تشهد أوروبا خلال الفترة الماضية تحولاً في المزاج العام باتجاه تيارات اليمين المتطرف، وهذا التحول يبدو بطئياً بيد أنه مستمر. كما أنه يُعبَّر عن نفسه في مظاهر عدة، لعل أهمها اقتحام اليمينيين المتطرفين وأحزابهم صُلب السياسة الأوروبية كمرشحين وناخبين وقادة رأي عام يقودون التظاهرات وينظمون الفعَّاليات المختلفة.
مؤشـرات الصعود
زخرت أوروبا على مدار الشهور الأخيرة بالعديد من الأحداث التي تؤشر إلى صعود قوى اليمين المتطرف، ويمكن في هذا السياق التمييز ما بين مستويين لصعود اليمين المتطرف في أوروبا، أحدهما على مستوى ممارسات العملية السياسية، فيما يتجلى المستوى الآخر على المستوى الشعبي.
1- على مستوى الممارسات السياسية:
نجحت قوى اليمين المتطرف في تعزيز شعبيتها بالاستحقاقات الانتخابية في عدد من الدول الأوروبية، مثل السويد والمملكة المتحدة وفرنسا والنمسا وهولندا وسويسرا، فيما أصبح حزب يميني شريكاً في الائتلاف الحاكم بالدانمارك.
وتعد انتخابات الرئاسة النمساوية الأخيرة مثالاً على ذلك، إذ تصدر "نوربرت هوفر" مرشح حزب الحرية اليميني المتطرف الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية في أبريل 2016 بحصوله على 36,4% من الأصوات، وبالرغم من أنه خسر في جولة الإعادة التي جرت في مايو الماضي أمام مرشح حزب الخضر "فان دير بيلين"، إلا أن خسارته كانت بفارق ضئيل جداً لم يتجاوز بضعة الآلاف من الأصوات.
وفي ألمانيا، برزت قوى اليمين المتطرف مع الانتخابات الإقليمية التي عُقدت في مارس الماضي ضمن ثلاث ولايات، وتمخضت عن فوز الحزب اليميني المتطرف "البديل من أجل ألمانيا" بنحو 12.5% من الأصوات في ولاية راينلاند بالاتينات، و15% في بادن فورتمبيرغ، و24% في ولاية سكسونيا أنهالت. وبالرغم من أن هذه النتيجة لا تؤهل الحزب للسيطرة على الحكومة في أي من الولايات الثلاث، ولكنه أضحى يحظى بحضور قوي ضمن السلطة التشريعية في هذه الولايات. كما تمثل النتائج الأخيرة أفضل نتيجة يحصل عليها حزب يميني متطرف في أي انتخابات الألمانية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهو أمر لافت لاسيما وأن هذا الحزب بدأ حياته السياسية في عام 2013 كحزب هامشي.
يُضاف إلى ذلك، بروز حزب ألمانيا القومي الديمقراطي الذي يُطلق عليه "النازية الجديدة"، إذ استطاع الحزب المسيطر على مدينة درسدن الحصول على 1.3% في الانتخابات الأخيرة، فضلاً عن مقعد داخل البرلمان الأوروبي من ضمن 96 مقعداً مُخصصاً لألمانياً.
2- على المستوى الشعبي:
يظهر صعود قوى اليمين المتطرف في عدد من المؤشرات، ففي فنلندا شكَّل متطرفون جماعة أطلقوا عليها "جنود أودين"، يجوبون الشوارع لحماية المواطنين الفنلنديين من خطر المهاجرين وما أسموهم "الغزاة المسلمين". كما شهدت ألمانيا تكوين مجموعة مشابهة تُعرف إعلامياً بمجموعة "فرايتال"، وهي تدَّعي أن "الدولة عاجزة عن حمايتنا، وأن مشكلة اللاجئين يجب أن نتولاها بأنفسنا".
وعلى صعيد متصل، تشهد بعض الدول الأوروبية زيادة في جرائم عنف اليمين المتطرف، ففي النمسا ذكر تقرير صادر عن جهاز المخابرات الداخلية أن عدد الأعمال المتطرفة لليمين في عام 2015 بلغ 1150 قضية، مقارنةً بحوالي 750 في عام 2014، وتتراوح بين إطلاق الألعاب النارية على مراكز إيواء المهاجرين والتحريض على العنف عبر الإنترنت.
وأيضاً في ألمانيا، ارتفع مستوى جرائم العنف ذات الدافع اليميني السياسي أكثر من 40% في عام 2015 مقارنةً بالعام السابق له، كما ازدادت أعمال العنف ضد منازل إيواء اللاجئين لتبلغ 177 جريمة في عام 2015 مقارنةً بنحو 26 جريمة في عام 2014.
أسـباب الصعود
ثمة مجموعة من العوامل أدت إلى رفع أسهم قوى اليمين المتطرف في أوروبا، ويمكن القول إن أحد أهم هذه الأسباب وأكثرها حضوراً هي قضية المهاجرين واللاجئين الذين يتدفقون إلى أوروبا سواء بشكل شرعي أو غير شرعي، حيث تزايدت أعدادهم بشكل كبير جداً خلال السنوات الماضية بسبب الظروف المحيطة بأوروبا، وفي مقدمتها أحداث الربيع العربي. وبطبيعة الحال يشكل هذا العدد الكبير من المهاجرين ضغطاً كبيراً على المجتمع الأوروبي سواء من الناحية الاقتصادية أو الثقافية أو الاجتماعية، لاسيما في ظل بعض الأحداث الصادمة مثل الاعتداءات الجماعية التي شهدتها مدينة كولونيا الألمانية عشية بداية العام الجاري. ويتيح ذلك الفرصة لقوى اليمين المتطرف لاستغلال قضية اللاجئين وتحويلها إلى فزَّاعة للترويج لأفكارها وإثارة مشاعر معاداة اللاجئين لدى الرأي العام الأوروبي.
وتزداد فرص نجاح قوى اليمين المتطرف في ظل الصعوبات الاقتصادية التي تعانيها القارة الأوروبية والتي يتواجد بها رسمياً 22 مليون عاطل عن العمل، ناهيك عن أن المهاجرين يزيدون من تكريس هذه المشكلة نظراً لتكاليفهم الأقل كعمال بدلاء عن العمال الأوروبيين. يُضاف إلى ذلك، تكلفة اللاجئ على الدولة المضيفة في مجالات المرافق والتعليم والصحة وغيره، في ظل موجة السياسات التقشفية التي تتبعها العديد من الدول الأوروبية.
كما أن عدم قدرة الأحزاب والتيارات السياسة التقليدية على تقديم الحلول أو البدائل الناجحة لتلك الإشكاليات، يساعد قوى اليمين المتطرف على سحب البساط من تحت أقدام هذه التيارات، لاسيما ذات التوجه اليساري والاشتراكي، وأحزاب يمين الوسط. وتجلى ذلك مع انهيار سياسات حزب العمل الاشتراكي وما كان له من بالغ الأثر في ارتفاع نسبة مؤيدي "شين فين" في أيرلندا. بعبارة أخرى، يدفع إخفاق الأحزاب التقليدية الناخبين الأوروبيين إلى "الـتـصـويـت العقابي" لصالح اليمين المتطرف نتيجة لعدم الرضا عن سياسات اليمين واليسار، ورفض الناخبين لبرامجهم أكثر من كونه قناعة ببرامج أقصى اليمين.
أيضاً، فإن انتشار الفكر المتطرف والإرهاب على مستوى العالم يبدو أنه يدعم زيادة مقبولية الفكر اليميني المتطرف بين قادة الرأي العام الأوروبي، فلا شك أن انتشار "داعش" يثير تخوفات لدى الرأي العام الأوروبي حول مدى الثقة في قدرة المجتمعات المفتوحة والحرة على حماية مواطنيها، وهو ما يسمح لقوى اليمين المتطرف بإثارة الشكوك حول جدوى آليات الدفاع لدى الحكومات الأوروبية، لاسيما مع تعرض بعض المدن الأوروبية لعمليات إرهابية مثلما حدث في باريس وبروكسل. ويرتبط ذلك بتصاعد مفهوم "الإسلاموفوبيا" وموجة العمليات الإرهابية منذ أحداث 11 سبتمبر، والتخوفات من سرعة انتشار الدين الإسلامي في أوروبا على الرغم من أن عدد المهاجرين لا يتجاوز 5% من السكان؛ ما رسخ هدف اليمين المتطرف لكسب قاعدة جماهيرية بالادعاء أن الإسلام ومتبعيه هم التهديد الأساسى لقيم أوروبا الثقافية والقومية.
وفي هذا السياق، يعتبر عنصر القوة الذي يساعد اليمين المتطرف هو قدرته على تبني خطاب يربط مُجمل تلك العوامل ببعضها البعض، بحيث يتم ربط المشكلات الاقتصادية والمالية وحتى الأخلاقية، التي ظهرت في أوروبا منذ عام 2008، بالنواحي الأمنية والهجرة وتدفق اللاجئين والتهديدات الإرهابية، مع ترويج هذا التيار إلى أنه لديه حلولاً لمعالجة هذه الأزمات المركبة.
النتائج والتداعيات
يترك صعود نجم قوى اليمين المتطرف في أوروبا بصمات عدة على المشهد السياسي والاجتماعي الأوروبي، حيث تتجلى الآثار المباشرة مع اتجاه القوى السياسية التقليدية في بعض الدول الأوروبية لتبني حلولاً وإجراءات متشددة لسحب البساط من تحت أقدام اليمين المتطرف والحد من سيطرته على المزاج العام الأوروبي، وحدث ذلك في الدانمارك مع تبني البرلمان بغالبية ساحقة (تأييد 81 نائباً من أصل 109 حضروا الجلسة)، في يناير 2016، تعديلاً لقانون اللجوء تقدمت به الحكومة يهدف إلى إبعاد المهاجرين ومنعهم من محاولة الوصول إلى هذا البلد، ويتضمن إمكانية مصادرة مقتنيات ثمينة من المهاجرين بهدف استخدامها لتمويل إقامتهم في البلاد قبل البت بطلبات لجوئهم، فضلاً عن بنود أخرى مثيرة للجدل حول ظروف الإقامة وتقليص حقوق اللاجئين الاجتماعية وإطالة المهل المتعلقة بلم شمل العائلات، حتى أن المفوضية العليا للاجئين التابعة للأمم المتحدة اتهمت الدنمارك بتأجيج "الخوف وكره الأجانب".
بالمثل تبنى برلمان النمسا، في أبريل الماضي، واحداً من أكثر قوانين اللجوء تشدداً في أوروبا، إذ يسمح القانون، الذي حظي بتأييد 98 صوتاً مقابل 67، للحكومة بإعلان "حالة الطوارئ" بشأن أزمة اللاجئين، ورفض معظم طالبي اللجوء، حتى من دول تشهد نزاعات مثل سوريا. ويلزم مشروع القانون، كذلك، اللاجئين بتقديم طلب اللجوء فوراً أمام الحكومة عبر مراكز تسجيل مشيدة لهذا الهدف، حيث سيحتجزون لمدة 120 ساعة بينما يتم النظر في طلباتهم. وتشبه هذه القيود قوانين أخرى صادقت عليها حكومة اليمين في المجر العام الماضي.
وثمة مخاوف من أن يكون أول المتضررين من هذا التوجه في أوروبا، هم العرب والمسلمون الّذين سيضطرون لمواجهة متاعب جديدة وعديدة، كما أن مثل هذه الإجراءات تنذر بتوترات داخلية في أوروبا مستقبلاً، نتيجة الخطاب العدائي والعنصري تجاه الأجانب والمسلمين، وهو ما يهدد أمن واستقرار الدول الأوروبية بشكل عام.
وعلى المدى الطويل، تظهر تحذيرات من التأثير السلبي لصعود اليمين على نموذج التسامح للدولة القومية الحديثة ذات الطابع الأوروبي، والذي أصبح هشاً جداً مع تصاعد خطاب الإقصاء والتوجه نحو ممارسة هذا الخطاب على أرض الواقع، وهو ما سيكون مُرعباً لو استمر، لأن القوى اليمينية المتطرفة تقوم بشكل إلزامي بالتعريف الإثني لشعب كل دولة، وبالتالي استبعاد أولئك الذين لا ينتمون إلى هذه الدولة، وهو ما يشكل خطراً على مشروع أوروبا الموحدة الذي تسعى القارة إلى تحقيقه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
بيد أن هناك اتجاهاً أكثر تفاؤلاً يرى أن هذا الصعود لليمين المتطرف ربما يكون بداية النهاية لهذه الظاهرة، وذلك استناداً إلى أن الجيل الأوروبي الحالي، الذي نما وترعرع في ظل الرفاهية والحرية والسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان كمُسَلَّمات وفق النموذج الأوروبي، سيشعر بخطر صعود هذه التيارات، ومن ثم سيرفضها. كما أن إتاحة المجال لأحزاب اليمين المتطرف لنيل التمثيل السياسي، والمشاركة في التداول على السلطة، من شأنه أن يعرض هذا اليمين جدياً لما ظل يتجنبه، وهو أن يُوضع أمام اختبار عقلاني عملي سيكشف أنه لا يملك البديل الحقيقي للقوى السياسية التقليدية.