إعداد: مروة صبحي منتصر
رغم تباهي الولايات المتحدة الأمريكية بأنها أقوى اقتصاد في العالم، إلا أنها أهملت المكون الاقتصادي كأداة مهمة للسياسة الخارجية، مع أنها نجحت من خلاله في الحفاظ على مصالحها خارجيًّا في الماضي. وفي المقابل كانت الأولوية للقوة العسكرية، لنشهد خلال السنوات الماضية "عسكرة" للسياسة الخارجية الأمريكية، في الوقت الذي تعتمد فيه القوى الدولية الصاعدة، لا سيما روسيا والصين، على القوة الاقتصادية كمحدد أساسي للصعود، وتحدي الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي.
وقبل سبعة أشهر على الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر لها في الثامن من نوفمبر المقبل، صدر مؤلف بعنوان "الحرب بوسائل أخرى: الجغرافيا الاقتصادية وفن إدارة الدولة"، يدعو فيه مؤلفاه (روبرت بلاكويل، وجينيفر هاريس) إلى إعطاء الأولوية مجددًا للقوة الاقتصادية لتحقيق المصالح الجيوسياسية للولايات المتحدة، خاصة بعد الإخفاقات المتتالية للقوة العسكرية في حماية المصالح الأمريكية خارجيًّا.
بدايةً يوضح المؤلفان أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تغافلت عن التقليد الذي تأسست عليه، والذي يقوم على استخدام الأدوات الاقتصادية لتحقيق أهداف جيوسياسية، والتي يعبر عنها المؤلفان بـ"الجيو-اقتصادية"، ويقصد بها "استخدام الأدوات الاقتصادية لتعزيز الدفاع عن المصالح الوطنية، وتحقيق نتائج جيوسياسية مفيدة، واستكشاف آثار السياسات الاقتصادية للدول الأخرى على الأهداف الجيوسياسية للولايات المتحدة الأمريكية". وتتضمن السياسات الجيو-اقتصادية على سبيل المثال: السياسة التجارية، الاستثمار، العقوبات الاقتصادية، المساعدات، السياسة النقدية، سياسات الطاقة.
السياسات الجيو-اقتصادية تاريخيًّا:
يبدأ الكتاب بتحليل السياسات الجيو-اقتصادية في السياسة الخارجية الأمريكية من منظور تاريخي، حيث يؤكد تراجع اعتماد السياسة الخارجية على السياسات الجيو-اقتصادية على مر التاريخ الأمريكي، وخاصة بعد انتهاء الحرب الباردة التي أصبحت نقطة تحول عن استخدام السياسات الجيو-اقتصادية، والتركيز في المقابل على البعد العسكري في تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية.
وعن تاريخ اعتماد الولايات المتحدة على السياسات الجيو-اقتصادية لتحقيق المصلحة الأمريكية، أشار المؤلفان إلى أنه على مدار المائتي عام الأولى من عمرها اعتمد صناع القرار الأمريكي بانتظام على الوسائل الاقتصادية لتحقيق المصالح الاستراتيجية. فيشير الكتاب إلى أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة استخدموا الأدوات الاقتصادية لتعزيز وحدة بلادهم. وفي السنوات التالية للثورة الأمريكية، أيقنوا أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تحقق الاستقلال الحقيقي إلا إذا أصبحت مكتفية ذاتيًّا، لعدم حيازتهم وسائل أخرى لمواجهة القوى الأوروبية الاستعمارية، ولذا رأوا أن الوسيلة الاقتصادية هي الوسيلة الوحيدة لحماية بلدهم الناشئ.
واستمرارًا لعرض تاريخ الاستخدام الأمريكي للسياسات الجيو-اقتصادية، أشار المؤلفان إلى أنه مع بداية الحرب العالمية الأولى تمسكت الولايات المتحدة بالحياد تجاريًّا، ولكنها عندما دخلت الحرب عام 1917 تبنت واشنطن وحلفاؤها حصارًا غذائيًّا على ألمانيا، ثم حظرت جميع الصادرات إلى الدول الإسكندنافية وهولندا حتى يلتزموا الحياد.
كما اعتمد الرئيس الأسبق السابق "وودرو ويلسون" على الأدوات الجيو-اقتصادية من أجل إنهاء الحرب وتأمين السلام؛ حيث أقنع "عصبة الأمم" بأن أفضل حل هو المقاطعة الاقتصادية للدول المعتدية، بالإضافة إلى تأكيده كذلك على الحاجة لاستخدام القوة. ويضيف الكتاب أن الولايات المتحدة سعت إلى زيادة استثماراتها في الخارج، فبين عامي 1934-1945 وقّعت واشنطن 29 اتفاقية للتبادل التجاري مع مختلف بلدان أمريكا اللاتينية. وفي آسيا، حاولت واشنطن بوسائل اقتصادية تقويض صعود اليابان.
تراجع الاهتمام بالسياسات الجيو-اقتصادية:
يؤرخ المؤلفان لتراجع الاهتمام الأمريكي بالسياسات الجيو-اقتصادية مع بداية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، فخلال مرحلة الحرب الباردة قامت السياسة الأمريكية على الاحتواء العسكري للقوة السوفيتية، لا سيما مع نظر صناع القرار الأمريكيين إلى الاقتصاد على أنه وسيلة غير كافية لحماية مصالح الدولة الخارجية. ويضيفان أنه خلال مرحلة الانفراج الأمريكي مع الاتحاد السوفيتي رأت واشنطن أن الانفراج هي عملية جيوسياسية إلى حد كبير، وذات مضمون اقتصادي ضئيل جدًّا.
ويؤكد الكتاب أن فن إدارة الاقتصاد أصبح فنًّا مفقودًا لدى الولايات المتحدة الأمريكية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وهذه الخطوة رحب بها خصومها؛ حيث استخدمت الصين وروسيا في المقام الأول الأدوات الجيو-اقتصادية من أجل تقويض نفوذ واشنطن، كما أضعف تراجع الولايات المتحدة الأمريكية عن الاعتماد على السياسات الجيو-اقتصادية ثقة حلفائها في آسيا وأوروبا، وشجع الصين على الضغط على دول الجوار، كما أطلق العنان للنفوذ الصيني في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، كما سمح لروسيا بالسيطرة مجددًا على الفضاء السوفيتي السابق، وقلل من النفوذ الأمريكي في عدد من العواصم العربية الصديقة.
ويرى المؤلفان أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 دفعت إلى أن تكون الغلبة للقوة العسكرية في السياسة الخارجية الأمريكية، فعلى الرغم من أن إدارة الرئيس "جورج دبليو بوش" حاولت الحد من تمويل الإرهاب، إلا أن الحرب على الإرهاب خاضتها القوات البرية، والطائرات المقاتلة، والطائرات بدون طيار. ويؤكدان أن هذه النتائج تأتي بتكاليف باهظة على الداخل الأمريكي وعلى المصلحة الأمريكية؛ حيث تتراكم -مع مرور الوقت- تلك التكاليف مع وضع دولي غير مواتٍ تجد فيه واشنطن من الصعوبة بمكان تصحيحه. ومن ثم يؤكد الكتاب ضرورة استعادة الولايات المتحدة الأمريكية دورها الجيو-اقتصادي الذي حقق لها مكاسب كثيرة في الماضي.
السياسات "الجيو-اقتصادية للمنافسين:
يفصل المؤلفان في تحليل كيف أن منافسي الولايات المتحدة يوظفون الأدوات الجيو-اقتصادية في صالح أجندة سياساتهم الخارجية؛ حيث تتفق بكين وموسكو على مبدأ المكافأة والعقاب الاقتصادي، فتواجه أي دولة تقاوم مصالحهما بعقوبات اقتصادية. وفي هذا الشأن يطرح المؤلفان أمثلة عديدة لنجاح الدولتين في استخدام السياسات "الجيو-اقتصادية" لتحقيق مصالحهما، ومنها علاقة الصين بتايوان، حيث يطرح الكتاب كيف أن المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي أغدق على تايوان بفرص تجارية مربحة لكي تقبل بالتسويات السياسية بعيدًا عن الاستقلال. فقد اعتقدت الصين أن قوتها السياسية على تايوان ستزيد جنبًا إلى جنب عندما تزيد قوتها الاقتصادية. ومن وجهة نظر بكين، فإنه كلما زاد الاعتماد الاقتصادي المتبادل بين البلدين، كلما قل احتمال طلب تايوان للاستقلال. كما تستثمر الصين في باكستان، وتعلم أنها الأكثر مهارة في صنع مشاكل لواشنطن. ويمثل النفوذ الكبير للصين على إسلام أباد مصدرًا غير مباشر لنفوذ صيني في مواجهة واشنطن.
وأوضح المؤلفان كيف يوازن الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" بين استخدام القوة الروسية من خلال الإغراءات مثل التكنولوجيا النووية الروسية وبين الممارسات الجيو-اقتصادية، ويريان أن روسيا والصين ليستا الدولتين الوحيدتين اللتين تستخدمان الأدوات الجيو-اقتصادية، ولكنهما الأخطر في هذا الشأن.
نصائح للإدارة الجديدة:
مع قدوم إدارة أمريكية جديدة ستتولى القيادة في العشرين من يناير القادم، يؤكد المؤلفان ضرورة عودة السياسات الجيو-اقتصادية لتكون أحد مداخل إدارة شئون الأمة الأمريكية في وقت تواجه فيه الولايات المتحدة العديد من الأزمات والإخفاقات خارجيًّا، وحاجة الاستراتيجيين إلى التفكير في أدوات جديدة لإدارة الدولة.
ويؤكدان أن قراءة التاريخ الأمريكي توفر بلا شك نظرة ثاقبة حول الدور الصحيح للسياسات الجيو-اقتصادية. ولكن مع تغير العالم يصعب على صناع القرار استخدام الأدوات القديمة. ولذا عليهم الاعتماد على الأدوات الجيو-اقتصادية الجديدة، خاصة سياسات الطاقة، لا سيما مع الطفرة الأمريكية من النفط الصخري الذي أعاد تشكيل الواقع الجيوسياسي عبر العالم.
ولكن قبل اختيار الولايات المتحدة الأمريكية لثقلها الاقتصادي، على واشنطن أن تقرر كيف يكون ذلك مناسبًا لها، حيث يرى المؤلفان أن تلك المهمة ليست سهلة، لأن العديد من المقاربات الجيو-اقتصادية تخضع للمفاضلة مع المقاربات الجيو-سياسية التي يعطيها صناع القرار الوزن الأكبر عند صياغة السياسات.
ويدعوان الإدارة الأمريكية الجديدة إلى ضرورة العمل الدؤوب لإدماج الاستراتيجيات الجيو-اقتصادية في سياساتها الخارجية. وكحد أدنى، سيتطلب ذلك من القادة الأمريكيين الشرح بالتفصيل للرأي العام وحلفاء الولايات المتحدة في الخارج ماهية عناصر استراتيجيتها الجيو-اقتصادية. وعندما يجتمع الدبلوماسيون الأمريكيون مع نظرائهم الأجانب، ينبغي عليهم تكريس وقت لصياغة تفاهم مشترك حول الدور المناسب للقوة الاقتصادية في الاستراتيجية الكبرى، وسيحتاج القادة إلى التلويح بالإكراه والعقاب الجيو-اقتصادي.
وأخيرًا على صانعي السياسات التعامل مع أسئلة هامة من قبيل: كيفية تخصيص الموارد في مجال السياسة الخارجية، وكذلك حجم الإنفاق العسكري الأمريكي المتزايد بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. وعلى الرغم من رؤية المؤلفين أن القوة العسكرية لا تزال حيوية، إلا أنهما يدعوان الكونجرس إلى تحويل بعض موارد وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) تجاه تطبيق الأدوات الاقتصادية لتعزيز المصالح الوطنية للولايات المتحدة الأمريكية، والمساعدات الخارجية، وتشجيع الاستثمار في الخارج.
ولإنجاز تلك التحولات، تحتاج الولايات المتحدة أن تستعيد مكانتها كممثل جيو-اقتصادي قوي على الساحة العالمية، وتحتاج لكسب القدرة على مواجهة الإكراه الاقتصادي المتنامي الذي تمارسه الحكومات الاستبدادية في آسيا وأوروبا ضد جيرانهم وخارجهما. وسيتطلب تبني ذلك تحولا جوهريًّا في كيفية اعتماد واشنطن سياسة التحول الفكري التي يمكن أن تأتي فقط عن طريق تأييد القيادة الرئاسية والكونجرس. وأيًّا كانت الإدارة الأمريكية القادمة، فإن عليها الاهتمام بالسياسات والأدوات الجيو-اقتصادية لتكون إحدى أولويات الاستراتيجية الأمريكية الكبرى.
* عرض موجز لكتاب من تأليف روبرت بلاكويل وجينيفر هاريس بعنوان "الحرب بوسائل أخرى: الجغرافيا الاقتصادية وفن إدارة الدولة"، والذي صدر في إبريل 2016.
Robert D. Blackwill and Jennifer M. Harris، War by Other Means: Geo-economics and Statecraft, (Massachusetts: Harvard University Press، 2016)