لا يوجد اتفاق على مفهوم وحدود الحركات والأحزاب الشّعبوية في العالم، فهي تشكل طيفاً واسعاً ومراوغاً من الأفكار والممارسات التي تعكس أزمات مجتمعية وسياسية، ومع ذلك فإن هناك مجموعة من المشتركات التي تجمعها وتعتبر بمثابة مكونات أو سمات أساسية لما يعرف بالحركات والأحزاب الشعبوية، في مقدمها القومية الضيقة، وادعاء الحديث باسم الشعب ومعرفة مصلحته، والتعالي على الآخر، والاستخفاف بالمؤسسات الديموقراطية ومعاداة النخب الفكرية والسياسية، وطرح أفكار بسيطة وشعارات عامة وغامضة غير قابلة للتحقيق، والتلاعب بعقول وعواطف الجماهير من خلال إثارة المخاوف والآمال.
وتعتمد الشّعبويات على تصوير مبسط وسطحي للأحداث، فالتاريخ تحركه المؤامرات، ولا بد من وحدة الشعب، تحت قيادة زعيم ملهم، خطيب مفوه، قادر على قيادة الوطن وتحقيق الانتصار الحتمي على الأعداء في الداخل والخارج وتحقيق التقدم والعدالة الاجتماعية، ولا شك أن المسار الجديد للشعبويات في أوروبا، خصوصاً بعد فوز دونالد ترامب، يوظف الإسلاموفوبيا لإثارة مخاوف الناخبين، بالتالي يبرر غلق الحدود والعداء للعولمة حفاظاً على الذات القومية وأمن الشعب ومصالحه. لكن المفارقة أن كثيراً من المشتركات التي تقوم عليها الحركات والأحزاب الشّعبوية حاضرة بقوة في تكوين وخطابات الجماعات والحركات التي تدعي الحديث باسم الإسلام، حتى أنه يمكن اعتبارها حركات شعبوية بامتياز، وذلك على رغم بعض الاختلافات والتحويرات التي أدخلتها الجماعات والحركات الإسلاموية على أفكار وممارسات الشعبويات القومية.
كانت البدايات الأولى للشعبوية الإسلاموية على يد حسن البنا مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر عام 1928، والثابت أن البنا تأثر بالأفكار والممارسات التي بدت ناجحة في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي في كل من ألمانيا النازية وروسيا الستالينية وإيطاليا الفاشية، وقام البنا بنقل أو تمصير أفكار وممارسات تلك الشّعبويات، مثل الحرص الشديد على قيام تنظيم حديدي متماسك والتعالي على الآخرين، ورفض مؤسسات العمل السياسي وأفكار النخب الليبرالية، والتأكيد على ضرورة الولاء والسمع والطاعة للزعيم المؤسس (حسن البنا) الذي احتكر حق تفسير الإسلام كنص مقدس، وتحديد الأعداء والأصدقاء، وعقد التحالفات المريبة من أجل مصلحة الجماعة التي هي جماعة المسلمين، ما يعني بمنطق المخالفة أن كل من خارجها ليسوا مسلمين.
كان للزعيم في التجارب الفاشية أو النازية حق تفسير وتحديد مفاهيم الوطن والمصلحة الوطنية، فكان ستالين المحتكر لحق تفسير الماركسية، بينما كان حسن البنا ومن بعده قيادات وأمراء الجماعات الإسلاموية يملكون الحق الحصري في تفسير وتأويل الإسلام، ونجح حسن البنا في ابتكار خلطة ناجحة توظف بعض التقاليد والتعاليم الإسلامية الخاصة بالبيعة والسمع والطاعة مع بعض ممارسات وتجارب الشّعبويات القومية التي تأثر بها، والثابت أن كل قيادات وأمراء التنظيمات الإسلاموية بداية من المودودي مروراً بسيد قطب وتقي الدين النبهاني وشكري مصطفى وبن لادن والظواهري والزرقاوي والبغدادي وغيرهم اكتسبوا حق السمع والطاعة وتوجيه الجماعة وتحديد أهدافها، كما تمتعوا بقدرات خطابية عالية مكّنتهم من دغدغة مشاعر أنصارهم، والتأثير فيهم، تماماً كما فعل رموز وقيادات الحركات الشعبوية القومية في العالم مثل هتلر وموسوليني وشافيز وترامب.
والمدهش أن كل الجماعات الإسلاموية سواء التي اعتمدت على العنف والإرهاب أو على الدعوة والعمل السياسي وظّفت شعار إقامت (او استعادة) دولة الخلافة إلى جانب شعار آخر مشهور وغامض للغاية، وهو «الإسلام هو الحل»، من دون الدخول في تفاصيل من أي نوع، حيث لا تطرح الجماعات الإسلاموية برامج واضحة لإقامة دولة الإسلام أو تقدم حلولاً لمشكلات الواقع. ويمكن القول بفشل كل هذه الشعارات عند محاولة تطبيقها في أرض الواقع حيث أدت تجارب الحكم الإسلاموي في أفغانستان والسودان ومصر إلى نتائج كارثية، كما دخلت الجماعات الإسلاموية في صدامات دموية ضد أنظمة عربية، ثم ضد أهداف غربية، كما تنافست على إقامة كيانات ضعيفة ومسيئة للإسلام تحت مسمى دولة كما حدث في أفغانستان والصومال وأجزاء من العراق وسورية وليبيا.
إن تكفير الآخر المختلف مع الجماعات الإسلاموية، وكراهية الآخر أو الاستعلاء عليه واضطهاده هي ممارسات تبسيطية للغاية لقواعد فرضها الإسلام الصحيح بشأن تكفير الآخر أو الاستعلاء عليه، لكن هذا التبسيط هو أحد أهم القواسم المشتركة بين الجماعات الإسلاموية وبين الحركات الشعبوية القومية الضيقة في العالم، حيث تطلق الأخيرة بمنتهى البساطة والسرعة أحكاماً بالخيانة على الآخر المختلف معها أو تمارس الاضطهاد والتمييز ضد القوميات الأخرى. لكن هذا التقارب بين القوميات الشعبوية والجماعات الإسلاموية في الفكر والممارسة لا ينبغي أن يحجب عنا مظهرين أساسيين للخلاف والصراع بينهما، الأول: أن معظم الشّعبويات تحبس نفسها في وطنية أو قومية ضيقة وتضفي عليها قدسية أخلاقية زائفة وتربطها أحياناً بالنقاء العنصري، بينما شعبوية الجماعات الإسلاموية ترفض الأطر القومية وتتبنى فكرة الأمة الإسلامية والدين كإطار جامع وأساس متخيل للهوية. الثاني: أن الجماعات الإسلاموية تمنح تأويل الدين الإسلامي وتوظيفه أهمية كبيرة تفوق بكثير توظيف الدين لدى بعض الشعبويات القومية، والتي ترفض الخلط بين الدين والسياسة وتتبنى العلمانية بدرجات مختلفة.
إن التشابه والاختلاف بين الشّعبويات القومية الضيقة والجماعات الإسلاموية يثير إشكالية التطرف الأيديولوجي الذي يمكن أن يكون عنواناً للمرحلة المقبلة من تاريخ العالم، وهي مرحلة صعبة تشهد تهديداً صريحاً لقيم الليبرالية والعولمة، وصعوداً للأفكار غير العقلانية والتبسيطية التي تراهن على دغدغة مشاعر الجماهير وخداعها، وهنا لا بد من الإشارة إلى الاستفادة المتبادلة بين الشّعبويات القومية والجماعات الإسلاموية، حيث تستغل الأولى الإسلاموفوبيا لتأكيد مشروعيتها وتوسيع نطاق جماهيريتها، بينما توظف الجماعات الإسلاموية مشاعر الكراهية ضد الإسلام والمسلمين التي تغذيها الشعبوية في أوروبا وأميركا من أجل كسب أنصار جدد وتبرير مقولاتها العدائية ضد «الغرب الصليبي الاستعماري». هكذا يظهر توظيف متبادل للتطرف الأيديولوجي وكراهية الآخر، الذي يخشى أن يتسع نطاقه ويقود العالم إلى صراع حضارات. لذلك لا بد من تحرك دولي يقوم على الحوار والتعاون بين الدول الإسلامية وأوروبا وأميركا من أجل تطويق الإسلاموفوبيا والتطرف الإسلاموي.
*نقلا عن صحيفة الحياة