شهدت القارة الأوروبية في النصف الأول من شهر يونيو الجاري انتخابات برلمانية عامة في كلٍّ من بريطانيا وفرنسا، وقد مثّلت نتائجهما مفاجأة تُؤشر إلى استمرار حالة التقلب الشديد للناخبين في المجتمعات الغربية. ففي فرنسا، واصلت الأحزاب السياسية التقليدية الانهيار الذي تبدّت ملامحه في الانتخابات الرئاسية الشهر الماضي، ومُنيت "مارين لوبان" وحزبها "الجبهة الوطنية" بتراجع حادٍّ وغير متوقع، بينما تصدَّر المشهد وجوه تدخل الساحة السياسية لأول مرة تحت عباءة الحزب المؤسَّس حديثًا برئاسة "إيمانويل ماكرون".
وفي بريطانيا، انهارت الأحزاب الصغيرة والمتوسطة، وانقسم الناخبون بين الحزبين الكبيرين، المحافظين والعمال، بشكل يكاد يكون تامًّا، مع تراجع في شعبية المحافظين في مقابل صعود لافت وغير متوقع لحزب العمال بزعامة "جيريمي كوربن". وفي الحالتين، فإن نتيجة الانتخابات سوف تكون لها تداعيات هامة على مستقبل المشروع الأوروبي.
دلالات نتائج الانتخابات:
دعت رئيسة وزراء بريطانيا "تيريزا ماي" إلى انتخابات برلمانية مبكرة قبل الموعد المقرر لها بسنوات، استنادًا إلى استطلاعات الرأي التي كانت تُشير إلى تفوق شعبيتها بشكل كبير. لكن نتائج الانتخابات التي أُجريت في الثامن من يونيو الجاري زعزعت موقفها الداخلي بشكل صارخ؛ إذ فقد حزبها (حزب المحافظين) الأغلبية التي كان يتمتع بها في البرلمان، ولن يستطيع الحكم بدون نوع من التحالف مع حزب آخر يوفر له إمكانية تمرير تشريعاته في البرلمان.
وعلى الساحة الأوروبية، أصبحت مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي (القضية المحورية في الانتخابات) في مهب الريح. فقد كان هدف "ماي" من تلك الانتخابات حشد البريطانيين حول رؤية موحّدة للطريقة التي تخرج بها بريطانيا من الاتحاد، الذي يُعد "الخروج الصعب"، أو الحاسم، بأقل التكاليف الممكنة، والتنازلات للجانب الأوروبي. لكن نتيجة الانتخابات جسدت، في نظر العديد من المراقبين، "انتقام" ما يقرب من نصف الناخبين الذين صوّتوا للبقاء في الاتحاد الأوروبي.
وتتمثل النتيجة المباشرة لتلك الانتخابات في إضعاف موقف "ماي" التفاوضي وسط انقسامات داخل الأوساط السياسية البريطانية، وداخل حزب المحافظين نفسه، حول الشكل الذي يجب أن يأخذه هذا التخارج، وشكوك حول قدرة الحكومة على تمرير التشريعات اللازمة لتطبيق ما يتم الاتفاق عليه خلال المفاوضات. وهناك توقعات متصاعدة بأن الحكومة ستضطر للجوء إلى انتخابات برلمانية جديدة قبل نهاية العام الحالي، وأن "ماي" قد تبدأ هذه المفاوضات، ولكنها لن تكون في السلطة خلال المدة اللازمة للتوصل إلى اتفاق نهائي للخروج من الاتحاد.
في المقابل، تؤشر نتيجة الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية الفرنسية -بشكل واضح- إلى أن الرئيس الجديد "ماكرون" سيحظى بأغلبية كبيرة تسانده في البرلمان، مقابل معارضة صغيرة من حزب الجمهوريين، وبالتالي من المفترض أن يكون الطريق مفتوحًا أمامه لتمرير التشريعات والإصلاحات التي نادى بها خلال حملته الانتخابية، وفي القلب منها الانفتاح على أوروبا، وإعادة الروح للمشروع الأوروبي من خلال تعزيز التعاون في المجالات المالية والدفاعية بين دول الاتحاد.
وفي الوقت الذي يتراجع فيه التأثير والدور البريطاني على الساحة الأوروبية؛ تبزغ قيادة فرنسية شابة لها دعم داخلي كبير من المنتظر أن تلعب دورًا هامًّا في دفع المشروع الأوروبي إلى الأمام.
مؤشرات إيجابية:
حملت نتائج الانتخابات الفرنسية والبريطانية مؤشرات إيجابية لتماسك المشروع الأوروبي خلال الفترة المقبلة؛ حيث كانت الرؤية السائدة قبل تلك الانتخابات أن خروج بريطانيا من الاتحاد سيمثل ضربة قوية له، لأنه قد يشجع دولاً أخرى على الخروج منه. لكن الحالة العارمة من الانقسام، والتي يعتبرها البعض تصل إلى حد الفوضى، المصاحبة لإدارة عملية التخارج على الجانب البريطاني، تُمثل "سقوطًا للنموذج"، وتؤكد المخاطر السياسية التي تبلغ حد "المقامرة" في محاولة توقّع موقف الناخبين من هذه القضية، حيث يرتبط بالعديد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والجيلية. وبالتالي، من غير المتوقع أن تشجع التجربة البريطانية دولاً أخرى على المضي في هذا الطريق.
من جانب آخر، اعتبر جلّ المحللين نتائج الانتخابات الفرنسية، سواء الرئاسية أو البرلمانية، نقطة تحول بالنسبة لتواصل المد الشعبوي المناهض للاتحاد الأوروبي، إن لم تمثل ضربة قاصمة له. فرغم الزخم الذي اكتسبته "مارين لوبان" في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، ونجاحها بالصعود إلى الجولة الثانية، فقد تراجع الاهتمام بها وبحزبها الذي يشهد حالة من الانقسام والخلافات الداخلية بشكل واضح خلال الانتخابات البرلمانية. ولم تجذب فعاليات "لوبان" نفسها قدرًا كبيرًا من اهتمام المؤيدين أو المعارضين على حد سواء خلال الانتخابات البرلمانية. وبرغم توقع أنها ستنجح في دخول البرلمان لأول مرة، إلا أن حزبها لن يحصل إلا على عدد يسير من المقاعد، لن يتيح له دورًا هامًّا على الساحة البرلمانية.
ويتزامن ذلك مع تواتر نتائج استطلاعات للرأي في عدة دول أوروبية، ومنها فرنسا وألمانيا، تؤشر إلى تصاعد الدعم الشعبي للاتحاد الأوروبي منذ تصويت بريطانيا على الخروج منه. وبحسب استطلاع لمؤسسة "بيو" هذا العام، فإن 68% من المستطلعة آراؤهم في ألمانيا كانت لديهم رؤية إيجابية للاتحاد الأوروبي، بينما كانت هذه النسبة لا تتعدى 50% في العام الماضي. كما ارتفعت نسبة المؤيدين للاتحاد في فرنسا أيضًا بنسبة 18% خلال العام الماضي، لتبلغ 56%. ولم تكن بريطانيا استثناء، حيث ارتفعت نسبة المؤيدين للاتحاد الأوروبي بمقدار 10% بعد تصويتها بالخروج، لتبلغ 54% هذا العام.
ويُعزز من فرص إحياء التضامن الأوروبي توافر بعض المقومات لإحياء القيادة الألمانية-الفرنسية المشتركة لهذه المرحلة الجديدة من حياة الاتحاد. فمن الواضح أن الرئيس الفرنسي الشاب "ماكرون" يتطلع للعب دور نشط على الساحة الأوروبية والعالمية، وهو ما يضع التعاون الفرنسي-الألماني على رأس أولوياته.
وقد كانت ألمانيا هي وجهة زيارته الخارجية الأولى، كما زارها أيضًا أثناء حملته الانتخابية، وقد عزز حكومته بوجوه لها خبرة طويلة مع النظام السياسي الألماني والثقافة الألمانية. من جانب آخر فإن المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل"، التي من المنتظر أن تكسب الانتخابات العامة في الخريف القادم لتبدأ فترة رابعة من الحكم، قد أكدت أن على الأوروبيين أن يحددوا مصيرهم بأيديهم؛ إذ لا يمكنهم التعويل على حلفائهم التقليديين كما كان من قبل.
ويأتي موقف "ميركل" كقراءة للموقف الذي تجد أوروبا نفسها فيه مع انسحاب بريطانيا من جانب، وتولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة من جانب آخر، خاصة مع ما أبداه خلال زيارته لأوروبا من عدم التأكيد الواضح على الالتزامات الأمريكية الأمنية تجاه الحلفاء الأوروبيين وحلف الناتو، ثم إعلانه انسحاب بلاده من اتفاقية باريس للمناخ. وقد عبّرت ميركل بعد لقائها مع ماكرون عن تقبلها لفكرة إجراء تعديلات على الوثائق الأساسية التي تحكم عمل الاتحاد الأوروبي، بما يفتح الباب أما التغييرات والإصلاحات التي ينادي بها الرئيس الفرنسي. فالأوضاع العامة في أوروبا تبدو داعمة لتحرك فرنسي-ألماني مشترك يلعب دور القاطرة التي تحرك المشروع الأوروبي نحو درجة أكبر من التضامن والتنسيق المشترك.
تحديات هائلة:
رغم الأجواء الإيجابية وحالة التفاؤل التي خلقها صعود "ماكرون" وحزبه على الساحة الأوروبية؛ فإن الاتحاد الأوروبي ما زال يواجه تحديات ليست بالقليلة. فخروج بريطانيا -بأي شكل من الأشكال- يُضعف من قوة الاتحاد اقتصاديًّا وعسكريًّا. كما تهدد حالة عدم الاستقرار التي تشهدها بريطانيا الآن بتحقق أحد السيناريوهات شديدة القتامة، وهي انتهاء المدة المقررة دون التوصل إلى اتفاق يُنظِّم أسس التخارج بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، ما سيُدخل الطرفين في حالة من الفوضى العارمة، ويتسبب في خسائر باهظة.
وعلى الرغم من أن حالة التباعد مع الولايات المتحدة تحفز الدول الأوروبية على التضامن والتنسيق بشكل أكبر؛ إلا أن هناك خلافات سياسية وتباينًا في المصالح بينها لا يُمكن إنكاره. فعلى سبيل المثال، هناك تناقض كبير بين دول غرب أوروبا وبعض دول الشرق، مثل بولندا والمجر، بسبب التوجهات السلطوية للأخيرة التي تتناقض مع المبادئ الديمقراطية التي تمثل أهم دعامات المشروع الأوروبي. بالإضافة إلى الخلافات التقليدية بين الدول الدائنة والدول المدينة، مثل اليونان وإيطاليا.
وتُعد قضية الإصلاحات الداخلية فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية والمالية من أهم العقبات التي تواجه تدعيم التعاون الأوروبي، حتى بين فرنسا وألمانيا. فميركل من أشد المتمسكين بضرورة إصلاح الأوضاع المالية في الدول التي بها عجز في الموازنة وديون سيادية كبيرة، مثل فرنسا، كخطوة مبدئية قبل الشروع في إجراء تعديلات على المؤسسات الأوروبية، وهي خطوات يُصر عليها أيضًا الناخب الألماني الذي يجب أن تضعه "ميركل" في الاعتبار مع قرب موعد الانتخابات.
من جانبه، تعهد "ماكرون" بإجراء إصلاحات جذرية، تتضمن -على سبيل المثال- تعديل التشريعات التي تحكم سوق العمل، وهي التي قوبلت بإضرابات واسعة حين حاولت الحكومة الفرنسية، التي كان "ماكرون" عضوًا فيها، تطبيقها في عهد الرئيس السابق "فرانسوا هولاند". ورغم أنه من المتوقع أن يتمتع "ماكرون" بالأغلبية اللازمة لتمريرها في البرلمان، إلا أن ذلك لن يضمن تجاوب الفئات المجتمعية المتضررة، بل إن غياب معارضة برلمانية قوية قادرة على الدفاع عن مطالب المخالفين للحكومة يُعزز من مخاوف المحللين من أن تندلع مواجهات قد تكون عنيفة بين الحكومة ومعارضيها في الشوارع الفرنسية، خاصة مع ما أوضحته الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية من وجود قطاعات واسعة مسيسة على استعداد لتبني مواقف متطرفة في الشارع، على الأخص فيما يتعلق بحقوق العمال والفئات المهمشة اقتصاديًّا.
خلاصة القول، إن نتائج الانتخابات الأخيرة في فرنسا وبريطانيا تمثل استمرارًا لحالة التقلب، وعدم الاستقرار، وعدم القدرة على التنبؤ بالأحداث التي سادت الغرب، بشقيه الأوروبي والأمريكي، في الفترة الماضية، والتي شهدت صعود "ترامب"، والتصويت البريطاني بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وتصاعد الحركات والأحزاب الشعبوية، في إطار حالات احتقان داخلي يكاد يكون غير مسبوق في التاريخ الغربي الحديث. يتزامن ذلك مع عدم قدرة الحكومات الغربية على تقديم الضمانات والمساعدات التي تحتاج إليها قطاعات واسعة في هذه المجتمعات تدهورت أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية بسبب العولمة والتطور التكنولوجي وتباطؤ النمو الاقتصادي.
ومن جانب آخر، يرصد المحللون الانتقال المطرد لمركز الثقل الاقتصادي والمالي شرقًا، إلى آسيا. وبينما يتصاعد الإدراك في الدول الأوروبية بأن عليها أن تجد لنفسها مكانًا في هذا العالم الجديد الذي تتراجع فيه الولايات المتحدة عن دورها القيادي؛ فإنها لا تزال تعاني من حالة حادة من الانقسام لن يسهل تجاوزها.