أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

الحاجة لمبادرة أممية لاحتواء الخطر النووي

13 أكتوبر، 2022


ذكّرتني الأحداث الجارية بأيام تعييني، في أواخر السبعينيات، عضواً شاباً من أعضاء الوفد المصري إلى الأمم المتحدة في جنيف، والمسؤول عن قضايا الأمن الدولي ونزع السلاح في قصر الأمم. وتذكرت الدهشة التي شعرت بها حينها إزاء دفاع كل من مندوبي السوفييت والولايات المتحدة المستميت ودعمهم الشديد للمنطق الاستراتيجي للأسلحة النووية واستدامتها وقيمتها الرادعة الجوهرية، ومفاهيم مثل "التدمير المؤكد المتبادل".

وحتى عندما كنت دبلوماسياً في مستهل رحلته لاكتساب الخبرة المهنية، بدت هذه المفاهيم غريبة، وأقرب لأفلام دكتور سترينجلوف Dr. Strangelove الهوليوودية، ولا تتعدى كونها إلى حد ما مثل لعبة الروليت الروسية الخطرة، فلم يكن أي منهم مبنياً على التفكير العقلاني أو على أي حسابات دقيقة.

لعبة الانتشار النووي

أدرك القادة الحكماء في الولايات المتحدة وروسيا سريعاً خطأ هذه المفاهيم، كما أدركوا المخاطر المحتملة الكبيرة لسوء التقدير العسكري، أو حتى لأي اشتباك نووي طائش بسبب خطأ بشري أو خطأ في الأنظمة. وهكذا شهدت الثمانينيات والتسعينيات تعاوناً جاداً ومستمراً بين هاتين القوتين للحد من تنامي المخزونات النووية، وإزالة الأسلحة النووية المستهدفة، وإنشاء أنظمة لإدارة الأزمات.

ولقد تم التفاوض بشأن معاهدة تخفيض الأسلحة الاستراتيجية (ستارت)، ومعاهدة تخفيض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية (سورت)، ومعاهدة القوات النووية متوسطة المدى (INF)، ومعاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية (PTBT)، ودخلت هذه المعاهدات حيز التنفيذ كتعبير عن إدراك الطرفين أن التباهي بالأسلحة النووية والتهديد باستخدامها لم يكن أسلوباً صحيحاً، بل هو في الواقع سياسة خطيرة. 

ولكن القوتين اللتين تمتلكان أكبر ترسانات عسكرية لم تستطيعا للأسف الاتفاق على نزع الأسلحة النووية من ترساناتهما أو تخفيضها تخفيضاً شاملاً أو حظر استخدامها. وتجدر الإشارة إلى حقيقة أن التقارير أشارت إلى أن الرئيس الأمريكي رونالد ريغان والأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي ميخائيل غورباتشوف اتفقا بالفعل على هذه الأهداف الطموحة في قمة ريكيافيك في 11-12 أكتوبر 1986، قبل أن تتراجع مؤسساتهما، والترويج، بدلاً من ذلك، لمعاهدة القوات النووية متوسطة المدى (INF)، التي أبرمت في نهاية المطاف في عام 1987.

وعلى مدى عقود، تبنت القوتان الرئيسيتان سياسة الاحتواء النووي العالمي، وأصرتا على حقهما في الاحتفاظ بأسلحتهما النووية، بينما قبلتا على مضض حيازة الأعضاء الدائمين الآخرين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (مثل فرنسا والمملكة المتحدة والصين) للسلاح النووي. وغني عن القول إن هذه السياسة لم تكن فعالة في الانتشار حيث رأينا دولاً مثل الهند وباكستان وكوريا الشمالية تعلن على الملأ عن قدراتها النووية. علاوة على ذلك، فإن قدرة إسرائيل النووية غير المعلنة صارت سراً مكشوفاً، كما أطلقت دول أخرى برامج نووية مثيرة للقلق، حيث لم تصل إلى مستوى الشفافية والمصداقية المطلوبة نفسه، وكان آخرها البرنامج النووي الإيراني.

وتستمر حيازة الأسلحة النووية في تهديد السلم والأمن الدوليين، كما هي الحال مع عدم تطبيق معاهدة حظر الأسلحة النووية (NPT) على دول العالم كافة، لا سيما على الشرق الأوسط، فإسرائيل هي الدولة الإقليمية الوحيدة التي لم تشترك في المعاهدة.

ومع ذلك، شهدنا في الأشهر الأخيرة تكرار التهديدات النووية المتبادلة بين روسيا والولايات المتحدة بعد عقود من توقفهما عن ذلك. ولقد صرّح الرئيس بوتين، في لقاء تلفزيوني مخاطباً الأمة الروسية، أن بلاده تمتلك "أسلحة دمار شامل مختلفة" و"سنلجأ لكل الوسائل المتاحة لنا"، مضيفاً أنه يعني ما يقول. وأعلن جوزيب بوريل من الاتحاد الأوروبي أن حرب أوكرانيا قد وصلت إلى "لحظة خطيرة.. وأن تهديد بوتين باستخدام الأسلحة النووية لهو أمر بالغ السوء". ووصف الرئيس بايدن تهديدات بوتين النووية بأنها "تجاهل طائش لنظام منع انتشار الأسلحة النووية". وعندما سُئل بايدن عن رد الولايات المتحدة إذا ما لجأت روسيا للسلاح النووي، أكد أن الرد سيكون "هائلاً"، وكانت تعليقات المسؤولين الأمريكيين والروس الآخرين أكثر صراحةً ووضوحاً. ولقد صرّح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أنه في خضم التوترات العالمية الحالية "فإن الإنسانية لا يفصلها عن الإبادة النووية سوى سوء تفاهم وسوء تقدير واحد".

الحاجة إلى التعددية

على المجتمع الدولي أن يتحرك الآن لاحتواء الوضع النووي المتفاقم وغير المستقر على نحو خطير، والذي يمثل تهديداً حقيقياً لنا جميعاً.

ولمعالجة هذا الوضع، صار من الحتمي الآن التوصل إلى صيغة ثنائية الأركان من شأنها أن تدفع الأوكرانيين والروس إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات للتوصل إلى وقف لإطلاق النار وبدء المفاوضات بينهما، على أن يمتد الهدف إلى تمكين القوتين الرئيسيتين من التوقف والتراجع عن مواقفهما النووية، وكذلك إعادة تنشيط الإجراءات التي تساعد على احتواء ومنع أي سوء فهم أو تصرف غير مقصود فيما يتعلق بالأسلحة النووية.

وعلى الأمم المتحدة، لا سيما مجلس الأمن، تولي زمام المبادرة هنا. فمن الناحية الواقعية، وبالنظر إلى التوترات بين الأعضاء الدائمين في الغرب وبين روسيا، لا أتصور أن مجلس الأمن سيتخذ أي قرارات توافقية بشأن هذه الأمور. وبناء على ذلك، أرى أن يتم اقتراح إجراء محادثات تحت رعاية مشتركة من الأمين العام للأمم المتحدة مع دعم من رئيس مجلس الأمن بحكم منصبه، فلقد لعب الأمين العام دوراً مشابهاً في عقد مؤتمر جنيف لحل الصراع العربي-الإسرائيلي بعد حرب أكتوبر 1973، حيث شارك في استضافة المؤتمر مع الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.

وبموجب المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، يستطيع الأمين العام أن يتولى زمام المبادرة في هذا الصدد من دون الحاجة إلى استصدار قرار من مجلس الأمن، فلطالما تولى رؤساء المجلس مبادرات بحكم مناصبهم من دون أن يصدروا قراراً رسمياً. وميزة هذه الطريقة وجودها ضمن المحادثات في سياق ميثاق الأمم المتحدة، بالإضافة إلى توفيرها رعاة وقادة متميزين. وسيكون الصراع بين أوكرانيا وروسيا هو أحد محوريّ هذه العملية، أما المحور الآخر فسيركز على الحد من التهديدات النووية المتبادلة بين روسيا والولايات المتحدة.

وبصفتي عربي من دولة غير منحازة، أوصي بأن يأتي هذا الاقتراح رسمياً أولاً من ممثل أو أكثر من الدول غير المنتسبة للمجلس ومن غير الدول دائمة العضوية فيه.

والوقت هو جوهر المسألة، والرضا عن الأوضاع الحالية هو ترف لا يمكننا تحمله من دون المخاطرة بانتشار تهديدات الأسلحة النووية الخطيرة، والمخاطرة بأن تصبح تلك الأسلحة مرة أخرى أداة استعراض في مجال الجغرافيا السياسية على الصعيدين العالمي والإقليمي.