الأولى له خارج البلاد منذ توليه مهام منصبه عام 2011، وتم الإعلان عن أن الهدف منها تهنئة نظيره الصيني بإعادة انتخابه كرئيس للصين. كما ناقش الجانبان الإعداد للقمة المرتقبة، وقد صرح "كيم جونج أون" في إطار هذه الزيارة بـ"أن نزع السلاح النووي في شبه الجزيرة الكورية ممكن في حال اتخذت واشنطن وسيول إجراءات متسقة ومتضافرة لتحقيق السلام".
4- مصداقية توجهات الطرفين: تتصاعد المخاوف من أن تكون هذه المبادرة من كوريا الشمالية مجرد اتباع لأسلوب الزعماء السابقين المعتمد على التصعيد لبعض الوقت، ثم اللجوء إلى المفاوضات للحصول على مزايا اقتصادية، فيما تشير بعض التحليلات إلى أن الهدف الرئيسي لهذه المبادرة هو خلخلة التحالف بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، ومن ثم يظلّ نجاح القمة مرهونًا بوجود رغبة صادقة لدى كوريا الشمالية في حل الأزمة باللجوء إلى المسار الدبلوماسي.
إجمالًا، يُمكن القول إنه في حال نجاح هذه القمة فسوف يُسهم هذا بشكل محوري في إنهاء الصراع في شبه الجزيرة الكورية، كما أنه سيُعزز من مكانة "ترامب" وإدارته في الداخل الأمريكي، فضلًا عن أن مجرد التوصل إلى قدرٍ من التفاهم خلال هذه القمة سيكون بمثابة تفويض من القمة إلى القاعدة لعقد المزيد من الاجتماعات الفنية، وفي جميع الأحوال سيقوم "كيم جونج أون" باستغلال هذه المفاوضات كوسيلة دعائية لنظامه، وفي حالة إخفاق القمة فسوف تترسخ لدى "ترامب" قناعة بأن التفاوض لن يجدي نفعًا في هذه الأزمة مما قد يدفعه لاستخدام الحل العسكري.