فرض إعلان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي عن تحرير مدينة الموصل من قبضة تنظيم "داعش"، في 10 يوليو 2017، ارتدادات سريعة داخل إيران، التي كانت إحدى القوى الإقليمية المعنية بتطورات الحرب ضد التنظيم في شمال العراق، خاصة في ظل حرصها على عدم فصلها عن الملفات الإقليمية الأخرى التي تحظى باهتمام خاص من جانبها، على غرار دورها في الصراع السوري وتصعيدها المتواصل مع الولايات المتحدة الأمريكية.
فقد سارعت المؤسستان السياسية والعسكرية إلى محاولة استثمار "الانتصار" على "داعش" في الموصل من أجل تحقيق مكاسب سياسية داخلية، في ظل الصراع المحموم بين الطرفين خلال الفترة الأخيرة، والذي اتسع نطاقه مع فوز الرئيس حسن روحاني بالجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 19 مايو 2017، على المرشح الذي دعمه الحرس الثوري وهو المشرف على العتبة الرضوية إبراهيم رئيسي.
لكن اللافت في هذا السياق، هو أن القيادة العليا في إيران، ممثلة في المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، بدا أنها منحت الضوء الأخضر لتصعيد السجال بين الطرفين حول من كان له الدور الأكبر في مساعدة القوات العراقية والميليشيات الطائفية، وفي مقدمتها "الحشد الشعبي"، في تحقيق الانتصار على "داعش" بعد نحو ثلاثة أعوام من سيطرته على الموصل في منتصف عام 2014، وهو ما يمكن تفسيره في إطار حرص طهران على توجيه رسائل مباشرة إلى القوى المعنية بالحرب ضد "داعش" في شمال العراق والصراع في سوريا، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، فضلا عن القوى السياسية العراقية، بأنها طرف لا يمكن تجاهله في تلك الحرب.
وقد توازى ذلك مع تعمد طهران إضفاء أهمية خاصة على الزيارة التي قام بها العبادي، في 20 يونيو2017، ولقاءه مع المرشد خامنئي والمسئولين الإيرانيين الآخرين، قبيل الإعلان عن تحرير الموصل، لإعطاء انطباع بأن إيران كان لها دور رئيسي في تحقيق ذلك، رغم أن ذلك يتنافى مع استمرارها في دعم الإرهاب.
سجال متصاعد
فور إعلان العبادي عن تحرير الموصل، سارع قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري، الذي بدا لافتًا انخراطه المفاجئ في الجدل المتصاعد بين روحاني من جهة وتيار المحافظين الأصوليين وقادة الحرس من جهة أخرى، إلى تأكيد أن هذا التطور لم يحدث إلا من خلال الدور الذي قام به "الباسدران"، لا سيما فيما يتعلق بتقديم دعم عسكري ولوجيستي للقوات العراقية والميليشيات الطائفية فضلاً عن الإشراف على المعارك مع تنظيم "داعش"، وهو ما لا يمكن فصله عن حرص وسائل الإعلام القريبة من الحرس على تغطية الزيارة التي قام بها سليماني إلى المناطق التي سيطرت عليها ميليشيا "الحشد الشعبي" على الحدود العراقية-السورية.
فقد قال سليماني، في 10 يوليو 2017 أى في اليوم نفسه الذي أعلن فيه العبادي الانتصار على "داعش" في الموصل، أن "المصانع العسكرية في إيران عملت على مدار الساعة على تقديم دعم عسكري لميليشيا الحشد الشعبي".
وقد سارع الرئيس روحاني إلى الرد على تلك التصريحات، بتأكيده أن الحكومة هى التي قامت بالدور الأكبر في تقديم الدعم العسكري لحلفاء إيران في الخارج، لا سيما ميليشيا "الحشد الشعبي" في العراق.
ورغم أن هذه التصريحات تثبت زيف الادعاءات التي ساقتها إيران باستمرار منذ سيطرة "داعش" على الموصل في يونيو 2014 وقبلها اندلاع الأزمة في سوريا في مارس 2011، والتي تقوم على حصر نطاق دعمها لحلفائها في إطار تقديم استشارات للقوات المنخرطة في المعارك المسلحة، فضلاً عن أنها تؤكد انتهاك إيران المستمر للعقوبات المفروضة عليها، وعدم قدرتها على الانخراط في التزامات دولية صارمة، إلا أن ذلك لم يمنع الحرس من إضفاء أهمية خاصة على دوره في الحرب ضد "داعش" في العراق، وهو ما يبدو أنه يسعى من خلاله إلى تحقيق هدفين:
يتمثل أولهما، في تأكيد أن الدور الذي يقوم به الحرس على الساحة الخارجية هو الآلية التي نجحت من خلالها إيران في دعم حضورها الإقليمي وتعزيز نفوذها في دول الأزمات، لا سيما العراق وسوريا واليمن، وليس السياسة التي تتبناها حكومة الرئيس روحاني، والتي تعتمد في المقام الأول على الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران مع مجموعة "5+1"، في 14 يوليو 2015، وذلك للرد على الجهود التي تبذلها الحكومة للترويج للتداعيات الإيجابية التي يمكن أن يفرضها الاتفاق على المستويين الداخلي والخارجي.
وقد انعكس ذلك في تصريحات سليماني نفسه، التي دعا فيها إلى منح الأولوية للسلاح مع الدبلوماسية، حيث قال أنه "في بعض الأوقات نقوم بأعمال عبر الدبلوماسية، وهو أمر حسن، لكن لا يمكن حل بعض المشكلات الأخرى بالدبلوماسية".
وينصرف ثانيهما، إلى محاولة تصدير خطاب للدول الغربية يؤكد على إمكانية تحول إيران إلى طرف رئيسي في الحرب ضد تنظيم "داعش"، وذلك من أجل تقليص حدة الضغوط التي تتعرض لها إيران، بسبب تزايد الاتهامات الموجهة لها بدعم الإرهاب، خاصة بعد السياسة التي تبنتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي بدأت في وصف إيران باعتبارها المصدر الرئيسي لعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
وإمعانًا في تأكيد دورها في الحرب ضد الإرهاب، سعت إيران، بالتوازي مع ذلك، إلى طرح إمكانية مشاركتها في عمليات إعادة إعمار المناطق المحررة من تنظيم "داعش" في مدينة الموصل، وهو بدا جليًا في تصريحات وزير الصناعة والمناجم والتجارة الإيراني محمد رضا نعمت زاده، في 15 يوليو 2017، والتي قال فيها أن "إيران تمتلك خبرة في مجال بناء الأحياء الصناعية ومستعدة لوضع هذه الخبرة بتصرف الجانب العراقي".
تحديات في العراق
ومن دون شك، فإن ذلك لا يمكن فصله عن محاولات طهران الرد على الدعوات التي أطلقتها شخصيات سياسية عراقية في الفترة الأخيرة لتقليص نفوذ إيران في العراق، على غرار أياد علاوي نائب الرئيس العراقي الذي قال، في 16 يونيو 2017، أن "دعم إيران لجماعات شيعية في العراق يعرقل جهود تجاوز الانقسامات الطائفية قبل الانتخابات البرلمانية القادمة"، وهو ما توازى مع خروج مظاهرات تحمل شعارات تندد بحضور إيران في العراق، على غرار شعار "إيران برا برا"، الذي ظهر، بشكل كان لافتًا، خلال الاحتجاجات التي نظمها أنصار التيار الصدري في نهاية أبريل 2016، وهو ما يبدو أنه سيكون متغيرًا مهمًا في تحديد اتجاهات العلاقة بين إيران وحلفائها من القوى الشيعية العراقية خلال مرحلة ما بعد هزيمة "داعش" في الموصل.
من هنا، ربما يمكن ترجيح أن تسعى إيران خلال الفترة القادمة إلى إعادة ترتيب أنماط تحالفاتها داخل العراق، استعدادًا للاستحقاقات السياسية القادمة خاصة الانتخابات البرلمانية التي سوف تجرى في إبريل 2018، مع استيعاب التطورات الجديدة التي ستؤثر دون شك على التوازنات السياسية داخل العراق، على غرار الجهود التي تبذلها ميليشيا "الحشد الشعبي" من أجل إشراكها في إدارة المناطق المحررة، فضلاً عن تزايد احتمالات تصاعد حدة الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران في العراق، في ظل السياسة الجديدة التي تتبناها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والتي تقوم على مواجهة النفوذ الإيراني في دول الأزمات، وهو ما انعكس في العقوبات الأخيرة التي فرضتها واشنطن على طهران، في 17 يوليو الجاري، بسبب دعمها العسكري لبعض التنظيمات الإرهابية والمسلحة الموجودة في تلك الدول.