حظيت الزيارة التاريخية للعاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى القاهرة، باهتمام كبير، بالنظر إلى دلالاتها فيما يخص العلاقات الثنائية بين السعودية ومصر، فضلاً عن انعكاساتها الإقليمية على عدد من القضايا المهمة.
وتأتي هذه الزيارة في ظل أجواء إقليمية غير مستقرة، تتجلى مظاهرها في تصدع بعض الدول التي تشهد حروباً داخلية، وصعود فاعلين من غير الدول، وتزايد خطر الإرهاب، ووجود مساعي لقوى إقليمية توسيع نفوذها خارج حدودها، فضلاً عن تغير خريطة اهتمام القوى الدولية الكبرى بالمنطقة، لاسيما بعد عودة روسيا للانخراط بشكل كبير في التفاعلات الإقليمية، وتراجع التأثير الأمريكي في بعض الأزمات.
وفي ظل هذه التغيرات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وما تفرضه مجريات الأحداث بها من تهديدات لدول الإقليم، أصبحت القاهرة والرياض بحاجة ماسة إلى مزيد من التنسيق بشأن هذه التحديات، خاصةً ما يتعلق بالموقف من الأحداث في سوريا واليمن وليبيا، فضلاً عن المخاطر الإيرانية.
وقد شكلت الزيارة الحالية للعاهل السعودي خطوة كبيرة على صعيد العمل العربي المشترك، لتؤكد أن نقاط الاتفاق بين مصر والسعودية كبيرة، وأن ثمة شعوراً مشتركاً بأهمية التنسيق بينهما، فضلاً عن إدراك الرياض ضرورة الاستمرار في دعم القاهرة اقتصادياً من خلال زيادة الاستثمارات والمشروعات التي تحقق منفعة للبلدين.
أهداف الزيارة
سعت مصر والسعودية إلى تحقيق عدد من الأهداف من هذه الزيارة التاريخية، لعل في مقدمتها ما يلي:
1- دعم العلاقات الاقتصادية والاستثمارات المتبادلة، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين مصر والسعودية، خلال عام 2014 /2015، حوالي 5 مليارات دولار. كما تحتل الاستثمارات السعودية المرتبة الأولى ضمن الدول المستثمرة في مصر بإجمالي مساهمات سعودية في رؤوس الأموال المصدرة للشركات بلغت حتى 2016، حوالي 6.13 مليار دولار.
وقد تم الإعداد المسبق لزيارة الملك سلمان قبل مجيئه للقاهرة، حيث تم عقد ثلاث جولات لمجلس التنسيق المصري - السعودي، إضافة إلى الاجتماع الخامس لرجال الأعمال وممثلي الشركات، بهدف إزالة العقبات أمام الشركات والمستثمرين السعوديين في مصر، مما يمهد الطريق أمام الانتقال إلى مرحلة الشراكة الاقتصادية بين البلدين.
2- وضع حد لما يُثار من لغط بشأن توتر العلاقات السعودية – المصرية، في ضوء ما يتردد عن اختلاف مواقفهما إزاء تسوية عدد من الملفات في منطقة الشرق الأوسط. وفي مقدمة هذه الملفات، الوضع في سوريا، حيث يرى البعض أن ثمة تبايناً في الموقفين السعودي والمصري من الأزمة السورية، إذ تتبنى المملكة موقفاً واضحاً وهو الإطاحة بنظام بشار الأسد، حتى لو استدعى الأمر التدخل البري في سوريا.
ومن جهتها، تدعم مصر الخيار السياسي لحل الصراع السوري، وأن يقرر الشعب السوري مصيره بنفسه، بعيداً عن البدائل العسكرية، مع التأكيد على حماية سوريا من أن تقع بأيدي جماعات إرهابية، مثل "داعش".
وبالتالي، فإن زيارة الملك سلمان إلى القاهرة استهدفت تقريب وجهات النظر مع الجانب المصري في التعامل مع الأزمة السورية، وغيرها من القضايا في الإقليم، مثل الأوضاع في كل من اليمن وليبيا، وملف القوة العربية العسكرية المشتركة.
3- أراد الملك سلمان التأكيد، من خلال زيارته إلى القاهرة، أن المملكة العربية السعودية لا تزال تدعم مصر، استمراراً للنهج الذي تتبناه الرياض منذ ثورة 30 يونيو 2013. فيما سعت القاهرة إلى طمأنة الرياض بشأن موقفها إزاء مختلف القضايا الإقليمية، ولعل هذا ما أكده الرئيس السيسي بأن التنسيق مع السعودية يمثل نقطة انطلاق حقيقية لحل المشكلات في المنطقة.
4- تقوية التحالف السني في منطقة الشرق الأوسط، وذلك في ضوء مساعي السعودية إلى تكوين تحالف قوي، دعائمه الدول الرئيسية في المنطقة، وفي مقدمتها بالطبع السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي ومصر وتركيا، وذلك لمواجهة المخاطر التي تمثلها سياسات إيران التوسعية في المنطقة. وفي هذا الإطار، فإن ثمة جهوداً سعودية للمصالحة بين مصر وتركيا بعد تأزم علاقاتهما في أعقاب ثورة 30 يونيو، بسبب دعم أنقرة لجماعة الإخوان المسلمين، واستضافتها قيادات إخوانية معارضة للرئيس السيسي.
ويبدو أن توقيت زيارة الملك سلمان للقاهرة مناسباً لإعادة فتح ملف المصالحة المصرية - التركية، حيث تعقبها زيارة رسمية أخرى للعاهل السعودي إلى تركيا تبدأ يوم 10 أبريل، تلبية لدعوة من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ثم يشارك بعدها في القمة الإسلامية الثالثة عشرة لمنظمة التعاون الإسلامي، المقررة يومي 14 و15 من هذا الشهر في اسطنبول.
اتفاقيات اقتصادية وترسيم للحدود
عكست فعَّاليات زيارة الملك سلمان بن عبدالعزيز والوفد المرافق له إلى القاهرة، خصوصية واضحة، حيث امتدت الزيارة لمدة خمسة أيام، وتضمنت العديد من الترتيبات غير التقليدية، شملت لقاء العاهل السعودي برأس الكنيسة الأرثوذكسية المصرية البابا تواضروس الثاني، وذلك للمرة الأولى في تاريخ مثل هذه الزيارات. كما التقى العاهل السعودي بشيخ الأزهر، فضلاً عن إلقائه كلمة في مجلس النواب المصري، وزيارته في اليوم الأخير جامعة القاهرة التي منحته درجة الدكتوراه الفخرية، تقديراً لإسهاماته العربية والإسلامية البارزة، وإطلاقه مشروعاً تاريخياً لتطوير مستشفيات الجامعة.
وقد أسفرت الزيارة عن عدة نتائج ملموسة في العلاقات الثنائية بين مصر والسعودية، على المستويين الاقتصادي والجيواستراتيجي، وذلك كالتالي:
1- اتفاقيات اقتصادية: تم توقيع نحو 17 اتفاقية ومذكرة التفاهم بين المسؤولين السعوديين والمصريين، بلغت قيمتها الإجمالية نحو 25 مليار دولار، بحسب ما أعلنته وزارة التعاون الدولي المصرية.
ويأتي على رأس هذه الاتفاقيات، إنشاء صندوق "مصري - سعودي" للاستثمار بـ60 مليار ريال، بحيث تساهم كل من القاهرة والرياض بحصة متساوية في الصندوق.
كما تم الاتفاق على إقامة جسر "الملك سلمان" بين البلدين، حيث يربط بين شبه جزيرة سيناء وشمال غرب المملكة العربية السعودية، بطول من 7- 10 كيلومترات فوق الماء ليكون أول رابط بين عرب آسيا وأفريقيا، وسيشمل الجسر خط سكك حديدية لقطار شحن.
ومن المنتظر أن يساهم جسر "الملك سلمان"، الذي سيستغرق بناؤه من خمس إلى سبع سنوات بتكلفة تُقدر بنحو أربعة مليارات دولار، في زيادة التبادل التجاري بين البلدين، فضلاً عن زيادة السائحين الخليجيين لمصر، وزيادة عدد الحجاج والمعتمرين من مصر وأفريقيا، لسهولة التنقل البري. ويُتوقع أن يصل عائد التجارة من الجسر إلى 200 مليار دولار سنوياً.
ومن بين الاتفاقات التي تم التوقيع عليها بين البلدين، تلك المتعلقة بمشروعات الإسكان في سيناء، والطاقة النووية، وتجنب الازدواج الضريبي، فضلاً عن ست مذكرات تفاهم في قطاعات أبرزها الكهرباء، والتجارة، والصناعة، إلى جانب ثلاثة برامج للتعاون.
وبدا واضحاً من الاتفاقيات المُبرمة أن الدعم السعودي للاقتصاد المصري بات يركز على الشراكة في استثمارات مباشرة، بدلاً من ضخ سيولة نقدية. ومما لا شك فيه، أن كل هذه الاتفاقيات بعد أن تتم ترجمتها على أرض الواقع سوف تساعد على انتعاش الاقتصاد المصري، وإعطائه دفعة قوية له في وقت تعاني فيه البلاد نقص العملة الأجنبية.
2- ترسيم الحدود: وقَّع الجانبان المصري والسعودي اتفاقية لتعيين الحدود البحرية بين البلدين، والتي تتعلق بالسيادة على جزيرتي تيران (التي تقع عند مدخل مضيق تيران الفاصل بين خليج العقبة عن البحر الأحمر، على بعد نحو 6 كيلومترات عن الساحل الشرقي لسيناء، وتبلغ مساحتها نحو 80 كم²)، وصنافير (التي تجاور جزيرة تيران من ناحية الشرق، وتبلغ مساحتها حوالي 33 كم²).
وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقية الحدودية تعكس وجود رغبة لدى المسؤولين في القاهرة والرياض لحل كافة القضايا العالقة بين البلدين، بيد أنها أثارت جدلاً كبيراً، بعد أن أقرت مصر بأن جزيرتي تيران وصنافير تقعان في المياه الإقليمية السعودية. وأصدر مجلس الوزراء المصري بياناً أكد فيه أن تعيين الحدود البحرية مع السعودية من شأنه أن يُمكن الدولتين من الاستفادة من المنطقة الاقتصادية الخالصة لكل منهما بما توفره من ثروات تعود بالمنفعة الاقتصادية عليهما.
ومن المقرر أن تعرض هذه الاتفاقية على مجلس النواب المصري، لمناقشتها وطرحها للتصديق عليها، طبقاً للإجراءات القانونية والدستورية.
3- مكافحة الإرهاب: حظي ملف الإرهاب بنصيب كبير من زيارة العاهل السعودي إلى مصر، الذي أكد أن التعاون مع السلطات في القاهرة سيُعجل بالقضاء على التطرف والإرهاب، مشيراً إلى أنه سيتم العمل سوياً للمُضي قدماً لإنشاء القوة العربية المشتركة.
وكانت المملكة العربية السعودية قد أدركت ضرورة توحيد الرؤى والمواقف لإيجاد حلول عملية لظاهرة التطرف، ودعت إلى تشكيل التحالف الإسلامي العسكري لمحاربة الإرهاب، وتنسيق الجهود بما يكفل معالجة شاملة لهذه الآفة، فكرياً وإعلامياً ومالياً وعسكرياً.
ختاماً، يمكن القول إن الزيارة التاريخية للملك سلمان بن عبدالعزيز إلى القاهرة حملت رسائل عديدة، منها التأكيد على متانة وقوة العلاقات المصرية – السعودية، وأن البلدين يد واحدة في مواجهة المخاطر والتحديات التي تشهدها المنطقة، وفي مقدمتها التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود. كما أن هذه الزيارة ستسهم في تحقيق شراكة اقتصادية، وتعزيز الفرص الاستثمارية، وزيادة التبادل التجاري بين مصر والسعودية، فور البدء في تنفيذ المشروعات والاتفاقيات التي تم إبرامها.