في ضوء التحولات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط على المستويات الأمنية والسياسية والاستراتيجية كافة، منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، وما صاحبها من تصعيد إقليمي على أكثر من جبهة؛ عقد مركز "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة" حلقة نقاشية، يوم 19 سبتمبر 2024، تناولت مستقبل الدور الإيراني في المنطقة، ولاسيما بعد تفجيرات "البيجر" في لبنان يوم 17 سبتمبر الجاري. وكان المتحدث الرئيسي في الحلقة، الأستاذة الدكتورة نيفين مسعد، أستاذة العلوم السياسية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. وأدار الحلقة الأستاذ أحمد عليبة، رئيس وحدة الدراسات الأمنية في مركز "المستقبل"، وشارك فيها خبراء وباحثو المركز.
ما بعد 17 سبتمبر:
تُعد أحداث 17 سبتمبر 2024، والتي تُشير إلى تفجير نحو 3 آلاف جهاز مناداة، والمعروف باسم "بيجر"، في وقت واحد في أجساد عناصر حزب الله اللبناني، بمثابة "11 سبتمبر الشرق الأوسط"؛ في إشارة إلى أحداث 11 سبتمبر 2011 في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي أحدثت زلزالاً كبيراً في الشرق الأوسط، ما زالت تبعاته مستمرة حتى الآن.
ويرتبط دور إيران في المنطقة فيما بعد أحداث 17 سبتمبر الجاري، بمجموعة من العوامل الرئيسية والمتغيرات التي قد تواجهها خلال الفترات المقبلة، والتي حدّدتها د. نيفين مسعد على النحو التالي:
1- تعقد القضية الفلسطينية: منذ 7 أكتوبر 2023، أصبحت القضية الفلسطينية مُعقدة ومُتشابكة بصورة غير مسبوقة، خاصةً أن هناك رفضاً تاماً وصريحاً لفكرة حل الدولتين من جانب إسرائيل، مع سيطرة الأحزاب اليمينية على الحكومة الإسرائيلية في الوقت الحالي. وعليه، أصبحت إيران في مأزق كبير فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومبدأ حل الدولتين.
ولا ينفصل ما يحدث في قطاع غزة، عمّا يحدث في الضفة الغربية؛ إذ يُعد أخطر بكثير مما يحدث في غزة، خاصةً أن الضفة تحظى بأهمية استراتيجية بالنسبة لإسرائيل، في ظل مُخططات الاستيطان وهدم البيوت وتجريف الأراضي وطرد السكان؛ ما يُشير إلى إعادة تشكيل كاملة للضفة؛ وهو ما يزيد من تأزيم القضية الفلسطينية.
وفيما يتعلق بترتيبات اليوم التالي للحرب الإسرائيلية على غزة، فثمة قاسم مشترك بين الرؤى والأطروحات لأغلب القوى الكبرى، وجميعها تؤكد ضرورة خروج حركة حماس من المشهد وأي ترتيبات مستقبلية، بغض النظر عن شكل وطبيعة الحكم، وهو ما قد يُؤثر في إيران بشكل ما؛ إذ إن علاقتها بالسلطة الجديدة المُحتملة لن تكون على نفس المستوى مع حماس؛ ومن ثم قد تواجه طهران مساراً مختلفاً في غزة عما اعتادت عليه.
وعلى الرغم من أن هناك بعض القرارات التي تُشير إلى قدر من التفاؤل، منها القرارات الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية، ضد الممارسات الإسرائيلية ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وكذلك حالة التعاطف حول العالم مع فلسطين، والاعتراف بالدولة الفلسطينية من بعض الدول؛ فإن هذه العوامل لا تمثل ضغطاً على صانع القرار الأمريكي ولا الإسرائيلي، بل إن أوزانها النسبية قليلة جداً مقارنةً بباقي العوامل المُؤثرة في المعادلة القائمة حالياً.
2- تفوق قدرات الردع الإسرائيلي: أثبت التصعيد بين إسرائيل وإيران مدى تفوق قدرات الردع الإسرائيلي، وذلك على الرغم من نجاح الصواريخ التي يمتلكها الفاعلون المسلحون ووكلاء طهران في تهديد إسرائيل والوصول إلى تل أبيب، بجانب اعتراض مسار السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر.
وأظهرت أحداث 17 سبتمبر مدى الفجوة التكنولوجية والاستخباراتية بين إسرائيل من ناحية، وإيران وحلفائها من ناحية أخرى. يُضاف إلى ذلك، سلسلة الاغتيالات السياسية المتتالية لرموز إيرانية أو تلك المحسوبة على طهران. فعلى مدى الشهور الماضية، اغتالت إسرائيل ما لا يقل عن 17 قائداً من الحرس الثوري الإيراني، من بينهم قيادات تتمتع بثقل ووزن كبير داخل الحرس الثوري. ويُعد التفوق النوعي الإسرائيلي بمثابة رادع لطهران ووكلائها في المنطقة. كما أثبتت الأحداث أن مقولة "إسرائيل يجب أن تُفكر مرتين قبل أن تهاجم إيران"، أصبحت على المحك؛ إذ بدا من المشهد أن العكس صحيح، "فعلى إيران أن تُفكر مرتين وثلاثاً قبل أن ترد على إسرائيل".
3- الحرص على عدم توسيع نطاق الحرب: ثمة إجماع من الأطراف الإقليمية والدولية على عدم الدخول في حرب مُوسعة وشاملة، وهو ما أكدته تصريحات المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين والإسرائيليين والإيرانيين. وعليه، ستواجه إيران مُعضلة تتعلق بكيفية التعامل مع التحديات التي تتعرض لها، وفي الوقت نفسه هي تعمل في إطار لا تتمتع فيه بتوازن الردع من جهة، وتلتزم فيه بعدم توسيع قواعد الاشتباك من جهة أخرى. فعلى سبيل المثال، على إيران أن ترد على وقائع الاغتيالات والاختراقات الأمنية التي تعرضت لها، لكنها في الوقت نفسه محكومة بتفوق الردع الإسرائيلي، وأنها لو قامت بتوسيع نطاق الحرب فإن ذلك سوف يستعدي الدول الإقليمية والدولية.
تساؤلات مُلحّة:
تطرح التفاعلات الجارية في الإقليم، وطبيعة تحركات طهران، تساؤلات بشأن مستقبل الدور الإيراني، كما تستدعي اختبار مجموعة من الفرضيات، والتي أوضحتها د. نيفين مسعد على النحو التالي:
1- اهتزاز صورة ومكانة طهران: يمكن اختبار مصداقية إيران ودورها كزعيمة لما يُسمى بـ"محور المقاومة" في المنطقة، بعد مرور عام من الحرب الإسرائيلية على غزة؛ إذ تحرص طهران دائماً على رسم صورتها باعتبارها "مدافعاً عن حقوق المستضعفين"، وقيامها بعملية التنسيق بين القوى المختلفة. ويبدو أن هذه الصورة قد اهتزت بشكل كبير مع عدم الثأر لاغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران، في أواخر يوليو الماضي، وكذلك في أعقاب ما حدث في لبنان، سواء في 17 سبتمبر الجاري أم فيما سبقه وما بعده، في ظل مكانة حزب الله في الاستراتيجية الإيرانية ودوره في معادلة وكلاء طهران؛ إذ تنظر إليه الأخيرة على أساس أنه الركيزة الأساسية للفاعلين والمشروع الإيراني في المنطقة.
ترتيباً على ما سبق، تعرضت صورة إيران كدولة تقوم بتنسيق ما يُسمى بـ"جبهات الإسناد" في إطار مبدأ "وحدة الساحات" لهزة شديدة؛ وهو ما يفرض تساؤلات حول كيف يمكن أن تتعامل إيران مع حالة الصدع وتراجع المصداقية، خاصةً أن محاولتها لاستعادة صورتها قد تُواجه ببعض الكوابح أو القيود، وفي مقدمتها عدم رغبة الدول الكبرى في توسيع نطاق الحرب، وعدم امتلاك طهران أدوات الردع الكافية في ظل التفوق النوعي لإسرائيل.
2- الاستمرار في توظيف الورقة الفلسطينية: كانت القضية الفلسطينية ضمن أوراق إيران الرئيسية منذ اندلاع الثورة الإسلامية؛ إذ قامت حينها بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، وتحويل السفارة الإسرائيلية إلى سفارة فلسطينية وتقديمها لمنظمة التحرير الفلسطينية، وإقامة يوم سنوي للقدس، وكل هذه التحركات تدور حول قدرة إيران على توظيف القضية الفلسطينية ببراعة وفاعلية. وهنا يُثار تساؤل مفاده، إذا كانت طهران غير قادرة على خدمة القضية الفلسطينية، فهل سيُضعف هذا الأمر قدرتها على توظيف القضية في سياستها الخارجية؟ وربما يكون من الصعب تجريد إيران من هذه الورقة، خاصةً في ظل تراجع مواقف بعض القوى الإقليمية التي كانت تُنافس على تلك الورقة، وتحديداً تركيا.
من ناحية أخرى، إذا كانت إيران تستخدم القضية الفلسطينية لخدمة قضايا أخرى، كما هو الحال في الاتفاق النووي، والذي تفوق أهميته القضية الفلسطينية بالنسبة لطهران، خاصةً أن هناك تصورات تُفيد بأن الضغط على إيران لعدم التصعيد والابتعاد عن الدخول في مواجهة شاملة يأتي في ضوء تهيئة الظروف للتفاوض مع الولايات المتحدة بشأن الاتفاق النووي؛ ومن ثم، ماذا لو تراجعت قدرة إيران على التأثير في القضية الفلسطينية، وما مدى انعكاس ذلك على المطالبة بإحياء الملف النووي؟
في الختام، خلص النقاش إلى عدد من النتائج، أبرزها أن تفجيرات "البيجر" وما بعدها، أثبتت ضرورة النظر والتفكير في آليات الاشتباك وطرق الصراع المُسلح الذي تجاوز الطرق التقليدية؛ إذ أصبحت التقنيات الحديثة عاملاً مؤثراً في إدارة الصراع والتأثير فيه. كما كشفت الأحداث في الفترة الماضية أن إيران ربما ليست بذات القدر من القوة الذي تُروج له. ومن ناحية أخرى، ليس مُرجحاً أن تسفر التفاعلات والتحولات الجارية في الإقليم عن انكفاء إيران على الداخل، خاصةً أنها تعمل دائماً على الترويج لسردية التهديدات والمخاطر الخارجية. كذلك فإن مستقبل وكلاء طهران ليس مرهوناً بها بالكلية؛ إذ تزايدت قوتهم وأصبح لهم مصالحهم الخاصة؛ ومن ثم فإن ضعف إيران لا يعني بالضرورة غياب هؤلاء الوكلاء عن المشهد.