وسط تشابك الحسابات الإقليمية بين القوى المختلفة في الشرق الأوسط خلال الفترة الماضية، تأتي معركة عين العرب (كوباني) بتطوراتها على مدار الأسابيع المنصرمة لتثير عدداً من علامات الاستفهام حول منظومة العلاقات والتحالفات ذات الصلة في المنطقة، والتي يمكن القول إنها حملت العديد من الدلالات بشأن تغير بعض الثوابت والمرجعيات في هذا الصدد. فمنذ أن بدأ تنظيم "داعش" هجومه على هذه المدينة السورية في 16 سبتمبر الماضي، أضحت المدينة رمزاً للمقاومة ضد التنظيم في سوريا وفي المنطقة بأسرها، لاسيما في ظل التداخل الميداني في هذه المنطقة بين دول العراق وتركيا وسوريا وايران، إضافة إلى الأكراد وقوات التحالف الدولي المناوئة لـ"داعش".
وتدور معارك كر وفر بين طرفين رئيسين هما، قوات "داعش" التي تسعى للاستيلاء على المدينة، والمقاتلين الأكراد الذين يستميتون في دفاعهم عن مدينتهم. وفي موازاة ذلك، تشن قوات الائتلاف الدولي، الذي تقوده الولايات المتحدة، غارات جوية متواصلة على معاقل قوات "داعش"، وسط ترقب القوات التركية والإيرانية التي يتكرر الحديث عن احتمالات تدخل كل منهما لحسم المعركة.
ويمكن فك الاشتباك بشأن أهمية تلك المعركة وتداعياتها عبر التوقف أمام دلالات تطوراتها بالنسبة للفاعلين المعنيين، وأبرزهم:
أولاً: تنظيم داعــش.. الأهداف والإمكانيات
تكتسب معركة مدينة كوباني أهمية ميدانية واستراتيجية خاصة بالنسبة لـ"داعش"، وهو ما يرتبط بموقع المدينة ذاته، فهي تشكل حاجزاً بين المناطق التي تسيطر عليها في الغرب، وتلك التي تسيطر عليها في الشرق والجنوب، ومن ثم فسقوط المدينة ومحيطها سيفضي إلى اكتمال الامتداد الجغرافي الواقع تحت سيطرة "داعش" من الموصل في الشرق، مروراً بالرقة ودير الزور، وصولاً الى حلب، وهو ما يعني وصول "داعش" إلى الحدود التركية مباشرة؛ وبالتالي امتلاك المزيد من عناصر القوة خصوصاً إذا نجح التنظيم في استثمار وصوله إلى الحدود التركية بضم المزيد من المقاتلين القادمين عبر الحدود أو بناء حاضنة له داخل تركيا، فضلاً عن تحكمه في طرق التجارة عبر الحدود بين تركيا والعراق وسوريا؛ وهو ما يكتسب أهمية خاصة في ظل التقارير التي تتحدث عن تهريب التنظيم للنفط من العراق وسوريا.
كما أن سيطرة هذا التنظيم الإرهابي على كوباني تعني تحجيم العامل الكردي الذي ظهر كقوة فاعلة محتملة لمحاربته إذا ما قرر التحالف الدولي التحرك على الأرض من خلال قوات محلية، بعد أن لاحت إمكانية التحالف بين قوات وحدات حماية الشعب الكردية وفصائل من الجيش الحر في إطار ما عرف بـ "غرفة بركان الفرات" وإمكانية انتقال هذه التجربة إلى مناطق أخرى.
وعلى الرغم من أهمية هذه المعركة بالنسبة لـ"داعش" وعلى الرغم من توقعات البعض بسرعة حسمها في ظل كثافة هجوم داعش والأسلحة المتطورة التي بحوزته، والتي جلبها من الموصل في العراق والفرقة 17 ومطار الطبقة في محافظة الرقة السورية؛ يشير العديد من الخبراء العسكريين إلى أن التنظيم بدأ في خسارة كفاءاته القتالية المدربة بعناية، وبدأ في إرسال الكوادر الجديدة من المجندين إلى ساحة معركة كوباني دونما خبرات أو تدريبات كافية.
ثانياً: الأكـــــراد.. الرقم الصعب في المعادلة
تحمل مدينة كوباني قيمة رمزية كبيرة للأكراد، فهي من ناحية أولى تعد ثالث أكبر تجمع كردي في سوريا بعد منطقتي الجزيرة وعفرين، ويسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي وذراعه العسكرية، وهو قريب من حزب العمال الكردستاني. وكانت المدينة مقراً للزعيم الكردي، عبدالله أوجلان، لدى هروبه من تركيا في عام 1979. وبما أنها المعقل الرئيسي لحزب العمال، فإن الدفاع عنها يعد مسألة كرامة وشرف لعموم الأكراد، لاسيما أنها تشكل إحدى المقاطعات الثلاث التي أعلنها حزب الاتحاد الديمقراطي في إطار ما عرف بمشروع الإدارة الذاتية. ومن ناحية أخرى، فإن سيطرة "داعش" على المدينة توجه ضربة قاصمة لمشروع كردستان الكبرى من خلال منع التواصل الجغرافي بين كردستان الشرقية (العراق) والغربية (سوريا).
ومع أن الأحداث تشير إلى استبسال المقاتلين الأكراد في الدفاع عن المدينة، فإن مجريات المعركة تبرز مجموعة من المدلولات السلبية فيما يخص حدود القوة الكردية، فضلاً عن وحدة الصف الكردي.
وفيما يخص أكراد العراق، يشير المعنيون إلى أن مؤسسات رئاسة إقليم كردستان لم تبدِ اهتماماً كافياً، فلم تجتمع رئاسات الإقليم ولو اجتماعاً واحداً لهذا الغرض، ولم يجر تحريك قوات ولو بطريقة استعراضية للضغط على "داعش"؛ وهو ما ترك أثراً سلبياً على العلاقات بين الأحزاب الكردية في العراق. كما أن الحصار الخانق الذي فرضه "داعش" على كوباني وموقعها الجغرافي المعزول - بسبب وقوعها بين المناطق العربية - حال دون وصول مساعدات من المناطق الكردية الأخرى إليها.
ثالثاً: تركيا.. حسابات معقدة
تعتبر تركيا بحكم موقعها وتكوينها الديموغرافي الطرف الأكثر تأثيراً وتأثراً بنتائج معركة كوباني، وإن كانت حسابتها في هذا السياق شديدة التعقيد، إن لم يكن الارتباك، إذ إن أنقرة تعتبر كلاً من "داعش" وحزب العمال الكردي والنظام السوري أعداء لها. ومن ثم تبرز هذه الأمور:ـ
- انتصار "داعش" سيزيل نقطة ضغط كردية من حدود تركيا ويضعف قوة حزب العمال، ويجعل أنقرة الطرف الأقوى في مباحثات السلام الجارية مع حزب العمال حالياً، بيد أن لدى أنقرة مخاوف من أن تمدد "داعش" على حدودها سيشكل تهديداً للاستقرار والأمن التركيين، مع الخوف من قيام التنظيم بتنفيذ عمليات داخل تركيا، خاصة أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن 15% من الأتراك لا يرون في "داعش" تنظيماً إرهابياً، فضلاً عما يثار عن وجود ما بين 500 إلى 1000 مقاتل تركي داخل صفوف "داعش".
- انتصار الأكراد سيقوي موقف حزب العمال الكردي ونفوذه داخل المناطق الكردية داخل سوريا وداخل تركيا، وسيدفع بالتحالف الدولي للانفتاح عليه مع احتمالات رفعه من لائحة الإرهاب الدولي لاستخدامه في الحرب ضد "داعش" باعتباره فصيلاً مقاتلاً موثوقاً؛ فيقوي ذلك موقعه وتعاطف العالم مع مطالبه. في السياق ذاته، تتخوف أنقرة من الدعم العسكري الغربي لقوات البشمركة في شمال العراق، خشية أن تصل منظومات أسلحة حديثة ومتطورة إلى أيدي مقاتلي "حزب العمال الكردستاني" التركي، يمكن لها أن تضعف موقفها التفاوضي مع الجناح السياسي للحزب.
- بقاء الحال على ما هي عليه يهدد بتقويض العملية السياسية بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني التركي المسلح، وانفجار احتجاجات واسعة في بعض المناطق التركية ذات الغالبية الكردية، على امتداد الحدود مع سوريا. وقد بدأت بالفعل موجة من الاحتجاجات الواسعة، وهو ما يتأكد أيضاً مع تهديد زعيم حزب العمال الكردستاني، عبدالله أوجلان، بأن سقوط كوباني يعني نهاية عملية السلام الكردية ـ التركية، وإن كانت بعض التحليلات تدفع بأن الوضع الداخلي التركي والخلافات الحادة والدائمة بين أردوغان "الإسلامي" والجيش "العلماني" التركي يحتم على السلطة الحالية إدامة حالة الطوارئ على الحدود كي ينهمك الجيش في مسائل لا تقترب من السياسة.
في ظل هذه التعقيدات تأتي إدارة تركيا لملف معركة كوباني متسمة بقدر شديد من الحذر، إذ اقتصرت على:
أ. الحرص على الظهور بمظهر الدولة المؤثرة القادرة على التدخل والتأثير في مجرى الأحداث إذا لزم الأمر.
ب . الوفاء بالالتزامات الإنسانية عبر استقبال آلاف اللاجئين من كوباني، حيث بلغ عددهم قرابة 200 ألف شخص.
ج . التأهب الأمني للتعامل مع أي طارئ يهدد الأمن التركي بشكل مباشر.
د . انتظار ما ستسفر عنه المواجهات بين طرفين عدوين لتركيا.
رابعاً: التحالف الدولي والحاجة لإعادة النظر
يعتقد العديد من المتخصصين أن أحداث كوباني تأتي لتكشف عن تضارب الأجندتين الإقليمية والدولية، إذ يصعب على المراقب أن يتفهم عجز قوات التحالف عن تحجيم قوات "داعش" واستيعاب قدرته على تهديد مدن أخرى مثل كوباني.
وتوضح القراءة المتأنية لوقائع ضربات التحالف على مواقع التنظيم (لاسيما في سوريا) أن ثمة دلالات عدة لعل من أبرزها هشاشة وارتجالية استراتيجية التحالف الدولي بقيادة واشنطن، التي يبدو أن حساباتها في المنطقة لا تقل تعقيداً عن حليفتها أنقرة. فمن ناحية أولى يبدو - حتى الآن - أن الأكراد هم الجهة الوحيدة التي تعد قوة مسلحة "غير دينية" تسيطر على مساحات واسعة يمكن أن تساعد واشنطن على الأرض، لكن واشنطن لم تظهر نية كافية للاستفادة منهم تفادياً للغضب التركي؛ الأمر الذي شجع أنقرة على التصريح بأنه "لا قيمة للتحالف من دون مشاركة برية من تركيا"، وهذه المشاركة مشروطة بمحاربة التحالف لـقائمة أعداء تركيا والتي تشمل "داعش" ونظام الأسد وحزب العمال الكردستاني في وقت واحد.
وتدرك واشنطن من ناحية ثانية المخاطر التي تهدد المصالح الأمريكية في المنطقة، وتتحسب للتحذيرات الروسية من أية محاولة لاستهداف الدولة السورية (أي نظام الأسد) أو استهداف الجيش العربي السوري (قوات الأسد أيضاً)، وتتخوف كذلك من التهديدات الإيرانية، لاسيما مع إعلان طهران استعدادها لتقديم الدعم للحكومة السورية لحماية سكان مدينة كوباني. كما تخشي واشنطن من توسع رقعة الصراع الإقليمي ليمتد ويشمل إسرائيل خاصة مع توتر حدودها الشمالية مع لبنان.
هل يستمر الوضع القائم طويلاً؟
تشي الخريطة المعقدة لمصالح ومقدرات الأطراف المعنية بمعركة كوباني بأنه من المرجح أن يستمر الوضع القائم لمدة طويلة قبل أن يتجه أي من هذه الأطراف إلى حسمه بشكل واضح. فعلى الرغم من أن "داعش" يمتلك الآن مصادر تمويل ذاتية عن طريق بيع النفط الذي يستخرجه من آبار نفط سورية وعراقية، لكنه نفط يصبح بلا قيمة إذا امتنعت الدول عن شرائه، علماً بأن تركيا تعد العميل الأبرز لـ"داعش" في هذا الصدد.
ومع إخفاق التحالف الدولي في تحجيم قوة داعش -حتى الآن - دونما تدخل قوات برية، تتبدى أهمية المشاركة التركية في هذه العمليات، بيد أن تركيا تريد أن تقايض تدخلها بضمانات تؤمن لها التخلص من تهديدات "داعش" وحزب العمال والنظام السوري في آن واحد، عبر مطالب عدة أهمها إقامة "المنطقة الآمنة" في الأراضي السورية؛ الأمر الذي يضع الإدارة الأمريكية قائدة التحالف الدولي في مأزق بمواجهة ناقديها المنادين من المحافظين، والمطالبين بتوسيع المواجهة، من خلال زيادة حجم القوات الخاصة في الساحة العراقية وتسريع تسليح البشمركة وتطوير أوضاع القوات العراقية وإعداد الجيش السوري الحر لمقاتلة "داعش" والأسد في آن واحد.