على الرغم من الاستقرار الذي حققته أنجيلا ميركل خلال فترات حكمها الثلاث؛ تعثرت محاولات المستشارة الألمانية لتشكيل حكومة ائتلافية جديدة عقب الانتخابات البرلمانية التي جرت في سبتمبر 2017. وفي حال استمرار هذا الوضع، فإن ألمانيا قد تواجه سيناريوهات استثنائية لم تشهدها منذ الحرب العالمية الثانية، وهي تشكيل حكومة أقلية، أو الدعوة إلى إجراء انتخابات جديدة، وهو ما يزيد من حدة التحديات التي يواجهها الاتحاد الأوروبي، والتي تشمل مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد، ومرحلة ما بعد استفتاء انفصال كتالونيا عن الدولة الإسبانية، والتهديدات الروسية لدول أوروبا الشرقية، وتراجع الالتزامات الأمريكية تجاه أمن القارة الأوروبية.
أسباب الأزمة:
تُعد نتائج الانتخابات التشريعية التي أُجريت في ألمانيا في سبتمبر الماضي سببًا مباشرًا في الأزمة السياسية التي تشهدها ألمانيا في الوقت الحالي، حيث أسفرت تلك الانتخابات عن فوز المحافظين في ألمانيا (الاتحاد الديمقراطي المسيحي) وحليفه البافاري (الاتحاد الاجتماعي المسيحي) بنسبة 33%، وهي نسبة أدنى من التوقعات، إذ تقل بنسبة 8,5% عن نتيجة الانتخابات السابقة التي أُجريت في عام 2013.
كما حصل الحزب الاشتراكي الديمقراطي على المركز الثاني بنسبة 20,5%، وهو ما مثّل تراجعًا أيضًا لهذا الحزب مقارنة بنتائجه في عام 2013، فيما تقدم حزب "البديل من أجل ألمانيا" بشكل كبير، حيث حصل على المركز الثالث بعد حصوله على ما يقدر بحوالي 12,6%، وهو ما يمثل زيادة قدرها 7.9٪ مقارنة بنتائج الانتخابات في عام 2013.
بينما حصل الحزب الديمقراطي الحر على نسبة 10,7% من الأصوات، وحصل اليسار الراديكالي (دي لينكه) على 9,2%، وحصل حزب البيئيين (الخضر) على 8,9%.
وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى أن قضية اللاجئين قد أثرت بشكل واضح على نتائج الانتخابات التشريعية الألمانية؛ حيث إن قرار ميركل بفتح الحدود أمام ما يزيد على مليون طالب لجوء دفع بعض الناخبين إلى معاقبة المحافظين، والتصويت لصالح حزب "البديل من أجل ألمانيا" الذي ينتمي لأقصى اليمين؛ حيث يبدو أن الإجراءات التي اتخذتها ميركل في بداية العام الحالي من تقليص أعداد اللاجئين، وتشديد الشروط الخاصة بقبول دخولهم، لم تفلح في التقليل من غضب الناخبين.
وبناء على هذه النتائج فإنه يجب تشكيل ائتلاف يحظى بالأغلبية في عملية تصويت تجري في مجلس النواب حتى يتم التجديد لميركل مستشارةً لألمانيا لفترة رابعة، ومن ثم جرت مفاوضات بين المحافظين وكلٍّ من الحزب الديمقراطي الحر وحزب الخضر، إلا أن هذه المفاوضات تعثرت لانسحاب الحزب الديمقراطي الحر المؤيد لقطاع الأعمال بشكل غير متوقع بعد مجموعة من الخلافات.
كما عارض الحزب الديمقراطي الاشتراكي الذي حصل على المركز الثاني في الانتخابات، والحليف السابق للمحافظين، الدخول في ائتلاف موسع جديد بين الحزب والمحافظين بقيادة ميركل بسبب استجابة "مارتن شولتز" رئيس الحزب لمطالب عدد من مؤيدي حزبه بالبقاء في المعارضة.
كما يصعب تشكيل ائتلاف بين الاتحاد المسيحي وحزب الخضر، حيث توجد خلافات بين الطرفين على إدارة أعداد المهاجرين الكبيرة في البلاد، حيث يسعى الاتحاد المسيحي إلى أن تسمح الحكومة المقبلة بما يقدر بحوالي 200 ألف شخص سنويًّا، وعلى الرغم من عدم معارضة حزب الخضر لهذا إلا أنه يشترط في البداية أن تتم زيادة أعداد مراكز إيواء اللاجئين بهدف ضبط تواجدهم على الأراضي الألمانية.
يضاف إلى هذا أن الخضر يطالبون بوقف فوري لعمل عشرين محطة توليد طاقة بالفحم لتقليص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بحلول عام 2020، ويرى الاتحاد المسيحي أن هذا الطلب غير مقبول على المستوى الاقتصادي.
مسارات ثلاثة:
في لحظة شديدة التعقيد والصعوبة في الحياة السياسية في ألمانيا، يمكن أن تأخذ الأزمة أحد المسارات الثلاثة التالية:
1- تشكيل حكومة أقلية: يتم وفقًا لهذا الخيار تشكيل حكومة أقلية من الحزب المسيحي الديمقراطي (CDU) وحليفه الحزب المسيحي الاجتماعي (CSU) بالاشتراك مع حزب الخضر أو الحزب الديمقراطي الحر (FDP)؛ إلا أن هذا يعني أن الحكومة الألمانية القادمة ستصبح حكومة أقلية، إذ لا تزال تحتاج إلى 42 مقعدًا إضافيًّا لتتحول إلى حكومة أغلبية في حالة التحالف مع حزب الخضر، فيما ستكون بحاجة إلى ما يقدر بحوالي 29 مقعدًا في حالة التحالف مع الحزب الديمقراطي الحر، وعلى الرغم من أن تشكيل حكومة أقلية أمر مقبول من الناحية القانونية، إلا أن القوانين والقرارات المقدمة من الحكومة غالبًا ما سيتم تمريرها بصعوبة.
2- إجراء انتخابات مبكرة: سوف يقوم البرلمان بمحاولة انتخاب مستشار جديد لألمانيا؛ حيث يقترح الرئيس "فرانك فالتر شتاينماير" اسم زعيم تكتل الأكثرية "ميركل" لولاية رابعة، ويعرض البرلمان الاسم للتصويت في جولتين، لمدة أسبوعين. وإذا لم يحصل المرشح على أكثر من 50% من الأصوات، تبدأ جولة ثالثة من التصويت. ويصبح المرشح مستشارًا إذا كان عدد الأصوات المؤيد له، في الجولة الثالثة، أكثر من الأصوات الرافضة. وإذا لم يحصل المستشار على تأييد الأغلبية المطلقة من الأصوات، يصبح من حق الرئيس الألماني حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة خلال 60 يومًا.
ومن الممكن أن يؤدي استمرار هذه الخلافات إلى قيام الرئيس "شتاينماير" بالدعوة لإجراء انتخابات جديدة، لكن إجراء مثل هذه الانتخابات محفوف بالمخاطر، فقد يحدث صعود آخر لليمين المتطرف الذي استفاد من غضب الناخبين الألمان من سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة. فهناك حالة من التخوف من أن تكون نتائج الانتخابات الجديدة أفضل بالنسبة لحزب "البديل من أجل ألمانيا"، خاصة وأن النتائج التي حصل عليها الحزب تعد سابقة في تاريخ ألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
3- تشكيل حكومة ائتلافية: يبدو أن ميركل تسعى لتفادي خيار إجراء انتخابات مبكرة، وقد تتجه إلى تشكيل تحالف مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي يبقيها على رأس الحكومة، خاصة بعد محاولات التهدئة بينهما عقب لقاء جمع الرئيس "شتاينماير" بقادة الحزبين الرئيسيين، بيد أن موقف شولتز غير واضح حتى هذه اللحظة في ظل الانتقادات الموجهة له، وتزايد الضغوط عليه قبيل مؤتمر حزبه الذي يُعقد في الفترة من 7 إلى 9 ديسمبر ويترشح خلاله شولتز في منصب رئاسة الحزب.
ومن الجدير بالذكر أن الحزب الديمقراطي الاشتراكي قد شارك في ائتلاف حاكم مع ميركل منذ عام 2013، بيد أنه بعد انتخابات 2017 صرح "شولتز" بأن على الحزب الامتثال لرغبة الناخبين والبقاء في المعارضة بعد أن حقق أسوأ نتيجة في حقبة ما بعد الحرب في الانتخابات، وهو ما أرجعه الحزب إلى مشاركته في ائتلاف حاكم خلال السنوات الأربع الماضية، ومساومته حول مبادئه وأفكاره، مما أدى إلى هذا التراجع الانتخابي غير المسبوق.
خلاصة القول، إن الأزمة السياسية التي تواجهها ألمانيا بسبب نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة تضعها أمام ثلاثة مسارات، هي: تشكيل حكومة أقلية يصعب عليها اتخاذ قرارات جدية، أو إجراء انتخابات جديدة قد تسفر عن صعود أحد أحزاب اليمين المتطرف في ألمانيا التي تُعد مركز الثقل الأوروبي، مما سيؤدي لحالة من عدم الاستقرار السياسي في الاتحاد الأوروبي الذي يواجه تحديات وقضايا متعددة تستوجب وجود حكومة ألمانية قوية.
فيما يتمثل الخيار الثالث في استمرار المفاوضات وزيادة الضغوط على الأحزاب الرئيسية، خاصة الحزب الديمقراطي الاشتراكي للمشاركة في ائتلاف حكومي. أما في حال عدم توصل تلك المفاوضات إلى نتيجة، فمن المفترض أن تعود ألمانيا إلى صناديق الاقتراع في مطلع العام المقبل 2018.