تصاعد الحديث في الأدبيات النظرية والسياقات المحلية لبؤر الصراعات بالمنطقة عن تعبير الممرات الإنسانية أو المعابر الإنسانية أو الممرات الهادئة، التي تدعو إليها بعض أطراف الصراعات المحلية أو القوى الإقليمية والدولية للتهدئة أو الانسحاب أو التهجير أو الإخلاء أو الحماية للمدنيين والعسكريين أثناء الأعمال القتالية بحيث تكون تلك الممرات أقرب إلى المناطق المحمية أو الملاذات الآمنة.
غير أن ثمة تحديات تواجه عمل هذه الممرات جعلتها، في بعض الأحيان، "غير آمنة" أو ما يطلق عليه "تضاريس الموت"، وترتبط بعدم الاتفاق بين الأطراف المتصارعة على إقامة تلك الممرات، والاستثناءات المطبقة على بعض الفصائل المسلحة في اتفاقيات الهدنة، وغياب الحماية العسكرية من قبل قوات الأمم المتحدة، واستهداف الممرات لإخراج المدنيين الداعمين للمعارضة المسلحة، والتعرض لموجة جديدة من النزوح الإجباري.
إن هناك عدة مهام تقوم بها الممرات الإنسانية في بؤر الصراعات المسلحة بالمنطقة، على نحو ما تشير إليه خبرات سوريا والعراق واليمن وليبيا وجنوب السودان، خلال الأعوام الثلاثة الماضية، ويمكن تناولها في التالي:
حماية العالقين:
1- إنقاذ أرواح المدنيين: تستخدم الممرات الآمنة لمنح المدنيين العالقين والمحاصرين في مناطق الاشتباك وخطوط القتال فرصة الانسحاب لأغراض إنسانية بحتة دون التعرض لهم، وهو ما يحدث خلال فترات الصراع المسلح التي تتميز بالشدة. ويدعم هذا الهدف ما ينص عليه القانون الدولي الإنساني وتحديدًا المادة "23" من الاتفاقية الرابعة ضمن اتفاقيات جنيف لعام 1949 من "حرية مرور المساعدات المتضمنة الأدوية والمواد الصحية والأغذية والثياب للسكان المدنيين وتسهيل عمليات الانسحاب عن طريق ممر آمن".
فقد أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 27 فبراير 2018، بتنفيذ وقف يومي لإطلاق النار لمدة خمس ساعات (من الساعة التاسعة صباحًا وحتى الثانية ظهرًا) في الغوطة الشرقية التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة بداية من اليوم التالي، وفتح "ممر إنساني" يمكن للمدنيين أن يغادروا من خلاله بعد تزايد المواجهات في الغوطة.
كما دعت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورنس بارلي، في 9 فبراير 2018، إلى "إنهاء الضربات الجوية في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في محافظة إدلب وشرق دمشق وفتح ممرات إنسانية في أسرع وقت ممكن"، وقالت في هذا السياق: "إن استهداف المدنيين أمر غير مقبول".
على جانب آخر، طالب رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبية فائز السراج الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، في 2 نوفمبر 2017، بـ"التدخل السريع للمساعدة في فتح ممرات آمنة للمنظمات الإنسانية وفي مقدمتها الهلال الأحمر والصليب الأحمر لإدخال المساعدات الإنسانية والاحتياجات الضرورية لسكان مدينة درنة". كما وجهت المنظمة العالمية للهجرة نداءات لفتح ممرات إنسانية في عامى 2016 و2017 للوصول إلى آلاف العراقيين الذين هربوا من المعارك في مواجهة تنظيم "داعش".
استبعاد الخصوم:
2- إخراج المقاتلين المسلحين: في بعض الحالات، يمكن السماح للخصوم بالانسحاب عبر تلك الممرات بعد الاتفاق على آليات تنفيذ ذلك، وهو ما حدث في ليلة 9 مارس الجاري لمسلحي الغوطة الشرقية الذين خرجوا من ممر أو معبر الوافدين. وفي هذا السياق، قالت وزارة الدفاع الروسية، في 6 مارس الجاري، أنه "يمكن لمقاتلي المعارضة السورية الخروج الآمن من الغوطة الشرقية بدمشق مع أسرهم وأسلحتهم الشخصية عبر ممر آمن من الجيب الذي حققت فيه القوات الحكومية السورية مكاسب خلال الأيام الماضية"، وأضافت: "سيتم توفير سيارات وتأمين المسار بأكمله".
ولم يحدد المقترح الروسي أى مكان سيذهب مقاتلو المعارضة إليه، لكنه يعيد إلى الأذهان اتفاقات سابقة تخلى بموجبها المقاتلون عن أراضي مقابل الخروج بسلام إلى مناطق أخرى قرب الحدود السورية- التركية.
مجتمعات متضررة:
3- إغاثة السكان المواطنين: أعلنت الأمم المتحدة أنها ستفتح ممرًا إنسانيًا رابعًا في نهاية نوفمبر 2017 إلى دولة جنوب السودان عبر السودان، إضافة إلى ثلاث ممرات أخرى لتوصيل المساعدات الإنمائية والغذائية للسكان الذين يعانون المجاعة بحيث يتم نقل تلك المساعدات من خلال ممر يربط بين ولاية النيل الأبيض بالسودان وولاية أعالي النيل بجنوب السودان.
رعاية المخيمات:
4- تخفيف معاناة النازحين: ناشد أهالي مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين جنوب دمشق، في 21 فبراير 2018، في بيان نشرته مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا، بفتح ممر إنساني عاجل لإخراج الحالات الإسعافية والمرضية، لا سيما في ظل نقص الرعاية الصحية والطبية وحرية التنقل إلى مشافي العاصمة، فضلاً عن الحرمان من أبسط مقومات الحياة للمقيمين في هذا المخيم.
ورغم خروج بعض المرضى من دمشق للعلاج خلال عام 2017، عبر موافقات تمنحها منظمة التحرير الفلسطينية بعد التنسيق مع الأجهزة الأمنية السورية، لكن ذلك الوضع توقف بنهاية العام المذكور.
تمكين اللاجئ:
5- إعادة توطين اللاجئين: أعلن وزير الداخلية الإيطالي ماركو منيتي، في 24 ديسمبر 2017، أن "ما يصل إلى عشرة آلاف شخص عالقين في مخيمات لاجئين في ليبيا يمكن أن يستفيدوا في عام 2018 من ممرات إنسانية تقلهم بأمان إلى أوروبا مع تمكينهم من وضع لاجئ".
وقد اختيرت المجموعة من المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة التي اعتبرتهم من الأساس لاجئين وليسوا من طالبي لجوء. وتبعًا لهذه الصفة، يستفيدون حال وصولهم إلى روما من مساعدة اقتصادية فضلاً عن الاندماج الاجتماعي بكل ما يشتمل عليه من دروس لتعلم اللغة الإيطالية وتدريب على مهن محددة وإلحاق الأطفال بالمدارس.
كما أطلقت مجموعة من الكنائس في إيطاليا، مثل اتحاد الكنائس البروتستانتية وكنائس كاثوليكية، في عام 2015، مبادرة لإعادة توطين اللاجئين، لا سيما بعد تزايد معدلات الهجرة غير الشرعية في السنوات القليلة الماضية أثناء محاولاتهم عبور البحر الأبيض المتوسط باتجاه أوروبا، ولمكافحة عصابات تهريب البشر الذين يمثلون جماعات مصالح إجرامية مستفيدة من مضاعفات الفوضى في المنطقة.
وقد نجحت تلك الكنائس في إبرام اتفاقية مع الحكومة الإيطالية تسمح بالهجرة الشرعية لمن هم في حاجة ماسة للحماية. وتستند تلك الاتفاقية إلى المادة "25" من قانون الاتحاد الأوروبي رقم 810/2009، والتي تمنح الأجانب تأشيرة تخولهم الإقامة في منطقة جغرافية محددة. وتركز المبادرة على توطين اللاجئين القادمين من لبنان والمغرب بغض النظر عن خلفياتهم الدينية أو العرقية.
ويتمثل هؤلاء المشمولين بمبادرات الممرات الإنسانية في ضحايا الصراعات المسلحة والاضطهاد، والنساء الحوامل والأمهات غير المتزوجات، والقصر الذين لا يرافقهم أقاربهم، وضحايا الإتجار بالبشر، والمرضى العاجزون، وأولئك الذين يعانون من أمراض خطيرة. وتجرى عملية الاختيار وفق ثلاث خطوات: أولها، قيام فريق من المبادرة بزيارة مخيمات اللاجئين في البلدين، على أن يتولى الفريق بالتعاون مع المفوضية السامية لشئون اللاجئين عملية الاختيار وإجراء مقابلات مع من يقع عليهم الاختيار.
وثانيها، توفير رحلة آمنة لمن وقع عليهم الاختيار إلى إيطاليا عبر الطرق الشرعية بدلاً من المخاطرة بركوب قوارب متهالكة، ويتم اصطحاب أمتعتهم الشخصية. وثالثها، تقديم العون لإدماجهم بالمجتمع عقب وصولهم لإيطاليا، ويشمل ذلك إيجاد مسكن وتوفير دروس لتعلم اللغة الإيطالية وإلحاق الأطفال بالمدارس والمساعدة في العثور على فرص عمل. ومع نهاية أكتوبر 2017، بلغ إجمالي من تم إعادة توطينهم في إيطاليا ألف شخص، وتم تمديد المبادرة لإعادة توطين ألف شخص آخرين في عامى 2018 و2019. ونظرًا لنجاح المبادرة، أطلقت فرنسا، في مارس 2017، مبادرة مشابهة لفتح ممرات إنسانية بلبنان لاستقبال 500 لاجئ.
خطة إسناد:
6- تحسين أوضاع المواطنين: على نحو ما تشير إليه خريطة الممرات الآمنة في اليمن بعد إطلاق خطة "إسناد" التي تتجاوز مجرد توفير المساعدات والإغاثة للشعب اليمني إلى التنمية الشاملة، وفقًا لما ذكره السفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر، في تصريحات إعلامية بتاريخ 2 فبراير 2018، حيث قال أن "هدف البرنامج الإنساني خطة طويلة المدى شاملة عبر استغلال الممرات الآمنة الـ17 التي تنطلق من 6 مراكز رئيسية".
وتهدف هذه الخطة إلى توسيع الموانئ، وتمهيد الطرق، وتوزيع المنافذ، فضلاً عن توفير فرص عمل لآلاف الأشخاص، وتأسيس جسور إغاثية تحمل مساعدات لمناطق جغرافية لم تصلها الخدمات أو المساعدات. ويأتي تنفيذ هذه الخطة بالتنسيق مع الحكومة اليمنية الشرعية وقوافل الأمم المتحدة والمنظمات الدولية بهدف معالجة الأزمة الإنسانية في البلاد ومواجهة عرقلة تسليم المساعدات في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.
استهداف الحقيقة:
7- حماية الصحفيين والإعلاميين: يغطي بعض الصحفيين مناطق الصراع ويقوموا بنقل أخبار المواجهات المسلحة وإطلاع الرأى العام المحلي والإقليمي والدولي على واقع ما يحدث استنادًا إلى حقائق ميدانية، الأمر الذي يستلزم بلورة آليات لحمايتهم من التهديدات التي يتعرضون لها على نحو دفع البعض إلى المطالبة بتخصيص ممرات آمنة للصحفيين في مناطق الصراعات على غرار الممرات الإنسانية.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك محددين حاكمين للمطالبة بتوفير ممرات آمنة للصحفيين: أولهما، أن الضحية الأولى في الصراعات المسلحة أو الحروب الداخلية هى الحقيقة، التي يحاول كل طرف تلوينها وفقًا لمصالحه. وثانيهما، تصاعد مشكلة الإفلات من العقاب في حالات استهداف الصحفيين والإعلاميين في الصراعات المسلحة.
عوائق متعددة:
غير أن هناك مجموعة من التحديات التي تعد عائقًا لنجاح الممرات الإنسانية في القيام بمهامها المبتغاة، وتتمثل في:
1- عدم الاتفاق بين الأطراف المتصارعة على إقامة الممرات: إذ أن أية قرارات غير توافقية تؤسس لفرض ملاذات آمنة للمدنيين أو اللاجئين الفارين من بؤر الصراعات لا يثمر عنها نجاحات ملموسة، لا سيما في ظل تباين أهداف كل طرف، حيث يهدف الجيش السوري إلى استعادة مساحات أكبر من الأراضي وعزل مناطق الفصائل، فيما تهدف روسيا إلى تعزيز قواعدها العسكرية في سوريا.
ويأتي ذلك في ظل عدم وجود مؤشرات لضغط دولي لوقف قصف الغوطة الشرقية، بحيث ستلقى الأخيرة نفس مصير المناطق الأخرى التي استعاد الجيش النظامي السيطرة عليها، حيث أصبحت الممرات الإنسانية في النهاية، طرقًا لهروب مقاتلي المعارضة المهزومين، لا سيما في ظل كثافة إطلاق النيران بين الأطراف المختلفة.
وفي هذا السياق، قالت المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في سوريا إنجي صدقي، في 1 مارس الجاري: "من الصعب أن يستخدم أى مدني ممرات العبور إذا لم تكن هناك ضمانات كافية. لن تخاطر أسرة مؤلفة من أم وأطفال بحياتها إذا لم يكن لديها ضمانات السلامة اللازمة"، وأضافت: "هناك نوع من التخوف لدى المدنيين بسبب عدم وجود توافق بين الأطراف".
2- الاستثناءات المطبقة على بعض الفصائل المسلحة في اتفاقيات الهدنة: وهو ما ينطبق جليًا على الحالة السورية. فعلى سبيل المثال، طالب قرار مجلس الأمن رقم 2401، وفقًا للأعمال الحربية، بتطبيق الهدنة على كل الأراضي السورية من دون تأخير لمدة 30 يومًا، بهدف إفساح المجال أمام إيصال المساعدات الإنسانية بشكل منتظم وإجلاء طبي للمرضى والمصابين بجروح بالغة.
ويستثنى القرار تنظيمات "داعش" و"القاعدة" و"جبهة النصرة" في إشارة إلى "هيئة تحرير الشام" وكل المجموعات والأشخاص المرتبطين بها. وتفتح هذه الاستثناءات الطريق أمام تفسيرات متناقضة، لا سيما أن نظام الأسد يعتبر فصائل المعارضة "تنظيمات إرهابية" على نحو يهدد التطبيق التام لوقف إطلاق النار.
3- غياب الحماية العسكرية من قبل قوات الأمم المتحدة: ترتبط إحدى المعضلات الرئيسية التي تواجه الممرات الإنسانية بضعف قدرة الأطراف الدولية والإقليمية على كبح التنظيمات المسلحة المنخرطة في تلك الصراعات وإلزامها باحترام الترتيبات الإنسانية والأمنية المتخذة في هذا الشأن. في حين ترى قوى المعارضة المسلحة والتنظيمات المتطرفة أن الهدف هو الترويج لاتفاقيات هدنة هدفها إرباك القوى المسلحة.
لذا، تبقى الممرات الآمنة عرضة للخطر خاصة في الصراعات الداخلية المسلحة، ويتم عادة اقتراح قوات دولية من الأمم المتحدة أو قوى إقليمية أو متعددة الجنسية لحفظ السلام لحماية هذه الممرات. إلا أن قوات حفظ السلام، في حالة استعمالها القوة حسب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، تفقد جزءًا من حياديتها وتجردها، بشكل يجعلها خاضعة لمبدأ استعمال القوة المسلحة والتدخل في شئون الخصوم.
4- استهداف الممرات لإخراج المدنيين الداعمين للمعارضة المسلحة: يفترض أن تهدف هذه الممرات إلى حماية المدنيين المتضررين من الأعمال القتالية بين أطراف الصراعات. غير أن هذه الممرات قد تساعد، في بعض الأحيان، في عملية قتل المدنيين من قبل تلك الأطراف. فثمة شكوك لدى المدنيين بشأن الممرات التي تحدد كطرق آمنة.
فعلى سبيل المثال، اتهم الإعلام السوري الرسمي الفصائل المعارضة باستهداف معبر "الوافدين" (الواقع شمال شرق مدينة دوما) لخروج المدنيين، الأمر الذي نفاه حمزة بيرقدار المتحدث العسكري باسم "جيش الإسلام"، أبرز الفصائل في الغوطة الشرقية.
5- التعرض لموجة جديدة من النزوح الإجباري: تدفع الدعوة التي تطرح على السكان السوريين في مناطق الغوطة الشرقية هؤلاء إلى الاختيار ما بين الموت تحت القصف أو النزوح الإجباري، على الرغم من أنه يفترض عدم إجبار الفارين على سلك طرق محددة أو التوجه إلى مناطق معينة.
خلاصة القول، إن دعم دور الممرات الإنسانية في بؤر الصراعات المسلحة في المنطقة العربية يُستعصى، في كثير من الأحيان، لتعددية الأطراف المؤثرة على فاعليتها سواء كانت الأطراف المتنازعة أو المجتمعات المحلية المتضررة أو منظمات المجتمع المدني أو وكالات الأمم المتحدة أو المنظمات غير الحكومية الدولية وغيرها، لا سيما في ظل تزايد منسوب الأزمات الإنسانية الحادة نتيجة الاضطرابات السياسية والفوضى الأمنية، والتي لا توجد مؤشرات تكشف عن تجاوزها في الأمد المنظور.