لم تتمكن التحليلات والاجتهادات النظرية والتطبيقية على مدار العام 2016 من تجاوز حالة "الاضطراب" و"السيولة" و"عدم اليقين" التي فرضتها التحولات الدولية على مدار هذا العام. إذ دفعت هذه التحولات المؤسسات الأكاديمية والبحثية إلى استخلاص مفاهيم جديدة وتطوير مفاهيم تقليدية عائدة لتوصيف وتفسير واحتواء واقع مُتقلب وغير مستقر يموج بالصراعات الداخلية والتهديدات الإرهابية والتحديات الاقتصادية والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية.
وفي هذا الإطار تتمثل أهم المفاهيم التي من المرجح أن تساهم في تشكيل التفاعلات العالمية على المدى القصير فيما يلي:
1- عدم الاستقرار الممتد: تراجعت احتمالات انحسار حالات عدم الاستقرار الممتد (Protracted Instability) والعودة لنقطة التوازن في عدد كبير من دول العالم، وهو ما يرتبط باكتساب محفزات عدم الاستقرار زخمًا متصاعدًا مع فقدان الفاعلين الدوليين القدرة على التحكم في مسار وكثافة التفاعلات الدولية، وهو ما زاد من أهمية مفاهيم مثل "التكيف" مع عدم الاستقرار والتعايش مع الوضع الراهن خشية ما قد تتضمنه موجات التغيير العاتية من تحولات لا يمكن السيطرة عليها.
وفي مقابل أطروحات التغيير الهيكلي التي صاحبت الثورات العربية وتسببت في انكسار فورة التوقعات الجماهيرية، فإن التركيز على مدار العامين الماضيين كان على مفاهيم الإصلاح الجزئي المرحلي التدريجي، على غرار ما جاء في كتاب "جوناثان تيبرمان" المعنون "الإصلاح: كيف تتعايش الدول وتزدهر في ظل التراجع العالمي؟" الصادر عام 2016، حيث تتمثل الفكرة الرئيسية في الكتاب في البدء بتقبل الوضع الراهن، والتعامل مع الواقع المأزوم بآليات تتسم بالبراجماتية والاتزان والتدريجية، بالإضافة إلى الدور الاستثنائي الذي يقوم به القادة في مراحل التعثر والأزمات.
وتكاد تتشابه رؤية تيبرمان مع ما طرحه "توماس فريدمان" في كتابه "دليل متفائل للازدهار في عصر التسارع"، حيث رصد فريدمان وجود محركات للتغير السريع في العالم ستؤثر بصورة جذرية على سوق العمل والسياسة والجغرافيا السياسية والأخلاق والمجتمعات، وتتمثل القوى الدافعة للتغيير في التغير في طبيعة السوق والتكنولوجيا والطبيعة، حيث يركز الكاتب على قدرة البشر على التعايش، والتكيف مع التغيرات المتتابعة والتحولات التدريجية التي تغير مسار حركة التاريخ باتجاه التوازن.
2- التعافي والارتداد للتوازن: في ظل سياقات داخلية وإقليمية معقدة، تصبح القدرة على التعافي من الأزمات والكوارث حيوية لبقاء الدول وتماسك المجتمعات، وفي هذا الإطار تصدرت مفاهيم "التعافي السريع" و"المرونة" (Resilience) الجدل الأكاديمي حول كيفية الصمود في مواجهة ضغوط التحولات السريعة.
وفي هذا السياق، يطرح كتاب "أندريا مورير" الصادر بعنوان "نحو آفاق جديدة لفهم المرونة في المجال الاقتصادي والاجتماعي" في عام 2016، رؤية حول كيفية توظيف مفاهيم المرونة والتعافي السريع في مواجهة التحولات الاقتصادية والاجتماعية.
ويُقصد بالمرونة القدرة على تحمل التغيرات التي تمر بها الدول والمجتمعات، والحفاظ على بقائها، والعودة إلى الحالة الطبيعية الأولى التي كانت عليها قبل حدوث التحولات، ومن ثم ينطوي مفهوم التعافي السريع على أربعة مستويات: يتمثل أولها في الجاهزية والاستعداد في مواجهة الأزمات والكوارث، أما المستوى الثاني فيرتبط بالاستجابة والتكيف مع التحولات، ويرتكز المستوى الثالث على قدرة النظام على الارتداد للحالة الطبيعية، وينطوي المستوى الرابع على التغذية العكسية وقدرة النظام على تغيير أركانه وإصلاح مواضع الضعف لتحسين قدرته على الاستجابة والتكيف خلال الأزمات والكوارث.
وعلى مستوى التحولات الداخلية فإن التعافي السريع يرتبط بالقدرة على استيعاب التحولات المجتمعية والخارجية الضاغطة، واحتواء تداعياتها، ومواجهتها بأدوات متعددة تمنع اتساع نطاقها وتفاقمها، والحفاظ على بقاء الدول في مواجهة التحولات والارتداد للحالة الطبيعية، وأخيرًا مواجهة الأسباب الدافعة للتغيرات الضاغطة لمنع تهديدها للبقاء في المستقبل.
3- مجتمعات بلا دولة: يمكن اعتبار هذا المفهوم ضمن فئة "المفاهيم العائدة" في العلوم الاجتماعية، حيث يرتبط المفهوم بكتابات بيار كلاستر حول "مجتمع اللا دولة Stateless Societies" والتحليل الذي طرحه لممارسات السلطة في المجتمعات "البدائية"، وفق التعريف الاستعماري، وأسباب رفضها لتأسيس دولة تقوم على العقد الاجتماعي. واستهدف كلاستر من خلال هذا التحليل الأنثروبولوجي استعادة العدل في مواجهة جور وتوغل السلطة على الشعوب المستضعفة.
وفي المقابل فإن التجليات الراهنة للمجتمعات بلا دولة تقوم على الإحلال الوظيفي للمجتمعات في سياقات تصدع مؤسسات الدول، وتراجع قدرتها على أداء وظائفها وتلبية الاحتياجات الأساسية للمجتمعات، وفي خضم الصراعات الأهلية في سوريا واليمن وسوريا أضحت التكوينات الاجتماعية الأولية أقوى من الدولة نتيجة تلبيتها لاحتياجات أعضائها الاقتصادية والأمنية، وباتت الانتماءات الإثنية والطائفية والمذهبية والمناطقية الأكثر رسوخًا مع انحسار الانتماء الوطني، وانحسار مقومات الوجود الظاهر والملوس للدولة.
ولا ينفصل ذلك عن تصاعد الطلب على الأدوار الأمنية للميليشيات القبلية والعشائرية والمناطقية والمذهبية في مناطق الصراعات الأهلية، وانتهاء احتكار الدولة للقوة المسلحة مع انتشار الفوضى الأمنية، وتعدد محاور الصراعات الداخلية، حيث باتت "الجيوش الموازية" تضاهي في تكوينها ومهامها وتسليحها الجيوش النظامية. وهو ما ينطبق على "الاقتصادات المناطقية" التي تقوم على تأسيس دورات اقتصادية كاملة مستقلة عن الدولة في المناطق المختلفة لتلبية احتياجات قاطنيها الأساسية، بالإضافة لانتشار آليات "الإدارة الذاتية" و"الحكم الذاتي" للمناطق غير الخاضعة لسيطرة الدولة أو التي تم تحريرها من هيمنة التنظيمات الإرهابية.
4- صراعات المناطق الرمادية: يركز مفهوم صراعات المناطق الرمادية (Grey Zone Conflicts) على "المساحة البينية بين الحرب والسلام التي تنشأ حينما يقوم الفاعلون بتوظيف أدوات متعددة لتحقيق الأهداف السياسية والأمنية عبر أنشطة تتسم بالغموض، وتتجاوز حدود التنافس التقليدي، إلا أنها تقع في مساحة دون مستوى الصراع العسكري الكامل".
ويرجع ذلك التماهي بين حالتي الحرب والسلام في هذا النمط من الصراعات إلى عدة عوامل، يتمثل أهمها في حالة الإنهاك المتبادل بين أطراف الصراع، وتوازن الضعف الذي لا يُمكِّن أيًّا منهم من حسم الصراع لصالحه بصورة كاملة، وتوظيف بعض القوى الإقليمية والدولية لأطراف الصراع كوكلاء للدفاع عن مصالحهم، مما يُسهم في تعقيد مسارات الصراع.
كما يندرج ضمن "الصراعات الرمادية" الدمج بين الأدوات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتوظيف الوكلاء المحليين في إدارة علاقات الصراع مع الخصوم بصورة غير مباشرة، على غرار أنماط إدارة الصراع بين القوى الإقليمية وإيران، وبين الصين والولايات المتحدة في بحر الصين الجنوبي، كما تعتمد روسيا على هذا المفهوم في إدارة المواجهة مع تمدد حلف الناتو في محيطها الحيوي.
5- تسويات الحد الأدنى: أدى تعثر عمليات التسوية الشاملة في مناطق الصراعات الداخلية إلى تصاعد التركيز على تسويات الحد الأدنى (Minimal Settlements) التي تقوم على التهدئة المرحلية للصراع من خلال فرض هدنة مؤقتة في بعض البؤر الجغرافية التي تشهد أكثر المواجهات احتدامًا دون التعامل مع الجذور العميقة للصراع والمسببات الأساسية لاستمراره.
وتقوم تسويات الحد الأدنى على التعامل بواقعية مع تعقيدات الصراعات الداخلية التي باتت تستعصي على التسوية النهائية، في ظل التناقضات الحدية بين مواقف أطراف الصراعات والطابع الصفري للتفاعلات والمصالح الحاكمة لاستمرارها، والتعارض الكامل بين مصالح الأطراف الإقليمية والدولية الداعمة لأطراف الصراع.
كما ترتبط هذه الأنماط من التسويات بحالة انعدام الثقة بين أطراف الصراع، وإرث العداء المستحكم فيما بينها، وهيمنة قيم "الثأر" والتعصب و"شيطنة الخصوم"، وتصميم كل منها على إنهاء الوجود المادي للآخر، وهو ما يجعل التوصل لتسوية تقوم على المكاسب النسبية غير قائم في إطار هذه الصراعات المعقدة التي تفتقد لتحديد واضح لأطرافها وشبكات تحالفاتها.
6- الإرهاب الشبكي: على مدار العامين الماضيين تصدرت مفاهيم "الإرهاب الفردي" و"الذئاب المنفردة Lone Wolves" تحليلات عدد كبير من الخبراء في وصف العمليات الإرهابية التي شهدتها الدول الغربية، بداية من هجمات تشارلي إيبدو في يناير 2015، وانتهاء بهجمات برلين في ديسمبر 2016، حيث كان التركيز على قيام الأفراد بقدراتهم الذاتية بتنفيذ الهجمات بصورة سريعة وغير متوقعة اعتمادًا على الآليات المتاحة فيما أطلقت عليه قيادات التنظيمات الإرهابية "جهاد الممكن".
وفي المقابل، شهدت الآونة الأخيرة تحولا في منظورات تحليل العمليات الإرهابية؛ حيث أشار كل من ديفيد جارتنشتين روس وناثانيل بار في مقالهما المعنون "خرافة إرهاب الذئاب المنفردة"، الذي نشرته مجلة "فورين أفيرز" في يوليو 2016، إلى أن توظيف مفهوم الذئاب المنفردة في تحليل الهجمات الأوروبية في الدول الأوروبية أعاق قدرة المؤسسات الأمنية والمحللين على التوصل للشبكات المعقدة التي تدعم تنفيذ الأفراد للعمليات الإرهابية، بالإضافة للعمليات الممتدة لتحويل الأفراد العاديين إلى متطرفين عبر الوسائط الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي.
وتتضمن "الشبكات الإرهابية" جماعات الرفاق الواقعية والافتراضية التي تُسهم في هيمنة التطرف على البنية الفكرية للأفراد، والقائمين على تدريب وتسليح وإيواء من يقومون بتنفيذ العمليات الإرهابية وشبكات التمويل المحدود، بالإضافة إلى التعامل مع ظاهرة "التطرف العائلي" التي تجعل السياق العائلي أحد دعائم التطرف العنيف.
7- خطاب الشعبوية: أعاد صعود التيارات القومية المتطرفة في الدول الأوروبية والولايات المتحدة مفهوم الشعبوية (Populism) باعتباره حاكمًا لخطاب وأطروحات المنتمين لهذه التيارات، حيث يقوم خطاب الشعبوية على التبسيط الشديد للقضايا، ومداهنة القيادات للمؤيدين من خلال طرح وعود بتحقيق أقصى تطلعاتهم عبر سياسات تتسم بالبساطة والغموض والجاذبية في ذات الوقت تقوم على تخيل إمكانية تحقيق المكاسب المطلقة.
ويتناقض هذا الخطاب الشعبوي مع العقلانية والانضباط المصاحب للخطاب السياسي التقليدي، حيث يتسم الخطاب الشعبوي بطغيان الأبعاد العاطفية، والتركيز على حالة الاستقطاب والانقسام في الدولة، وتوجيه الاتهامات للنخب التقليدية لتأجيج مشاعر الغضب والعداء للآخر لدى الجماهير. وفي المقابل يروج الخطاب الشعبوي لمعلومات مغلوطة وغير دقيقة على أنها حقائق ثابتة في إطار الخداع المتعمد للجماهير للحفاظ على تأييدهم للقيادة.
ويُعد تمكن دونالد ترامب من حسم السباق الانتخابي في الولايات المتحدة لصالحه، أحد أهم تجليات الانتشار المتزايد للشعبوية في الدول الغربية، حيث شهدت الانتخابات الرئاسية الأمريكية انحدارًا في لغة الخطاب السياسي بالتوازي مع تراجع ثقة الجماهير في السياسة، وحالة من الغضب تجاه النخب المهيمنة على التفاعلات في السياسة الأمريكية، وهو ما دفع قطاعات واسعة من المواطنين للجوء للتصويت العقابي ضد النظام السياسي نفسه في محاولة لكسر رتابة الوضع الراهن والخروج عن مألوف النظام السياسي.
8- الانكشاف السيبراني: أثبتت التفاعلات الداخلية والدولية خلال العام الماضي عن تراجع هامش الأمن في المجال الافتراضي، فيما أطلقت عليه بعض الأدبيات "انعدام الأمن السيبراني" (Cyber Insecurity)، إذ لم يعد في مقدور الأفراد والدول التحكم في التدفقات المعلوماتية العابرة للحدود بالتوازي مع انتشار أدوات اختراق مساحات الخصوصية الفردية وجمع المعلومات الشخصية عن الأفراد وتوظيفها في الإضرار بمصالحهم فيما يمكن وصفه بمصطلح "عصر ما بعد الخصوصية" (Post Privacy Age) الناتج عن تزايد حالة الانكشاف السيبراني.
ولا ينفصل ذلك عن صعود جيل جديد من مستخدمي تكنولوجيا المعلومات لا يؤمن بمفهوم الخصوصية، ولا يجد ما يمنع في نشر وتداول المعلومات والصور الشخصية، ويرى المنتمون لهذا الجيل أن التنازل عن الخصوصية يعد تكلفة زهيدة -وفق رؤيتهم- للتمتع بخبرة التفاعل عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو استخدام التطبيقات الإلكترونية المتاحة على منصات الهواتف الذكية بصورة مجانية، وهم على معرفة تامة بأن هذه التطبيقات تقوم بالتجارة في معلوماتهم الشخصية، وتبيعها للمعلنين للحصول على عوائد مادية.
وتمتد حالة الانكشاف للمؤسسات السياسية والمصرفية في ظل تصاعد ممارسات "الحرب السيبرانية" بين الدول، ويرتبط ذلك بتأكيدات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية تورط الحكومة الروسية في التأثير على الانتخابات الرئاسية من خلال اختراق حسابات البريد الإلكتروني للحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة، وتسريب معلومات أسهمت في تعزيز فرص فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية.
وفي هذا الإطار، كشف تقرير شركة "إنتل" لأهم التهديدات السيبرانية في عام 2017 عن تصدر تهديدات اختراق المؤسسات المصرفية بغرض توجيه التحويلات المالية، والاستهداف المتعمد لنظم تشغيل البنية التحتية الحرجة، وتوظيف "إنترنت الأشياء" في القيام بهجمات إلكترونية واسعة النطاق، وتصاعد التهديدات للحوسبة السحابية واختطاف الدرونز عبر الاختراق الإلكتروني وهجمات الحرمان من الخدمة للهواتف الذكية.
9- اقتصادات المشاركة: من المرجح أن تهيمن اتجاهات عدم الملكية (Non Ownership) على التفاعلات الاقتصادية، حيث إن تصاعد ربحية الشركات الناشئة (Start Ups) وانتشار ممارسات اقتصاد الابتكار في ظل تصاعد تكلفة الأصول الثابتة مثل مقرات الشركات ورؤوس الأموال والمعدات الثقيلة مرتفعة التكلفة وشبكات توزيع المنتجات، أدى لانتشار ممارسات اقتصاد المشاركة (Sharing economy) التي تقوم على التشارك في الأصول بين أكثر من مشروع لتعظيم العوائد الربحية.
وتتمثل الفلسفة الأساسية الداعمة لهذه الممارسات في الحفاظ على الموارد من عمليات الإهدار المتزايد من خلال الاستغلال الأمثل للأصول التي يمكنها خدمة أكثر من مشروع في الوقت ذاته، وهو ما يرتبط بالتغير اللحظي لأذواق المستهلكين، والحاجة للمرونة في تنظيم المؤسسات ودمج آليات إعادة الهيكلة السريعة في البنية التنظيمية للمشروعات الابتكارية.
ولا ينفصل ذلك عن شيوع ممارسات الإسناد للغير (Outsourcing) للحصول على الخدمات الوسيطة التي لا يمكن للمشروعات الناشئة تقديمها بذاتها، والاعتماد على منصات التمويل الجماعي (Crowd Funding) لجمع رؤوس الأموال اللازمة لبدء المشروعات الصغيرة، والاعتماد على تعاقدات الفرصة الواحدة (Gig Economy) في التعاقد على خدمات العمل.
10- ارتداد العولمة: أدى صعود التيارات القومية اليمينية إلى تصاعد اتجاهات "الارتداد للداخل" في سياسات الدول الغربية، حيث تفجرت حالة من الغضب الشعبي بسبب تداعيات الانفتاح الكامل على العالم الخارجي، وتداعيات حرية تدفقات التجارة على الأوضاع الاقتصادية الداخلية، وهو ما يرتبط برفض التوسع في استقبال المهاجرين، والعداء المتزايد للأجانب، وإدانة انتقال المصانع ورؤوس الأموال للخارج للاستفادة من انخفاض تكلفة مقومات الإنتاج.
إذ لم يعد منطق المنافسة الكاملة بين الأفراد والمنتجين على فرص العمل والمبيعات مقبولا من جانب الشعوب التي تفضل فرض إجراءات حمائية، وتقييد حرية التجارة والهجرة، والانعزالية، لحماية مصالح الدولة، وهو ما جعل الخطاب الذي قدمه دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية يحظى بتأييد شرائح واسعة من المواطنين بسبب تركيزه على اتجاهات رفض العولمة المتصاعدة بين الناخبين المنتمين للطبقة الوسطى، وتعهداته بإلغاء اتفاقيات التجارة الحرة، وإعادة الشركات الأمريكية للعمل داخل الولايات المتحدة.
وفي السياق ذاته، كان تصويت غالبية البريطانيين لصالح الانفصال عن الاتحاد الأوروبي مؤشرًا جديدًا على رفض المنتمين للطبقة الوسطى تحمل التكاليف المتزايدة للعولمة والاندماج الاقتصادي، وعلى حالة الغضب من النخب السياسية الليبرالية الداعمة للعولمة في الدول الغربية بسبب تجاهلهم للأعباء الاقتصادية الناجمة عن المنافسة الاقتصادية العالمية.
وعلى المستوى السياسي فإن هناك تأييدًا متصاعدًا للعودة للسياسات الأحادية (Unilateralism) القائمة على الإعلاء من المصالح الوطنية، وتحقيق المكاسب المطلقة للدولة، والاعتماد على القدرات الذاتية، وعدم الثقة في الحلفاء، في مقابل انحسار وتراجع السياسات متعددة الأطراف (Multilateralism) التي ترتكز على التضامن الجماعي بين الدول والشعوب لتحقيق المصالح المشتركة في مواجهة التهديدات والتحديات العابرة للحدود.
وإجمالا.. من المرجح أن تتشكل التفاعلات العالمية بمحصلة حالة التدافع بين اتجاهات متعارضة يرتكز بعضها على الانكفاء على الذات، والارتداد للداخل، في مقابل اتجاهات أخرى للتعايش والتكيف مع التغيرات السريعة في ظل حتميات التعاون، والاعتماد المتبادل بين الفاعلين الدوليين، وينطبق الأمر ذاته على التزامن بين نوازع تركز القوة واستعادة السيطرة والضبط، وديناميات انتشار وتوزع القوة، وصعود تأثير الفاعلين من دون الدول والعابرين للقومية على التفاعلات الدولية، والتدافع بين مداخل التعافي السريع والمرونة وحالات عدم الاستقرار الممتد وتعقيدات الصراعات غير القابلة للتسوية.