لا يوجد مفهوم فى العلاقات الدولية، حتى الآن، اسمه «التبجح»، لكن أصبح من الممكن رؤيته بالعين المجردة فى التفاعلات التى تجرى فى الشرق الأوسط، فهناك موجات لا تتوقف من «السلوكيات السيئة» غير المبررة وغير المنطقية التى لا تراعى قواعد أو مصالح أو حتى منطقاً، تتمثل فى توجهات وسياسات و«تصريحات» القوى الإقليمية الرئيسية المحيطة بالمنطقة العربية، كإيران وتركيا وإثيوبيا، أو الموجودة فيها كإسرائيل، إضافة إلى الحالة العربية المستعصية قطر، والفاعلين التابعين لهم داخل الدول العربية، بدعم أو بتجاهل عدد لا بأس به من العواصم الرئيسية فى العالم، فقد بدا الجميع وكأنهم قرروا التخلص من الدول العربية.
حالة الطبيعة:
أكاديمياً، يصعب تفسير ما يجرى إلا بالعودة إلى ما كتبه «توماس هوبز» عام 1651 فى (Leviathan) عن الوحوش والذئاب فى «حالة الطبيعة»، وأسباب النزاع بين البشر فى عصر «انعدام التعقل»، فلو كان من الممكن الاستناد حتى إلى مفاهيم المصلحة والقوة، فى أكثر نظريات العلاقات الدولية واقعية، لما ظلت الأسئلة نفسها تطرح من دون إجابات مقنعة لسنوات، فماذا تريد قطر بالضبط؟ وماذا تفعل تركيا؟ ومن يتخذ القرار فى إيران؟، يضاف إليها حالياً أسئلة عما تدفع إليه إسرائيل فى المنطقة الكردية، وما تقوم به إثيوبيا فى إدارة مشكلة سد النهضة. أما بالنسبة لـ«القوة» فإن الإجابة بسيطة، وقد سمعت مراراً، فهم يفعلون ذلك «لأنهم يستطيعون»، أو يتصورون ذلك.
على الجانب الآخر، تتم إقامة سيرك للدول العربية «المتبقية»، فى ملتقيات دولية يفترض أنها شديدة الجدية، بأسئلة لا يوجد ملل من تكرارها، فلماذا قامت مصر بإزاحة الإخوان من الحكم؟ ولماذا ترسل السعودية قواتها إلى اليمن؟، ولماذا تتحرك الإمارات نحو مناطق التوتر الإقليمية؟، ولا يتم سماع الإجابات، فلا يفترض أن تقوم دولة بالحفاظ على بقائها مما يشبه احتلالاً داخلياً، ولا يتصور أن تقوم الدول بالدفاع عن أمنها تجاه خطر وشيك، أو أن عليها أن تنتظر وصول التهديدات أراضيها. لكن كل ذلك لا يمثل شيئاً قياساً على ما يقال حالياً فى إطار أزمة قطر.
فى لقاء أكاديمى عقد مؤخراً، كان النقاش يدور حول الموقف الأمريكى من أزمة قطر، والأسباب التى تدفعها لاتخاذ موقف غير محدد، وكان المتحدث دبلوماسى أمريكى سابق، قدم ما يشبه التوصية، قائلاً «إن واشنطن لن تقف إلى جانب هذا المعسكر، لأنهم يقولون إن الدوحة تسبب لهم مشكلة، حتى لو اقتنعت بذلك، فعليهم إقناع واشنطن بأنها تسبب لها أيضاً المشكلة نفسها، إما دون ذلك، سيكون موقفها هوTurning a blind eye». فلن يتدخل أحد بجدية فى «مسألة» لا تمسه مباشرة، ويرتبط الباقى بتحليله لمصالحه مع الطرفين، وقدرة كل طرف على التأثير عليه داخلياً، وتحوّل التوجهات من إدارة لأخرى.
المسألة أن ذلك مقبول بمنطق السياسة العملية، أى أنه إذا لم تكن عواصم عالمية مؤثرة معنية بما إذا كانت أطراف أو جماعات فى الإقليم تشكل تهديداً للدول العربية، فإنه بالمنطق نفسه ليس عليها أن تتدخل فى الطريقة التى تدير بها هذه الدول توجهاتها إزاء ما تعتبره هى مصدر تهديد لها، لكن ما يحدث فى «عالم الأكاديميا» على الأقل أن المشاركين من بعض الدول العربية فى مؤتمرات دولية حالياً، يتعرضون حرفياً لمحاكمات، فدولهم تتبع سياسات حادة، وليسوا قادرين على الحوار، أو أن المسألة كلها «تنافس إقليمى» أو «قادة جدد»، وإذا تم الرد على كل ذلك تأتى «الديمقراطية الليبرالية» وقيادة السيارات.
إن كل ذلك يمكن أن يحتمل، أو يدار، على الرغم من تعقيداته، لكن ما يقلق فى واقع الأمر هو «الصورة الكبرى»، التى تعتم عليها أحياناً أصوات المعارك الإلكترونية اليومية، وهى التى تتعلق بحجم التصدعات التى تحدث فى العالم العربى، بفعل سلسلة لم تتوقف من التفجيرات على أراضيه، منذ احتلال العراق 2003، مروراً بالثورات المتتالية، وتوحش المتطرفين، والتدخلات الإقليمية، ثم مشكلة قطر، والمنطقة الكردية، وإذا كان هناك من يتصور أننا نواجه حالياً «سيناريو الكابوس»، فعليه أن ينتظر ما سيحدث إذا تم تقسيم «دول الاضطرابات» العربية.
المصدر: المصري اليوم