رغم أن معظم دول العالم أبدت ردود فعل حذرة تجاه فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث فضلت التريث إلى حين تبلور ملامح السياسة الخارجية التي سوف تتبناها الإدارة الجديدة، إلا أن إيران لم تلتزم بذلك، إذ فضلت توجيه رسائل عاجلة إلى الإدارة الجمهورية الجديدة قبل توليها مقاليد السلطة في يناير 2017.
لكن اللافت في هذا السياق، هو أن حكومة الرئيس حسن روحاني هي من تولت هذه المهمة، سواء من خلال التصريحات التي أدلى بها روحاني نفسه عقب إعلان فوز ترامب والتي قال فيها إنه "لا يمكن لترامب إلغاء الاتفاق النووي"، أو عبر التهديدات غير المباشرة التي وجهها وزير الخارجية محمد جواد ظريف في حالة ما إذا لم تلتزم الإدارة الأمريكية الجديدة بالاتفاق النووي، بإشارته إلى أن "إيران لديها خيارات أخرى".
ومع أن تصريحات ترامب إزاء الاتفاق النووي اتسمت بالتناقض، حيث أشار إلى أنه سوف يعمل على تفكيكه والتفاوض من جديد على اتفاق يتضمن قيودًا أشد على إيران، إلا أنه عاد وأكد أنه لن يلغي الاتفاق وإنما سيراقبه بشكل يمنع إيران من فرصة امتلاك أسلحة نووية، إلا أن ذلك لم يمنع إيران من محاولة استباق تشكيل الإدارة الجمهورية الجديدة، من خلال توضيح بعض ملامح التداعيات التي يمكن أن يفرضها أي تراجع أمريكي محتمل عن الالتزام بالاتفاق النووي، في محاولة لإقناع الإدارة الجديدة بالعدول عن تلك التهديدات، والعمل على مواصلة تنفيذ الاتفاق.
اعتبارات عديدة:
وفي الواقع، فإن اهتمام إيران بتوجيه تلك الرسائل العاجلة يعود إلى اعتبارات عديدة: يتمثل أولها، في الاهتمام الخاص الذي تبديه حكومة روحاني بالاتفاق النووي، باعتبار أنه ربما يمثل "الإنجاز الوحيد" الذي حققته خلال فترتها الرئاسية الأولى وتعول عليه في تولي فترة رئاسية ثانية في الانتخابات التي سوف تُجرى في مايو 2017.
وهنا، فإن تلك الحكومة ترى أن الاستمرار في تنفيذ الاتفاق رغم العقبات العديدة التي ما زالت تحول دون حصول إيران على مزايا رفع العقوبات الدولية المفروضة عليها، يمثل محورًا رئيسيًّا يمكن الاستناد إليه في تعزيز فرص روحاني في تجديد ولايته الرئاسية، وهو احتمال بات يواجه تهديدات لا تبدو هينة في حالة ما إذا ترجمت تصريحات دونالد ترامب التي أدلى بها خلال الحملة الانتخابية إلى إجراءات تنفيذية، حيث سبق أن اعتبر الاتفاق النووي "كارثيًّا" وسوف يؤدي، في رؤيته، إلى "محرقة نووية"، وهي توجهات يتفق الجمهوريون الذين سيطروا على الكونجرس معها بشكل عام.
وينصرف ثانيها، إلى أن توجهات ترامب، وربما بعض الشخصيات المرشحة لتولي مناصب رئيسية في إدارته الجديدة، إزاء إيران لا تنحصر في الاتفاق النووي فقط، وإنما تمتد أيضًا إلى الدور الإقليمي الذي تقوم به إيران، وهو ما يمثل محورًا رئيسيًّا للخلاف بين ترامب وفريقه من جهة وإدارة أوباما من جهة أخرى، في ظل حرص الأخيرة على التغاضي عن الدور الإقليمي الإيراني، والتدخلات الإيرانية المستمرة في الشئون الداخلية لدول المنطقة، لصالح منح الأولوية لتنفيذ إيران للاتفاق النووي، باعتبار أن هذا الاتفاق يمثل بدوره، في رؤية تلك الإدارة، أحد الإنجازات القليلة التي حققتها على الساحة الخارجية، بعد إخفاقاتها المتوالية في التعامل مع الأزمات المختلفة، مثل الأزمات الأوكرانية والكورية الشمالية والسورية، إلى جانب عملية السلام الفلسطينية-الإسرائيلية التي لم تشهد أي تطور بارز في الأعوام الأخيرة.
حسابات خاصة:
لكن ذلك لا ينفي -في الوقت ذاته- أن الاهتمام المتوقع من جانب إدارة ترامب بالدور الإقليمي الإيراني، لا يعني أنها سوف تدخل في صراعات مفتوحة مع إيران حول الملفات الإقليمية، بل يعني أنها ربما تنتهج سياسة أكثر تشددًا في تعاملها مع بعض الملفات التي تمثل إيران قاسمًا مشتركًا فيها، على غرار الحرب ضد الإرهاب، في ظل اتهامها لإيران بأنها أكبر داعم للإرهاب في العالم.
وبمعنى آخر، فإن الإدارة الجديدة ربما لن تدخل في صراعات مع إيران إلا في نطاق الملفات الإقليمية التي تحظى بأولوية لديها، والتي ترى أنها تؤثر على مصالح واشنطن وأمنها القومي، ومن هنا يمكن تفسير حرصها على الربط بين دور إيران الإقليمي ودعمها للإرهاب.
وهنا فإن هذا المسار المحتمل تحديدًا يكتسب زخمًا خاصًّا مع الوضع في الاعتبار حرص ترامب على رفع شعار "الولايات المتحدة أولا" وعلى توجيه رسائل لحلفاء واشنطن في المنطقة، بأن الالتزامات الأمنية الأمريكية تجاههم ربما تشهد تغييرات لا تبدو هينة، وهي رسائل يبدو أن الدوائر السياسية في إيران توليها اهتمامًا خاصًّا.
توازنات داخلية:
ويتعلق ثالثها، بأن استمرار ترامب وفريقه الجديد في تبني سياسة متشددة تجاه إيران، سواء فيما يتعلق بالاتفاق النووي أو دعم إيران للإرهاب، وتحويل تلك التصريحات إلى خطوات إجرائية، سوف يمثل فرصة لتيار المحافظين الأصوليين المتشددين من أجل ممارسة ضغوط قوية على حكومة روحاني خلال الشهور الستة القادمة، وحتى إجراء الانتخابات الرئاسية في مايو 2017.
كما أنه ربما يؤدي إلى تعزيز فرص أحد مرشحيهم في منافسة روحاني على المنصب، خاصة في ظل "التوازي الضمني" بين التوازنات الداخلية الأمريكية ونظيرتها الإيرانية، والتي بدت جلية في فوز روحاني نفسه بالانتخابات الرئاسية عام 2013، والذي كان، في قسم منه، أحد انعكاسات السياسة المرنة التي تبنتها إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما تجاه إيران خلال الأعوام الثمانية الأخيرة.
تهديدات ضمنية:
وفي ضوء ذلك، فضلت حكومة روحاني التحرك سريعًا من أجل استباق أية تداعيات سلبية محتملة قد يفرضها فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية. وقد اعتمدت -في هذا السياق- على ثلاثة متغيرات رئيسية: الأول، أن الاتفاق النووي يحظى بشرعية دولية ممثلة في مجلس الأمن الذي أصدر القرار رقم 2231 بعد الوصول للاتفاق بحوالي أسبوع فقط، بما يعني أنه لم يكن محور تفاوض ثنائيًّا بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية فحسب، بل بين إيران ودول مجموعة "5+1" بشكل عام.
وهنا، فإن إيران تسعى إلى تأكيد أن تهديد ترامب بـ"إلغاء" الاتفاق لا يتوافق مع المعطيات الموجودة على الأرض، والتي تشير إلى أنه يحظى بدعم دولي واسع من جانب الدول الأوروبية وبعض القوى الدولية على غرار روسيا والصين.
والثاني، أن إيران يمكن أن تتجه مرة أخرى إلى إعادة تنشيط برنامجها النووي، في حالة ما إذا فشل الاتفاق النووي، وهو ما يبدو أن وزير الخارجية محمد جواد ظريف كان يشير إليه بتأكيده على أن إيران لديها خيارات أخرى في حالة حدوث ذلك، بشكل يفسر أسباب حرص إيران منذ بداية المفاوضات على عدم الاستغناء عن المكونات الرئيسية لبرنامجها النووي، على غرار أجهزة الطرد المركزي، وعلى مواصلة عمليات تخصيب اليوراينوم حتى لو كانت بمستوى متدنٍّ، استعدادًا لهذا المسار المحتمل، في ظل الشكوك المستمرة التي أبدتها القيادة العليا ممثلة في المرشد علي خامنئي في النوايا الأمريكية تجاه إيران.
والثالث، أن إيران لن تستجيب لضغوط أمريكية محتملة، في عهد ترامب، من أجل إعادة التفاوض حول اتفاق نووي جديد، باعتبار أنها توصلت إلى أفضل النتائج الممكنة في الاتفاق الحالي، ولا يمكن أن تراهن على الوصول إلى اتفاق جديد يتضمن مزايا أكبر، وهو ما يعكسه تأكيد ظريف على أنه غير مهتم بتأسيس علاقات مع وزير الخارجية الأمريكي الجديد في إدارة ترامب، على غرار تلك التي أسسها مع وزير الخارجية الحالي جون كيري، باعتبار أنه لم تعد هناك حاجة لإجراء مفاوضات جديدة مع واشنطن، سواء حول الاتفاق النووي أو حول أية ملفات أخرى غير نووية.
لكن هذه الرسائل العاجلة التي سعت حكومة روحاني إلى توجيهها لإدارة ترامب لا تعبر عن سياسة إيرانية مستقرة، والتي ربما لن تتبلور إلا مع تولي الإدارة الجديدة مقاليد السلطة، واتضاح معالم السياسة الخارجية التي سوف تتبناها، واستشراف ما يمكن أن تفرضه من تداعيات، سواء على التفاعلات بين طهران وواشنطن حول ملفات نووية وغير نووية، أو على توازنات القوى الداخلية في إيران خلال المرحلة المقبلة، خاصة مع إشارة اتجاهات عديدة داخل إيران إلى وجود ملفات ربما تحظى بتوافق مع الإدارة الجديدة، على غرار الحرب ضد "داعش" والأزمة السورية.