يواصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على ما يبدو، ممارسة ضغوط عديدة على البنك المركزي التركي منذ أكثر من ثلاثة سنوات، بهدف خفض أسعار الفائدة، في محاولة لتشجيع الاقتراض والاستهلاك ومن ثم دعم النمو الاقتصادي في البلاد الذي تضرر بسبب محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في منتصف عام 2015، في الوقت الذي ترى فيه الأوساط الاقتصادية التركية أن هذه الخطوة محفوفة بكثير من المخاطر، لا سيما أنها ربما تساهم في فقدان البنك لمصداقيته وتضعف قدرته على تحقيق الاستقرار المالي والنقدي في البلاد.
ضغوط مستمرة:
سعى أردوغان إلى تدشين حملة ترويجية لدعم تلك الخطوات التي يحاول الضغط من أجل اتخاذها، حيث قال في 17 نوفمبر الجاري: "إذا حاولت أن تقدم قروضًا بمثل هذه الفوائد العالية فلاشك أن الاستثمارات ستتعطل وتتوقف... لقد خفضنا أسعار الفائدة والتضخم تراجع إلى خانة الآحاد". وقبل ذلك بعامين، وجه تحذيرًا من أن الدفاع عن أسعار الفائدة المرتفعة يعتبر "خيانة".
وفي أكثر من مناسبة خلال الفترة الماضية أيضًا، وجه أردوغان انتقادات شديدة للبنوك التركية كونها تحقق أرباحًا غير عادلة، من وجهة نظره، ناجمة عن ارتفاع أسعار الفائدة رغم ما تمر به البلاد من صعوبات اقتصادية متعددة، مدعيًا أن النظام المصرفي يحكمه ما يسمى بـ"لوبي سعر الفائدة".
معدل التضخم السنوي في تركيا (%)
المصدر: معهد الإحصاء التركي
الواقع، فإن ضغوط أردوغان على البنك المركزي خلال الفترة الماضية دفعت الأخير بالفعل إلى خفض تدريجي لأسعار الفائدة إلى 8% حاليًا من مستويات سجلت 12% في عام 2014، لا سيما مع تعيين مجلس الوزراء مراد جتينقايا محافظًا جديدًا للبنك في إبريل 2016، والذي كان أكثر مرونة، على ما يبدو، في تمرير التوجهات الاقتصادية لأردوغان من سابقه آردم باشجي.
وقبل تعيين المحافظ الجديد، أوعز أردوغان للجمعية العامة للبنك المركزي لإجراء تغيير قوي في صفوف القيادات الوسطى داخل البنك، في محاولة منه ليس لدعم نفوذه داخل البنك فقط، وإنما التمهيد لفرض مزيد من الانسجام بين كوادر البنك مع المحافظ الحالي أيضًا.
دلالات متعددة:
تطرح مساعي أردوغان للتأثير على السياسات النقدية للبنك المركزي وردود الفعل حولها العديد من الدلالات السياسية والاقتصادية. تتمثل الأولى، في أن البنك المركزي يعتبر آخر المؤسسات التنظيمية التي يرغب الرئيس التركي في تكريس سيطرته عليها بعدما تمكن من تحقيق ذلك في جميع مؤسسات الدولة من الشرطة والقضاء وكافة الوزارات الحكومية والتي تأتي في إطار حركة التطهير الواسعة ضد من اتهمهم بتأييد حركة "خدمة" التابعة لفتح الله كولن أو معارضة سلطاته بشكل عام وذلك في أعقاب محاولة الانقلاب التي وقعت في منتصف عام 2015.
فيما تتصل الثانية، بالانقسام بين أردوغان والفريق الاقتصادي بالحكومة، الذي بات أكثر وضوحًا مما كان عليه الوضع سابقًا، وهو ما انعكس مؤخرًا في مطالبة نائب رئيس الوزراء ووزير الاقتصاد محمد شيمشك البنك المركزي بمواصلة سياسته النقدية المتشددة على خلاف ما يسعى الرئيس.
وتنصرف الثالثة، إلى إدراك أردوغان لانخفاض ثقة الشعب بسياسات حزب العدالة والتنمية خلال الفترة الأخيرة، في ظل ارتفاع وتيرة القيود السياسية بالإضافة إلى تراجع الأداء الاقتصادي بشكل غير مسبوق، حيث انخفض النمو الاقتصادي إلى حدود 3.1% في العام الماضي.
وعلى ضوء ذلك، يحاول أردوغان الدفع بسياسات اقتصادية شعبوية قصيرة الأجل ستساعد على دعم الاستهلاك وتشجيع الاقتراض، بما قد يساهم في استمرار زخم النمو الذي يعد ضروريًا لأردوغان وحزب العدالة والتنمية. ولكنها في الوقت نفسه محفوفة بمخاطر واسعة على المدى الطويل من زيادة السيولة في الأسواق وارتفاع معدل التضخم.
وترتبط الرابعة، باستقلالية البنك المركزي في العديد من دول العالم بما فيها تركيا، والتي أصبحت، وفق العديد من الاتجاهات، أقل وضوحًا مما كان عليه الوضع في السابق، حيث يتعرض مسئولو البنوك المركزية لتدخلات مستمرة من قبل الأطراف السياسية، ولكن هذا لا يعني تجريد المؤسسة من كافة سلطاتها وصلاحيتها في دول العالم حتى في تركيا نفسها.
نتائج سلبية:
بات من الواضح إذن أن البنك المركزي التركي يواجه صعوبة كبيرة في ممارسة مهامه في ظل بيئة سياسية ضاغطة لن تخصم من مصداقيته المهنية فقط وإنما ستعرقل مساعيه للحفاظ على أهدافه الأساسية الخاصة بكبح أو السيطرة على معدل التضخم في ظل غياب الأدوات اللازمة لتحقيق الاستقرار النقدي والمالي في البلاد.
وقد يؤدي ذلك إلى أضرار اقتصادية عديدة في الفترة المقبلة، فعلى الأرجح سوف يساهم في تراجع الثقة في سوق الصرف التركي، وهو ما سينتج عنه استمرار هبوط الليرة التركية أمام العملات الصعبة، على غرار ما حدث في أعقاب تصريحات الرئيس التركي، حيث تراجعت إلى 3.90 مقابل الدولار الأمريكي، وذلك بعد أن خسرت ربع قيمتها في العام الماضي. فيما يبدو أن الخيارات المتاحة أمام البنك المركزي للحفاظ على استقرار العملة محدودة في ظل تقلبات الأسواق العالمية فضلاً عن ارتفاع العجز التجاري وانخفاض المدخرات المحلية.
ومن شأن غياب الانسجام الضمني بين الرئيس التركي والبنك المركزي حول السياسة النقدية أن يثير مخاوف المستثمرين الأجانب من ضخ رؤوس أموال أجنبية في السوق التركي في وقت قد تطرأ فيه إجراءات نقدية غير متوقعة من جانب أىٍ من الطرفين بما قد يؤثر على سلامة أصولهم المالية، في الوقت الذي تواجه فيه الحكومة تحديات فيما يتعلق بجذب الاستثمارات الأجنبية مع ارتفاع المخاطر الجيوسياسية في البلاد عقب محاولة الانقلاب الفاشلة وتوتر علاقاتها مع الشركاء الأوروبيين.
وعلى ما يبدو أيضًا، فإن الخفض المستمر لسعر الفائدة قد يقوض من جهود كبح التضخم في البلاد، والذي وصل إلى مستويات قياسية خلال الفترة الماضية، حيث سجل 11.9% في أكتوبر 2017 مقابل 7.1% في الشهر نفسه من العام الماضي، وبما قد يؤثر على جودة الأصول البنكية وسلامة النظام المصرفي، وهو الأمر الذي حذرت منه وكالة التصنيف الائتماني موديز في الشهور الماضية.
وختامًا، يمكن القول إن الضغوط التي يمارسها الرئيس أردوغان على البنك المركزي لتعديل السياسة النقدية قد تفرض تداعيات سلبية جديدة على الاقتصاد التركي، فضلاً عن أنها قد تتسبب في تراجع الثقة الشعبية في سياسات حزب العدالة والتنمية.