ثمة مقولة للفيلسوف الألماني هيجل بأن "الدرس الذي يمكن تعلمه من التاريخ هو أن أحدًا لم يتعلم من التاريخ". هذه المقولة ومترادفاتها تؤكد الطبيعة الدائرية لتاريخ الظواهر المجتمعية بما في ذلك ظاهرة التطرف، حيث تتعرض المجتمعات إلى حالة من المد والجذر فيما يتعلق بالمساحات الممكنة للتطرف والاعتدال.
ففي لحظة ما ينحسر الحيز المتاح للاعتدال، ويصبح الميل واللجوء إلى الخيارات المتطرفة ضرورة حتمية تنبني على مدركات أغلب أعضاء المجتمع بوجود تحدٍّ وتهديد جوهري لوجودهم وهويتهم، وهو ما يستدعي بشكل تلقائي الارتباط بصيغ متطرفة للاستجابة، ومن ثم يتم استبعاد المسارات الأكثر اعتدالا في التعاطي مع السياق المجتمعي القائم.
الدورات التاريخية:
تفترض مقاربة (الدورة السوسيولوجية sociological cycle) أن الأحداث والظواهر المجتمعية عادةً ما تميل إلى تكرار ذاتها عبر دورات تاريخية، فالتاريخ -وإن تغيرت مظاهره الخارجية- فيه ثبات فيما يتعلق بالعناصر الجوهرية التي تدفع حركته. ومن هذا المنطلق، تصبح ظاهرة التطرف المجتمعي -والمقصود بها هنا أن تمسي الخيارات المتطرفة الاتجاه الغالب في المجتمع- هي الأخرى خاضعة لفكرة الدورة التاريخية.
ويرتهن وصول المجتمع إلى مرحلة التطرف بسياق معقد ينطوي على عدد من المحفزات (قد يتصادف تواجدها معًا أو تواجد بعضها في مجتمعٍ ما) لعل أبرزها التعرض لأزمات اقتصادية ومجتمعية حادة يتزايد على إثرها الشعور بالقلق والخوف وعدم اليقين والتهديدات الوجودية، وبالتبعية تتزايد فرص ظهور القوى اليمينية المتطرفة الطامحة إلى اجتذاب الجماهير لصفها.
وهكذا، فكلما تعاظم هيكل الفرص الخطابية Discursive Opportunities للنخب المتطرفة، كلما تنامت الخيارات المتطرفة لدى قطاع عريض من المجتمع. ويجد الخطاب المتطرف قابليته لدى مجتمع يمر بحالة فوضوية، فهذه الحالة تشكل "البيئة التي يبدع فيها المتطرف" على حد تعبير إيريك هوفر في كتاب "المؤمن الصادق".
وفي خضم هذه الفوضى تتشكل مدركات مجتمعية متوهمة عن الواقع والأحداث السياسية التي يرى جان فرنسوا بايار "أنها ليست موجودة كما هي، ولكنها موجودة كمواضيع تُفسر وفق محددات معرفية وعاطفية ورمزية خاصة بكل مجتمع".
وبناءً على المدركات المجتمعية المتوهمة يتم تفسير كافة الأحداث على أنها تعبير عن مؤامرات ضد المجتمع، وهو ما يستدعي تمترسًا خلف مفردات الكراهية التي تصبح حينها أكثر العوامل الموحِّدة شمولا ووضوحًا لقدرتها على توحيد العناصر المتطرفة، ناهيك عن الاستحضار السلبي لفكرة الهوية، واستخدامها كآلية لدعم التطرف المجتمعي.
وقد عبّر عن هذه الإشكالية أمارتيا صن، حينما ذكر أن "كثيرًا من النزاعات والأعمال الوحشية في العالم تتغذى على وهم هوية متفردة لا اختيار فيها. وفن بناء الكراهية يأخذ شكل إثارة القوى السحرية لهوية مزعومة السيادة والهيمنة تحجب كل الانتماءات الأخرى".
ولأن حركة المجتمعات تتسم بالطبيعة الدائرية، ففي لحظة ما يحدث تراجع في مساحة التطرف المجتمعي، ويستعيد المجتمع اعتداله، وذلك لعدة اعتبارات أهمها النتائج التي ترتبت على المسار المتطرف، فاختيار التطرف كان محكومًا في المقام الأول برغبةٍ في الخروج من السياقات المأزومة التي يعايشها المجتمع، ومن ثم فإن استمرارية هذه السياقات لفترات ممتدة واشتداد وطأتها سيدفع أعضاء المجتمع إلى إعادة التفكير مرة أخرى في جدوى المسار المتطرف. فالتكلفة المتزايدة للتطرف، وعدم قدرة أعضاء المجتمع على تحملها، يشكلان شرطًا أوليًّا لبدء مرحلة الاعتدال في دورة المجتمع.
وعطفًا على ما سبق، يفرز المجتمع نخبًا جديدة أكثر قدرة على تطوير خطاب معتدل يتعاطى مع مشكلات المجتمع بشكل واقعي دون الاستناد إلى خطاب المؤامرات الخارجية والتهديدات الدائمة. وفي السياق ذاته، يتم الاستقرار على صيغة إيجابية للانتماء الهوياتي تؤكد التعايش الجماعي، ولا تستلزم بالضرورة العنف والصراع مع الآخر؛ حيث يشير هيجل إلى "أن وجود الآخر ضروري وأساسي بالنسبة لي، فأنا لا أستطيع أن أكون حرًّا بمفردي، ولا أكون واعيًا بمفردي، ولا أكون إنسانًا بمفردي".
التطرف في الشرق الأوسط:
لم تكن المجتمعات في الشرق الأوسط حالة استثنائية تستعصي على مثل تلك المقولات والفرضيات النظرية، فخلال السنوات الماضية عايشت المنطقة سياقات محفزة على التطرف، ليس فقط في صيغته الفردية، ولكن أيضًا في صيغة جماعية أكثر خطورة، وفي هذا الإطار ارتبطت مرحلة التطرف المجتمعي الراهنة في المنطقة بعدد من الدلالات الرئيسية المتمثلة في الآتي:
أولا- الصراعات الحادة، حيث أدت الإطاحة بعدد من الأنظمة الحاكمة بالمنطقة على خلفية موجة الثورات العربية إلى تعرية المجتمعات، والتكريس لنمط تنافسي متصل برغبة الفاعلين الجدد في الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب. وسرعان ما شكل هذا التنافس مدخلا لتطرفات جماعية تم بلورتها في أشكال جديدة من الصراعات حول السلطة والموارد وشبكات المصالح الاجتماعية والاقتصادية. ولا يُمكن إغفال أن جزءًا لا يُستهان به من هذه التطرفات الجماعية مرده إلى الشعور بالقلق والغضب والإحباطات الناجمة عن عدم تحقق التطلعات.
ثانيًا- النخب المتطرفة، فحالة التطرف المجتمعي بالمنطقة وثيقة الصلة ببزوغ نماذج من النخب المتطرفة، بما تمتلكه من عقول ضيقة ومنغلقة سواء في التيار الديني أو المدني، لا تقبل التسويات السلمية للأزمات، وتسعى بشكل أو بآخر إلى التصعيد كآلية للحصول على المكاسب، ولذا فقد سعت هذه النخب إلى استخدام كافة الأدوات المتاحة لديها (ولا سيما الأدوات الإعلامية والدعائية) في معركة التجاذب السياسي، والشرعنة للعنف ضد الآخر، وإضفاء مقومات جديدة لخطاب الكراهية. وتستغل النخب المتطرفة هنا الطبيعة العاطفية للجماهير في تعزيز شرعيتها، فالجماهير -بحسب جوستاف لوبون- تكون أكثر ميلا للخطابات العاطفية، وهو الأمر "الذي يجعلها غير قادرة على رؤية الفروقات الدقيقة بين الأشياء، وبالتالي فهو ينظر للأمور ككتلة واحدة، ولا يعرف التدرجات الانتقالية". وتُفضي هذه النظرة غير المعترِفة بالتدرجات الانتقالية إلى تعزيز احتمالات توجه الجماهير نحو التطرف، سواء في الاستحسان أو الرفض.
ثالثًا- شبكة المؤامرات، إذ إن ثمة خطابًا رائجًا في الكثير من مجتمعات المنطقة يرتكز إلى فكرة "شبكة المؤامرات" لتفسير كافة الأحداث التي تشهدها دول الإقليم. فتاريخ المنطقة، بناءً على هذا الخطاب، يسير وفق مسار أحادي تتحكم فيه قوى تآمرية تمتلك مقدرات المنطقة، وتسعى لفرض رؤيتها. وقد كان لهذا الخطاب انعكاسات جوهرية على المجتمعات، فهو من ناحية أصبح أداة للتهرب من الشعور بالفشل، وإزاحة الأزمات الداخلية إلى الخارج، بحيث لا تصبح المجتمعات مسئولة عن معاناتها، ولكن الأمر يصبح محض إرغام من الخارج، وإصرار من القوى الأخرى على إفشال مجتمعات المنطقة. ومن ناحية أخرى، فإن الاستدعاء الدائم لفكرة المؤامرة جعل من المجتمعات بيئة مهيأة لنشوء الأفكار المتطرفة بتجلياتها الوطنية والدينية على حد سواء، ولعل هذا المدخل يفسر لماذا يحظى تنظيم مثل داعش بقبول لدى بعض الأفراد العاديين في مجتمعات المنطقة، فالأقرب إلى الواقع أن هذا القبول ناتج عن اعتقاد بأن التنظيم بمثابة رد فعل واستجابة للتحديات والمؤامرات التي تتعرض لها مجتمعات الإسلام السني.
رابعًا- الاحتفاء بالقتل، وهو المتغير الذي ارتبط ظهوره بالاستقطابات السياسية الشديدة التي شهدتها مجتمعات المنطقة خلال السنوات القليلة الماضية، والتكريس لمدلولات سلبية للانتماء الهوياتي كإطار للتصنيف والتمييز بين "الأنا" المتسامية، وبين "الآخر" المُحتقر الذي تتجسد فيه كافة سمات الشر. فالتأسيس على هذه المدركات دفع إلى تشكيل نماذج غريبة على مجتمعات المنطقة من "لوم الضحية" و"الاحتفاء بالقتل" و"الرقص على الدماء". وما جعل هذه النماذج تثير الكثير من الأسى أنها خرجت من الإطار الفردي الضيق، وتدثرت برداء جماعي يتعاطى مع القتل والدماء كضرورة حتمية للتخلص من الآخر، والحفاظ على قيم ومبادئ متوهمة، لتبدو الصورة كما لو كانت استدعاء لأحداث تاريخية من طراز الثورة الفرنسية ومتطرفيها الذين يصفهم جوجليلمو فيريرو "بأنهم كلما سفكوا المزيد من الدماء ازدادت حاجتهم إلى الإيمان بمبادئهم باعتبارها الحقيقة المطلقة". وهكذا يصبح القتل أو حتى الاحتفاء به مدعومًا بمبادئ (دينية أو وطنية أو سياسية) يتوهم قدسيتها.
العودة إلى الاعتدال:
انتهاء مرحلة التطرف المجتمعي الراهنة في الشرق الأوسط أمر حتمي يتسق مع طبائع الأمور، وحركة المجتمعات، وبالتالي لا يمكن تلخيص الإشكالية الجوهرية في تساؤل "هل سينتهي التطرف المجتمعي؟"، ولكن التساؤل الأجدر بالطرح هو: إلى متى ستظل المجتمعات عالقة في مرحلة التطرف الراهنة؟.
وبالرغم من الصعوبات التي تكتنف الإجابة عن هذا التساؤل لتعقد الظاهرة، فإن انتهاء مرحلة التطرف الآنية والعودة إلى الاعتدال سيظل مرتهنًا بعددٍ من العوامل يمكن اختزالها فيما يلي:
1- حصيلة التجربة، فالتجربة -وفقًا لجوستاف لوبون- تشكل "تقريبًا المنهجية الوحيدة الفعالة من أجل زرع حقيقةٍ ما في روح الجماهير بشكل راسخ، وتدمير الأوهام التي أصبحت خطرة أكثر مما ينبغي.. وعمومًا فإن التجارب التي عاشها جيل ما غير ذات جدوى بالنسبة للجيل اللاحق". وتأسيسًا على تلك الكلمات، فإن نتائج التجربة المتطرفة الراهنة في المنطقة ستحدد إلى أي مدى يمكن أن يصل التطرف المجتمعي، فبقدر ما تتسارع وتيرة الأزمات وتتنامى تكلفة التجربة وعدم القدرة على تحملها، بقدر ما تتسارع معدلات العودة إلى الاعتدال، وتحذير المجتمعات من مغبة الاستمرار في مسار التطرف.
2- تعديل الروايات، حيث تستلزم العودة إلى الاعتدال إحداث تعديل في الروايات التي تكونت خلال التجربة المتطرفة، وخاصة تلك الروايات المتعلقة بالهوية والمؤامرات. فعلى صعيد الهوية، يتعين إنتاج رواية جديدة للتعايش الهوياتي على اعتبار أن الهوية تسهم في خلق إطار انتمائي متماسك، سواء لدولة أو لقومية أو حضارة ما، ناهيك عن كون المعيار التصنيفي للآخرين يتيح فرصة للتعرف على هؤلاء الآخرين، وإمكانية نقل تجاربهم الناجحة، وتعزيز عمليات التغيير عبر التكريس للجانب الإيجابي لفكرة "المقارنة الاجتماعية". وعلى صعيد المؤامرات، ينبغي التوقف عن الاستغراق في تصوير كافة المشكلات على أنها مؤامرات من الخارج. صحيح أن بعض أحداث المنطقة كانت نتاجًا لتدخلات خارجية، إلا أن هذا لا ينفي مسئولية المكون الداخلي عن الكثير من أزمات المنطقة. واتساقًا مع هذه الرؤية يصبح من الضروري البحث عن تسويات فعلية لهذه الأزمات، تتجنب -في الوقت ذاته- راوية المؤامرة وما تستصحبه من تطرفات جماعية.
3- التطرف المقابل، فالتطرف القائم بالمنطقة مرتبط بشكل أو بآخر بالتطرف في العالم الغربي، إذ تشهد المجتمعات الغربية هي الأخرى حالة من النزوع الجماعي نحو التطرف تجلت ملامحها في الصعود السياسي لحركات اليمين المتطرف، وبزوغ أنماط من القادة من طراز الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب.
وقد يرجع تفسير هذه الظاهرة -ولو بشكل جزئي- إلى طبيعة الأنظمة السياسية، وهيكل الفرص الخطابية المتاحة في تلك المجتمعات، فضلا عن الشعور المتنامي لدى هذه المجتمعات بوجود تهديدات فعلية لها، سواء كانت من المهاجرين القادمين إلى أراضيها أو من خلال الشعور بالتراجع الاقتصادي، أو تراجع الثقة في مكانة الدولة ووجود منافسين خارجيين لها.
هذا المنحى المتطرف في المجتمعات الغربية يشكل مدخلا لتغذية التطرف في المجتمعات الشرق أوسطية، لا سيما أن جزءًا لا يُستهان به من خطاب التطرف الغربي يكون موجهًا إلى منطقة الشرق الأوسط. ومن ثم، فإن المدى الذي سيصل إليه التطرف في الغرب سيكون أحد المحددات التي سيتوقف عليها مستقبل الاعتدال بمنطقة الشرق الأوسط.