شكلت ملاحقة المقاتلين الإرهابيين الأجانب في مناطق النزاع، ظاهرة متصاعدة طبعت مسار العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، ونمطًا جديدًا من أنماط الصراع، وتطورًا للمفهوم التقليدي للحرب المبني على العنف بين الدول المتعارضة الإرادة.
فإذا كانت الحرب شكلا من أشكال الصراع، بحسب جوليان فروند في كتابه "سوسيولوجيا الصراع"؛ فإن العنف ليس خيارًا بقدر ما هو وسيلة للدولة لفرض إرادتها بمختلف التدابير بما فيها غير التقليدية.
ولا يمكن حصر ظاهرة ملاحقة المقاتلين في مناطق النزاع، في السلوك السياسي والفعل العسكري لدولة دون غيرها، إذ إن استجابة الدول على اختلافها بشكل واعٍ لمحفزات سياساتها الخارجية واستراتيجياتها العسكرية، يظهر بشكل كبير في تطور أنماط ملاحقة المقاتلين منذ أحداث 11 سبتمبر 2001، وصولا إلى نهج دول، كروسيا وإيران وتركيا في أنماط استجابة مغايرة للفهم الخطي الأمريكي للحدود الفاصلة.
يتطلب فهم هذه الظاهرة، في عالم ما بعد الحداثة المتسم بالفوضى وبتلاشي قواعد الصراع الدولي، التركيز على جوانبها العسكرية والاستراتيجية والسياسية، خصوصًا أن الاكتفاء بالتفكير النمطي والجامد المبني على قواعد القانون الدولي الإنساني (اتفاقيات جنيف الأربعة والبروتوكولان الإضافيان)، لن يخرج عن سياق الوصف المستفيض للمقاتل في مناطق النزاع بصفة عامة، وهو أمر لن يتيح فهم أدوات وأنماط الملاحقة، والأبعاد الاستراتيجية لما وراء هذه الظاهرة في استغلال وتوسيع الحدود الفاصلة في العلاقات الدولية.
أولاً: من هو المقاتل الإرهابي الأجنبي؟
يحدد "توماس هيجهامر" في دراسته حول "صعود المقاتلين الأجانب" التي أعدها لمركز بيلفر للعلوم والشئون الدولية التابع لجامعة هارفارد، أربعة معايير لتمييز المقاتل الأجنبي. إذ يعرفه بأنه الشخص الذي انضم إلى تمرد، ويعمل من داخل القوات المتمردة، بحيث لا تربطه أي علاقة قرابة أو جنسية مع الأطراف المتنازعة، ولا ينتمي إلى جيش نظامي.
وبحسبان الإرهاب ظاهرة عابرة للحدود بمحفزاتها وتداعياتها، فإن عولمة التنظيمات الإسلامية ذات الطابع المتشدد، واتساع مصادر تمويلها، مع تمكنها من استغلال شبكات التواصل الاجتماعي للترويج لفكرها السلفي الجهادي، واستقطاب المقاتلين الإرهابيين الأجانب؛ يجعل من المعايير التي حددها "هيجهامر" غير كافية لتعريف المقاتل الإرهابي الأجنبي.
في هذا الإطار، عرف مجلس الأمن في قراره رقم 2178 (24/09/2014) ظاهرة المقاتلين الإرهابيين الأجانب، في الأفراد الذين يسافرون إلى دولة غير التي يقيمون فيها أو يحملون جنسيتها، بغرض ارتكاب أعمال إرهابية أو تدبيرها أو الإعداد لها أو المشاركة فيها أو توفير تدريب على أعمال الإرهاب أو تلقي ذلك التدريب.
ثانيًا- أدوات وأنماط الملاحقة:
تتعدد أدوات ملاحقة المقاتلين الأجانب بتعدد المتداخلين في النزاع، ولا تخلو تلك الملاحقة من اتباع الأدوات القانونية؛ حيث تحاول الدولة الملاحِقة تجريم أفعال المقاتل الإرهابي، والتضييق عليه، ومحاصرته قانونيًّا، وتجفيف مصادر تمويله، وتجريم عمليات تجنيد وتسهيل دخول المقاتلين الإرهابيين الأجانب. غير أننا سنركز في هذا التحليل على الطبيعة المتغيرة للأدوات العسكرية وأنماط الملاحقة ما بين التدابير الحربية والتدابير ما دون الحربية، وسياقات تطورها منذ أحداث 11 سبتمبر 2001.
1- التدابير الحربية:
تُعد الحرب شكلا من أشكال الصراع الذي تسعى من خلاله الدولة -بشكل مباشر وتقليدي- إلى فرض إرادتها تجاه الدول الأخرى، غير أن تحول اتجاهات عنف الدولة لملاحقة تنظيمات وجماعات إرهابية، أنتج أنماط صراع جديدة، كالحرب اللا متماثلة، والحرب الوقائية.
-الحرب اللا متماثلة: مثّلت أحداث 11 سبتمبر 2001، ذريعة لإدارة جورج بوش الابن والمحافظين الجدد، للتدخل في أفغانستان في إطار العقيدة الوقائية، وهو أمر أفضى إلى حرب لا متماثلة؛ حيث يختلف طرفا النزاع تمامًا عن الحرب التقليدية التي تجري بين إدارتي دولتين متعارضتين، في حين عرفت الحرب على الإرهاب في أفغانستان مواجهةً بين طرفين لا متماثلين من حيث عناصر القوة، بين دولة تنهج نمط الحرب التقليدية، وبين مجموعات إرهابية مقاتلة تعتمد أساليب حرب العصابات.
-الحرب الوقائية: تمادت الولايات المتحدة الأمريكية في بداية القرن الحادي والعشرين في سياساتها العدوانية، وجعلت من فلسفتها الذرائعية في محاربة الإرهاب، منطلقًا للتدخل في مناطق عدة، وأنتج الخلط بين ملاحقة المقاتلين الإرهابيين والمزاعم الواهية لامتلاك النظام العراقي أسلحة دمار شامل وارتباطه بصلات بتنظيم القاعدة، نمطًا لحرب وقائية غير مشروعة، تمت شرعنتها بمحاولة إدراجها في إطار الحرب الاستباقية.
والواقع أن الحرب الاستباقية تجد شرعيتها في القانون الدولي في إطار اللجوء الشرعي للدفاع عن النفس وفقًا للشروط المشار إليها في المادة 51 من الميثاق الأممي، والتي تنص على أنه "ليس في هذا الميثاق ما يمنع الدفاع الشرعي عن النفس، الفردي أو الجماعي، في الحالة التي يكون فيها عضو في الأمم المتحدة موضوع عدوان مسلح، إلى غاية اتخاذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لاستتباب السلم والأمن الدوليين".
وانطلاقًا من الميثاق فإن حالة العدوان هي الشرط الأساسي للدفاع عن النفس واللجوء للقوة، وهو الشرط الذي لم يتحقق في الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003 في إطار حرب وقائية جعلت من محاربة الإرهاب مفهومًا واسعًا لمواجهة عدو افتراضي مجهول يصعب تحديد هويته وموقعه للقضاء عليه.
لقد أفضت أنماط ملاحقة المقاتلين الأجانب، في إطار التدابير الحربية (الحرب اللا متماثلة - الحرب الوقائية)، إلى فشل أمريكي ذريع، مرده انتهاج واشنطن أساليب الحرب التقليدية تجاه تنظيمات إرهابية أجادت أنماط مواجهة مبنية على تدابير ما دون حربية (حرب العصابات، العمليات الانتحارية، اغتيال القادة السياسيين والحربيين).
2- التدابير ما دون الحربية:
لم تكن لتقتصر عملية ملاحقة المقاتلين الإرهابيين في مناطق النزاع على الولايات المتحدة الأمريكية في بداية القرن الـ21، لولا القدرات الهائلة التي امتلكتها إبان أحداث 11 سبتمبر، والتي جعلت منها الدولة الوحيدة القادرة على التحرك في هذا الإطار باستغلال التدابير الحربية، وهو أمر فطنت واشنطن لاحقًا إلى تداعياته الخطيرة على مسار استراتيجيتها الكبرى.
إذ تعرضت قدرة الولايات المتحدة للتدخل في موقعين مختلفين ( العراق، أفغانستان) في العالم في الوقت نفسه للاستنزاف، ما دفع بها إلى نهج نمط مغاير مبني على اتخاذ تدابير ما دون حربية، وهو النمط الذي سلكته دول أخرى كروسيا وإيران وتركيا مستغلة التخبط الأمريكي في الفهم الدقيق للحدود الفاصلة لشن الحرب الشاملة.
ويحدد الباحثان "جايلز هارلو" و"جورج مايرز" (في كتابهما "التدابير مــا دون الحربية: محاضرات جورج كينان في كلية الحرب الوطنية 1946-1947") التدابير ما دون الحربية التي تتخذها الدولة دون الوصول إلى حرب شاملة، وهي: التفاوض، الحظر، الترهيب، التخريب السري، الاغتيال (اغتيال أسامة بن لادن في أفغانستان، واغتيال أبرز قادة تنظيم داعش)، والاستخدام المحدود للقوة (التدخل الإيراني، والتركي في سوريا).
وبالعودة لتحركات الدول أعلاه لملاحقة المقاتلين الإرهابيين في مناطق النزاع، نجد أنها لجأت في مرحلة ما من مراحل النزاع السوري، إلى اتخاذ تدبير من التدابير ما دون الحربية أو نهج حزمة تدابير.
وفي هذا السياق، قامت روسيا بالاستخدام المحدود للقوة عن طريق ضربات عسكرية جوية تجاه أهداف تنظيم داعش وباقي المجموعات الإرهابية في سوريا، وكانت سباقة إلى الدعوة إلى وقف إطلاق النار، ودبرت عملية التفاوض حول خروج المقاتلين الأجانب من مدينة حلب بعد سيطرة الجيش السوري عليها.
يُضاف إلى ذلك لجوء الدول أعلاه إلى نمط الحرب الهجينة التي تقتضي عمل الدولة على دعم مجموعات وتنظيمات مسلحة بأسلحة تقليدية وأخرى نوعية، قادرة على مواجهة العدو بشتى أساليب الحرب الممكنة، في أماكن النزاع التي لا تسعى الدولة للتدخل بشكل مباشر فيها. ولعل الأمثلة تتعدد في هذا الجانب، كالدعم الأمريكي والتركي للجيش السوري الحر لمواجهة نظام الأسد، وكذا التسليح الإيراني لحزب الله، ودفعه للقيام بعمليات عسكرية في سوريا.
وعليه، فإن انتهاج الدولة نمطًا محددًا لملاحقة المقاتلين الأجانب في مناطق النزاع، لا يعني تغييبًا لباقي الأنماط الأخرى أو زوالها، فلكل تدبير من التدابير -سواء الحربية أو ما دون الحربية- أهمية قصوى في إدارة الصراع، وهو ما يجعل الباب مفتوحًا أمام اتباع نمط الحرب الذي يتماشى والظروف المحيطة بالنزاع.
ثالثا- الأبعاد الاستراتيجية للملاحقة:
لقد أثارت ظاهرة ملاحقة المقاتلين الإرهابيين في مناطق النزاع، بعيدًا عن أدواتها وأنماطها، تساؤلات عدة حول الأهداف الحقيقية، والأبعاد الاستراتيجية من وراء خرق الدولة للقانون الدولي والتدخل عسكريًّا للحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في مناطق النزاع بدعوى حماية أمنها القومي، والتمادي -في بعض الأحيان- في اتباع تدابير ما دون حربية، كتسليح تنظيمات ومجموعات تزيد من تأزم النزاع بدلا من إيجاد حل له، خصوصًا وأن إعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول -وفقًا لميثاق الأمم المتحدة- تنص على ضرورة امتناع كل دولة عن تنظيم وتشجيع الأعمال الإرهابية على أراضي دولة أخرى.
إن مفهوم الأمن الذي تتحجج الدولة به للتدخل في الشأن الداخلي لدولة أخرى ذات سيادة، تحت ذريعة ملاحقة المقاتلين الأجانب، يتغير من بلد لآخر بتغير قيم المجتمع ذاته وطبيعة نظامه السياسي، فإذا كان مفهوم الأمن مرتبطًا بحماية الحدود الجغرافية الحقة للدولة، فهو يختلف تمامًا لدى الولايات المتحدة الأمريكية.
إذ يرى الباحث "دافيد كامبل" في دراسته "السياسة الخارجية الأمريكية وسياسات الهوية"، أن مفهوم الأمن مفهوم واسع في تعريفه، يرتكز أساسًا على حماية قيم المجتمع الأمريكي كـ"الحياة" و"الحرية" و"السعي لتحقيق السعادة" التي تضمنها إعلان الاستقلال، والمستوحاة من تصور "جوك لوك" للحقوق الطبيعية، والتي يُضاف إليها قيم كـ"العدالة" و"اقتصاد السوق".
وعليه، فإن لجوء الدول للأدوات العسكرية باتباع أنماط لملاحقة المقاتلين الأجانب، كالعمليات العسكرية الإيرانية، والضربات الجوية الروسية في سوريا، والتوغل العسكري التركي في سوريا، والضربات العسكرية الجوية الأمريكية وقيادتها للتحالف الدولي ضد داعش، سواء لحماية حدودها الجغرافية، أو حماية مصالحها الاستراتيجية، أو للدفاع عن كونية منظومتها القيمية؛ يندرج ضمن تعريف "كلاوزفيتز" للحرب بحسبانها امتدادًا للسياسة وإن بوسائل أخرى، بمعنى أن تحول مفهوم الأمن من حماية الحدود الحقة للدولة إلى تفعيل القوة في العالم تحت ذرائع عدة، يندرج ضمن باب حماية المصالح الكامنة للدولة، وهي مصالح تتجاوز لدى القوى الكبرى المفهوم التقليدي للحدود المعترف بها دوليًّا.
وترى مؤسسة RAND للأبحاث والتطوير في تقرير لها أعد للجيش الأمريكي وصدر في أبريل 2016 تحت عنوان "توسيع واستغلال الحدود الفاصلة لشن الحرب الشاملة"، أن الحدود الفاصلة بين القوى الكبرى وكذلك بين القوى الإقليمية، هي حدود النفوذ المتوافق عليها، والتي يشكل تجاوزها أو استغلالها والتوغل فيها من أحد الأطراف تهديدًا بقيام حرب شاملة. لذلك يسعى كل طرف إلى التحليل العلمي والدقيق واستغلال الفهم الخاطئ أو سوء تقدير باقي الأطراف لطبيعة الحدود الفاصلة لشن حرب شاملة، وفي هذا الإطار تعمل الدولة على تقويض أدوار منافسيها بتوسيع الحدود الفاصلة كلما كانت العوامل الإقليمية والظروف الدولية محفزة لذلك.
ويؤكد الخبيران الاستراتيجيان الصينيان "وانج زيا نجسوي" و"كياو ليانج" في كتابهما "الحرب غير المقيدة"، بأن أهم ما يميز الشكل الحالي من أشكال الصراع على الصعيد الدولي، هو اعتماد "الحرب غير المقيدة" التي لا تخضع لقواعد الصراع الدولي، والتي تقتضي تسخير الدولة لكافة الأدوات غير التقليدية بما فيها الاقتصاد والتكنولوجيا، واعتماد أساليب الحرب السيبيرية والحرب الهجينة، والعمل على استغلال كل الإمكانيات المتاحة لمواجهة العدو دون الدخول في حرب شاملة، بما في ذلك استخدام الهجمات الإرهابية.
ختامًا، تشكل ظاهرة ملاحقة المقاتلين الإرهابيين الأجانب في مناطق النزاع، إحدى ركائز استراتيجية الحرب غير المقيدة، التي اعتمدتها القوى الكبرى والقوى الإقليمية، لاستغلال وتوسيع الحدود الفاصلة لشن حرب شاملة. ويمثل هذا التطور المتصاعد في أشكال الصراع، محفزًا لأنماط تفكير جديدة، تجعل من محاربة الإرهاب وسيلة لتحقيق غايات سياسية، هدفها توسيع مناطق النفوذ، بدلا من معالجة شاملة للعوامل المؤدية للإرهاب.