في رحلة العودة من مهمة سريعة في عَمان وقع بصري في صحيفة «الغد» الأردنية عدد الرابع عشر من الشهر الجاري على صفحة كاملة تتضمن ترجمة مقالات منشورة في صحف إسرائيلية، وكان محور المقالات كلها هو قرار الرئيس الأميركي الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل. غير أن ما لفت نظري هو فكرة تكررت في أكثر من مقال مفادها أن هذا القرار لم يكن في مصلحة إسرائيل، وتبرير الفكرة أن إسرائيل قد استقرت على القدس عاصمة أبدية موحدة لها، ولم تكن هناك أي قيود أو مشاكل تحيط بها في ممارستها «حقها» الطبيعي في هذا الصدد، ثم جاء قرار ترامب لكي يثير عاصفة من الغضب العربي على إسرائيل سواء على الصعيدين الرسمي والشعبي، فعلى الصعيد الرسمي لم يكن بمقدور الحكومات العربية سوى أن تلحق بركب الاعتراض الجارف الذي ميز ردود الأفعال عموماً، وعلى الصعيد الشعبي سرت موجة من الغضب العارم رفضاً للقرار. كما استغلت إيران وحلفاؤها الموقف كي تُظهِر أنها الحامي الحقيقي لفلسطين من خلال المظاهرات الحاشدة لجماهيرها والجماهير المؤيدة لمليشياتها في البلدان العربية. وهكذا تحول المسار من سخط عارم على ما فعله ويفعله الحوثيون في اليمن مثلاً إلى التركيز على نصرة القدس وإعلان الغضب على الولايات المتحدة وإسرائيل. وبعبارة أخرى فإن قرار ترامب أيقظ «فتنة» كانت نائمة حيث كان الموقف قبله تجاه الوضع الراهن في الصراع العربي- الإسرائيلي والجمود الذي يعتريه والعجز العربي والفلسطيني عن تحريكه هادئاً أو حتى شديد الهدوء، بل إن إحدى المقالات شككت في أن تكون القدس بهذه الأهمية التاريخية المبالغ فيها للمشروع الصهيوني.
ناقشت هذه الأفكار مع بعض الزملاء المهتمين بالقضية الفلسطينية فكان الرأي الغالب أن هذه الأفكار في الأغلب تعكس نوعاً من الادعاء لإظهار الاختلاف في وجهات النظر بين الإدارة الأميركية والتوجهات الإسرائيلية بما يحمل معنىً ضمنياً مفاده أن ما تفعله هذه الإدارة لا يصب بالضرورة في الصالح الإسرائيلي، وأن ادعاء الخشية من ردود الفعل الفلسطينية والعربية مفتعل لأن أصحاب هذه الآراء يعلمون جيداً أن الانتفاضات الجماهيرية بطبيعتها مؤقتة، وأن الحكومات العربية مهما بدا غضبها المعلن لن تقدم على أي خطوة عملية تغير من الوضع الراهن. والواقع أنني أصدق منطق المقالات السابقة لأن قرار ترامب قد فجر مظاهر غضب شعبي ورسمي واسع في الساحتين العربية والإسلامية ضد الإدارة الأميركية وإسرائيل لم تكن موجودة قبل القرار مع أن الأوضاع كانت بالغة السوء. ولا يعني هذا الاتفاق مع الآراء التي تشكك في القيمة الرمزية للقدس بالنسبة لإسرائيل، وقد تكون آراء فردية أو لاتجاه سياسي معين، ولكن الموقف الرسمي الإسرائيلي لاشك فيه بالنسبة لوضع القدس وأهميتها الحاسمة للكيان الصهيوني. أما بخصوص مآل الانتفاضات الشعبية وكيف أنها إلى زوال فإن هذه هي طبيعة الانتفاضات الجماهيرية عموماً، بمعنى أنه لا يوجد شعب قادر على أن يواصل انتفاضه يومياً إلى أن يحقق هدفه، ولكن الخبرة الماضية تشير أيضاً إلى أنه في بعض الحالات لم يتوقف العمل الجماهيري من المنظور الاستراتيجي إلا بعد أن حقق أهدافه أو على الأقل حقق إنجازاً بشأنها. فقد انتهى النضال السلمي للهنود بزعامة غاندي بالاستقلال، وانتهى النضال المدني للأغلبية السوداء في جنوب أفريقيا بتصفية النظام العنصري. وأجبرت انتفاضة الحجارة التي دامت سنوات منذ أواخر 1987 إسرائيل على الاعتراف بالشعب الفلسطيني ومنظمة تحريره، وأجبرت انتفاضة الأقصى التي تفجرت في أواخر 2000 إسرائيل على الانسحاب من قطاع غزة وتفكيك المستوطنات المحيطة به في عمل غير مسبوق في 2005. ويعني هذا أن خشية دوائر صهيونية معينة من الآثار السلبية لقرار ترامب ليست بلا أساس، والمهم أن يُنظم العمل الجماهيري بحيث يُكفَل له الدوام لمدة تجعل له تأثيراً إيجابياً على مستقبل القدس بعد قرار ترامب الأخير. أما الحكومات العربية فعليها على الأقل أن تنظم الملاحقة الدبلوماسية والقانونية والقضائية والبرلمانية لإسرائيل، وأن تساعد قوى المجتمع المدني في انطلاقتها المطلوبة لفضح إسرائيل وممارسة مزيد من الضغوط عليها حتى نقترب من تحقيق أهدافنا بغض النظر عن تقييم الدوائر الصهيونية لقرار ترامب.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد