كان الاستفتاء الذي شهدته بريطانيا بشأن عضويتها في الاتحاد الأوروبي، يوم 23 يونيو 2016، بمثابة الزلزال المستمرة توابعه، بعد أسفرت نتيجته عن تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي بنسبة بلغت نحو 52% مقابل رفض 48%.
وكانت بداية التداعيات إعلان رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون نيته الاستقالة من الحكومة في أكتوبر القادم، مؤكداً أن رئيس حكومة آخر يجب أن يجري مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي. كما أعلن جوناثان هيل المفوض البريطاني بالاتحاد الأوروبي استقالته من منصبه.
وكرد فعل أيضاً، وقَّع ما يقرب من 4 ملايين شخص في بريطانيا على عريضة تدعو إلى إجراء استفتاء آخر على عضوية البلد في الاتحاد الأوروبي، وبهذا يتعين على البرلمان مناقشة العريضة؛ إذ إن الحد الأدنى المُلزم لإجراء مناقشة بشأن أي عريضة هو 100 ألف توقيع. وفي عريضة أخرى، طالب أكثر من 100 ألف شخص رئيس بلدية لندن بإعلان استقلال العاصمة عن المملكة المتحدة والتقدم بطلب للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. فيما تُثار العديد من علامات الاستفهام حول احتمالية بقاء أسكتلندا كجزء من بريطانيا.
وعلاوة على تأثير الاستفتاء على الداخل البريطاني، من الواضح أن لهذا الحدث تداعيات عديدة أيضاً على الاتحاد الأوروبي، ولعل الرغبة في تحديد الحجم الفعلي لهذه التأثيرات هو ما دفع رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر إلى مطالبة بريطانيا بأن تقدم "على الفور" طلبها لللخروج دونما انتظار حتى أكتوبر المقبل.
التداعيات التنظيمية والمؤسسية
بطبيعة الحال يستند الاتحاد الأوروبي إلى أُطر قانونية تنظم إمكانية انسحاب أحد أعضائه؛ إذ تنص المادة 50 من معاهدة لشبونة للاتحاد الأوروبي على حق أي دولة عضو بالاتحاد في اتخاذ قرار الانسحاب منه، وحال انسحاب أي عضو يتم وقف العمل بكافة المعاهدات مع الاتحاد الأوروبي، بعد مرور عامين على دخول إعلان الانسحاب حيز التنفيذ.
بيد أن ذلك لم يمنع حدوث حالة من الارتباك في أروقة بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي، حيث برزت دعوات لقيام ورشة قانونية معقَّدة لدراسة الاتفاقيات التي عقدتها بريطانيا مع الاتحاد على مدار 43 عاماً، وسط توقعات بألا يبدأ التطبيق الفعلي للقرار البريطاني قبل سنتين، نتيجة تشابك البنود القانونية للاتفاقيات وفق طبيعة كلٍّ منها، وسريان القوانين الدولية على بعضها، والأوروبية الموحَّدة على بعضها الآخر.
من ناحية أخرى، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى المسارعة بسد فجوة حجمها سبعة مليارات يورو في ميزانيته السنوية البالغة 145 مليار يورو والمُحددة حالياً حتى عام 2020، وذلك بعد أن خسر مساهمات بريطانيا.
كما بدأت ملامح الارتباك في التبلور مع رفض مالطا تولي الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي لمدة عام كامل بدلاً من ستة أشهر، لتغطية فترة الستة أشهر لرئاسة الاتحاد التي كان من المفترض أن تتولاها بريطانيا. ومن المقرر أن تقود مالطا الاجتماعات الوزارية للاتحاد الأوروبي من يناير 2017، فيما كان من المفترض أن تتولى بريطانيا المسؤولية من يوليو المقبل.
التأثيرات الاقتصادية
كان لنتيجة الاستفتاء البريطاني نتائج مباشرة على المشهد الاقتصادي الأوروبي والعالمي، تمثل ذلك بشكل أساسي في تذبذب مؤشرات البورصات الأوروبية والعالمية بعد إعلان النتيجة، فمثلاً انخفض مؤشر "نيكاي" في طوكيو أكثر من 6%، وارتفع سعر صرف الين الياباني بنسبة 5%، حيث تزاحم المستشمرون على العملة اليابانية التي رأوا فيها ملاذاً آمناً.
كما انهارت الأسواق الأوروبية عند الافتتاح يوم الجمعة 24 يونيو (اليوم التالي للاستفتاء)، وخاصةً بورصة لندن التي هوت بنسبة أكثر من 7%، وسجل سعر الجنيه الإسترليني تراجعاً في نفس اليوم إلى 1,3229 للدولار الواحد – أي بنسبة حوالى 12% مقابل الدولار و8% مقابل اليورو- وهو أدنى مستوى له منذ أكثر من ثلاثين عاماً. فيما أعلنت وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني أن تصويت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي يؤثر سلباً على التصنيف الائتماني السيادي لبريطانيا وتصنيفات المصدرين الآخرين لأدوات الدين في البلاد.
ولمواجهة تلك التقلبات، سيكون على البنوك المركزية في أوروبا والولايات المتحدة واليابان ضخ سيولة بالدولار لإعادة التوازن إلى الأسواق العالمية.
أما على المدى الطويل، فيبدو أن الخارطة الاقتصادية لأوروبا ستشهد عدداً من التغيرات ذات الصلة بمخاوف العديد من الشركات العالمية من التداعيات الاقتصادية التي قد تؤثر على أعمالها في أوروبا، فعلى سبيل المثال تدرس شركة "سامسونج" الكورية الجنوبية نقل مقرها الرئيسي في أوروبا خارج بريطانيا.
على صعيد متصل، من المتوقع أن يفسح الخروج البريطاني الطريق أمام لوكسمبورغ لتصبح السوق المالية الرئيسية المحتملة في أوروبا، إذ تدور المنافسة بين البلدين، في هذا الصدد، منذ فترة. كما تتنافس الدولتان على احتضان المقر الأوروبي لعدد من البنوك العالمية. ومن ثم، يستعد القطاع المصرفي في لوكمسبورغ، الذي يضم 143 مؤسسة، لاستقبال مصارف جديدة من لندن تابعة لدول غير أعضاء في الاتحاد الأوروبي، وخصوصا أمريكية وأسترالية وكندية وسويسرية وتركية.
أما عن علاقة لندن بالاتحاد الأوروبي على المدى الطويل، فثمة عدد من السيناريوهات، أولها خروج بريطانيا من الاتحاد مع البقاء داخل المنطقة الاقتصادية الأوروبية، والتي تضم الدول التي رفضت عضوية الاتحاد واليورو، ولكن لا تريد أن يتم معاملتها ومواطنيها وشركاتها كبلد أجنبي. أما السيناريو الثاني، فيشمل توقيع اتفاقية ثنائية بين لندن وبروكسل مثل تلك التي تملكها سويسرا غير العضو في الاتحاد الأوروبي. في حين يفترض السيناريو الثالث أن يفرض الاتحاد الأوروبي إجراءات عقابية على المصارف والشركات العاملة في بريطانيا، في محاولة لأن يجعل من بريطانيا عبرة للدول الأخرى التي تفكر في الخروج من الاتحاد.
اليمين المتطرف ودعوات الانفصال
تشهد دول الاتحاد الأوروبي بصفة عامة صعوداً واضحاً لتيارات اليمن المتطرف التي تُطالب الكثير منها بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي. ومما لاشك فيه أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يعزز من موقف هذه القوى ويتيح لها فرصة الدعوة لانفصال مماثل عن المشروع الاوروبي. ولعل النموذج الأبرز في هذا الصدد يتمثل في زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبن التي طالبت على الفور باستفتاء في فرنسا عقب ظهور نتيجة استفتاء بريطانيا.
كما بدأت الأصوات الشعبوية في النمسا وهولندا والدانمارك تنادي بإجراء استفتاء مُشابه، على نحو دفع البعض للتحذير من أن الاتحاد الأوروبي بات أمام "تأثير الدومينو". فقد احتفى خيرت فيلدرز رئيس حزب "الشعب من أجل الحرية والديمقراطية" الشعبوي الهولندي بخروج بريطانيا، وقال "هولندا ستكون القادمة". وكذلك لم يختلف موقف حزب رابطة الشمال الإيطالي كثيراً وهو معروف بموقفه العدائي من المهاجرين، مشيراً إلى أنه حان الآن دور الإيطاليين بعدما هنأ المواطنين البريطانيين بشجاعتهم أمام ما أسماه الابتزاز والتهديد والأكاذيب. كما طالب أنصار اليمين الشعبوي في جمهورية التشيك أيضا بـ"سيكسيت" لخروج التشيك من الاتحاد الأوروبي.
موقع الاتحاد الأوروبي كفاعل دولي
يقضي القرار البريطاني بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي على الأطروحات التي تدفع بأن النظام السياسي الدولي يتجه لأن يكون نظاماً متعدد الأقطاب أو على الأقل ينهي احتمالات أن تكون أوروبا الموحدة أحد هذه الأقطاب. فالخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي سيفقد الطرفين الكثير من مكانتهما في العالم، وهو ما سينعكس سلباً على قدرتهما في التدخل لحل النزاعات الإقليمية، أو تحقيق توازن في القوى الدولية المؤثرة.
وفيما يخص لندن، فإن مكانتها ستتضرر، خاصةً مع سيادة التوقعات بأن تصبح أكثر انسجاماً أو حتى تماهياً مع السياسة الأمريكية، وتصبح بريطانيا فعلياً امتداداً للولايات المتحدة. فبالرغم من أن بريطانيا طالما كانت قريبة من السياسة الأمريكية، لكنها كانت تحاول إحداث توازن ما من أجل مراعاة السياسة الخارجية الأوروبية المشتركة عندما تكون هذه الأخيرة بعيدة عن التوجهات الأمريكية، أما الآن فلم يعد هذا المبرر موجوداً.
في السياق ذاته، يُتوقع أن تتجه العديد من القوى المتوسطة في العالم لمراجعة علاقتها مع لندن، فغالبية هذه الدول تفضل التعاون مع بريطانيا ضمن أوروبا قوية لخلق التوازن مع الولايات المتحدة من جهة وروسيا من جهة أخرى.
بيد أن هناك بعض الملامح التي من غير المتوقع أن تشهد اختلافات جذرية في هذا الصدد، منها دور بريطانيا في حلف شمال الأطلسي الذي أكد أمينه العام ينس ستولتنبرج أن "بريطانيا ستبقى حليفاً قوياً وملتزماً للحلف الأطلسي، وستواصل لعب دورها القيادي داخل حلفناً". ووعد بأن يبقى الحلف على "تنسيق وثيق" مع الاتحاد الأوروبي، الذي ينتمي 22 من أعضائه الـ28 مع بريطانيا إلى الأطلسي.
أما فيما يخص المشروع الأوروبي، فبفرض استمرار نجاح الاتحاد الأوروبي في البقاء، فإن الخروج البريطاني سيقود على الأرجح إلى خسارة الاتحاد لمزيد من الدول، حتى تصبح المنظمة صغيرة ومتجانسة بما يكفي للإبقاء على وحدتها، وخاصةً في ظل ما يواجهه الاتحاد الأوروبي من مشكلات داخلية وخارجية (المهاجرين والاقتصاد والأمن ...الخ). وفي حال لم يتغير أسلوب بروكسل في التعاطي مع هذه الأزمات، ستتجه الدول الأعضاء لتنفيذ قرارت مستقلة فعلياً، مما قد يؤدي إلى نهاية الاتحاد الأوروبي كمنبر موحد للسياسات الأوروبية، لاسيما في ظل التباينات الكبيرة في مواقف الدول المنضوية داخل الاتحاد بشأن قضايا عدة، أهمها اللاجئين بما تفرضه من احتمالات إحداث تغييرات ديموغرافية وثقافية على المجتمعات الأوروبية.
وفي جميع الأحوال، من المؤكد أن النموذج السياسي الأوروبي سوف يتغير بخروج بريطانيا عن فلكه، كما أن مكانة الاتحاد على المستوى الدولي ستتأثر سلباً، حيث ستضعف قوة القرار الدبلوماسي الأوروبي، فضلاً عن تأثر وزن الاتحاد الأوروبي في الكثير من الملفات الساخنة بالعالم، وعلى رأسها القضية الفلسطينية بحكم وجود الاتحاد ضمن اللجنة الرباعية الراعية لعملية السلام في الشرق الأوسط. وكان الاتحاد حاضراً بقوة كبيرة في الكثير من القضايا الدولية، بينها المفاوضات النووية التي أدت إلى اتفاق تاريخي مع إيران حول برنامجها النووي، كما ساهم بشكل كبير في ملف كوسوفو وصربيا.
وعلى الرغم من إعلان الدائرة الإعلامية التابعة لمجلس الاتحاد الأوروبي أن نتائج الاستفتاء البريطاني لن تؤثر على القرار بشأن العقوبات ضد روسيا، فإن هذا التعثر الأوروبي يترك الباب مفتوحاً أمام استمرار تزايد الدور الذي باتت تلعبه روسيا على المسرح الدولي، فضلاً عن استمرار صعود الصين كفاعل جديد على الساحة الدولية. كما أن دولة مثل إيران لم تخف سعادتها بالانفصال الأوروبي، حيث اعتبر مساعد مكتب الرئيس الإيراني للشؤون السياسية حميد أبو طالبي، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بمثابة خطوة في صالح إيران، واصفاً ذلك بالفرصة التاريخية لإيران يجب الاستفادة منها.