أخبار المركز
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (المعضلة الروسية: المسارات المُحتملة لأزمات الانتخابات في جورجيا ورومانيا)
  • إسلام المنسي يكتب: (جدل الوساطة: هل تخلت سويسرا عن حيادها في قضايا الشرق الأوسط؟)
  • صدور العدد 38 من دورية "اتجاهات الأحداث"
  • د. إيهاب خليفة يكتب: (الروبوتات البشرية.. عندما تتجاوز الآلة حدود البرمجة)
  • د. فاطمة الزهراء عبدالفتاح تكتب: (اختراق الهزلية: كيف يحدّ المحتوى الإبداعي من "تعفن الدماغ" في "السوشيال ميديا"؟)

مسار الانزواء:

الأصولية العنيفة و"تدمير العالم".. من "الهيبز" إلى "داعش"

20 مارس، 2017


مثّلت فكرة العودة إلى الأصول، أو النقطة التي كان فيها البشر أكثر طهارةً أو تدينًا، إغراء مستمرًّا للكثيرين على اختلاف الثقافات والديانات التي يعتنقونها. وإذا كان ذلك يمكن تفهمه في إطار العلاقة النفسية والفلسفية للفرد أو الجماعة بأسئلة لها طابع ميتافيزيقي؛ إلا أنه لا يرتب بالضرورة أي ارتباط مع تبني بعض الجماعات المتطرفة العنف كمنهج لاستعادة نقاء أو طهارة المجتمعات التي يعيشون فيها.

لكن هذه الفكرة ظلت دومًا أحد مسوغات التحول نحو العنف وتبريره، سواء من الجماعات التي تعتبر ممارسة العنف ضد الآخر المختلف جزءًا لا يتجزأ من أيديولوجيتها، أو تلك التي تبدأ ممارسة العنف في مرحلة متأخرة من تطورها التنظيمي.

ويُمكن أن نلمح هذا الأمر في توجهات بعض الجماعات التي تتبنى هذه الأفكار منذ ستينيات القرن العشرين وحتى اليوم، مثل جماعة الهيبز في الولايات المتحدة، وجماعة أوم شنريكيو اليابانية، وجماعة "المسلمين" التي عُرفت إعلاميًّا باسم "التكفير والهجرة" في مصر، وأخيرًا جماعات متعددة أمثال "داعش"، وأنصار الشريعة، وغيرها في عددٍ من البلدان العربية والإسلامية.

من العزلة إلى التدمير:

على اختلاف أهدافها ومناهجها، وسياقات بروز الجماعات الأصولية العنيفة، فإنها تمر بأربعة أطوار متمايزة، أولها مرحلة التبشير وتجنيد الأتباع، وثانيها اعتزال المجتمع والانفصال عنه، وثالثها التحول إلى العنف، ورابعها الانزواء والخفوت. 

وعادةً ما تنتقل الجماعات الأصولية بشكل سريع بين المراحل الأربعة نظرًا لمركزية فكرة ضرورة الإسراع في إنقاذ العالم من كارثة محققة، إذا ما استمر البشر في سلوكياتهم المناهضة للإرادة الإلهية أو للفطرة الإنسانية. فبمجرد أن تشعر الجماعة الأصولية بأن قدرتها على زيادة الأتباع آخذة في التضاؤل تُبادر بالانتقال إلى مرحلة اعتزال المجتمع والانفصال عنه، ليس فقط ثقافيًّا، بل وجغرافيًّا في بعض الأحيان. 

قد تؤدي مجتمعات العزلة تلك إلى نشوب نزاعات داخل الجماعة الأصولية، كأن تنشقّ على نفسها، أو يؤسس بعض المنتمين لها جماعة أخرى أكثر تطرفًا، أو يعودون إلى المجتمعات الأصلية، الأمر الذي يهدد بقاءها ذاته. وقد ينتج عن ذلك الانتقال إلى مرحلة ممارسة العنف ضد جميع المغايرين، بمن في ذلك من كانوا داخل الجماعة وانشقوا عنها أو تخلوا عن أفكارها كلية.

ومع وصول أي جماعة أصولية إلى مرحلة ارتكاب جرائم القتل والإرهاب، لا يتحول الأمر إلى مجرد حرب بينها وبين السلطات الحاكمة في هذا المجتمع أو ذاك، بل تبدأ عملية تفكيك أي حواضن شعبية ربما تمكنت من اختراقها واجتذابها للتعاطف معها في مراحل تأسيسها الأولى، وبالتالي تصل الجماعة إلى مرحلتها النهائية بأن تتقلص أعداد المنتمين إليها تدريجيًّا حتى تتلاشى تمامًا أو تبقى كامنة للانطلاق في موجة جديدة من صعود الأصوليات، أو يتحول أفرادها للاندماج في تنظيمات أخرى أكثر عنفًا.

تترابط هذه المراحل لتبدو الأصوليات العنيفة وكأنها تسلك مسارًا حتميًّا لا مهرب منه، دون أن يعني ذلك أنها ظاهرة قابلة للتلاشي النهائي، أو يمكن أن تتجدد دومًا، خاصة أنها تضرب كافة المجتمعات الإنسانية بغض النظر عن الفوارق الثقافية أو مستوى التطور الحضاري بشكل عام. ويمكن استجلاء هذا المسار من خلال ثلاث جماعات أصولية مختلفة مرت بهذه المراحل، وهي: "الهيبز، و"أوم شنريكيو"، والتكفير والهجرة، ثم كيف مثلت جماعة "داعش" استمرارًا لنفس النمط في التطور برغم أن ولادتها جاءت مختلفة عن تلك الجماعات.

الهيبز وتخليص العالم:

برغم أن جماعة الهيبز التي استمرت فترة قصيرة في الولايات المتحدة خلال ستينيات القرن العشرين لا تصنف كحركة أصولية بالمعنى الديني أو الأيديولوجي؛ إلا أن ادعاء أحد أبرز الذين انتموا إليها -ويُدعى تشارلز مانسون- بأنه المسيح الجديد الذي جاء لتخليص العالم من فساده، وإيمان أتباعه بادعاءاته، يضع تلك الجماعة -التي لم تتخذ شكلا تنظيميًّا بقدر ما تحولت إلى ظاهرة ثقافية اجتماعية- في قلب الحركات الأصولية، خاصة وأن شعاراتها تدعو إلى استعادة طهارة الإنسان الأول قبل أن تشوهه صراعات المصالح والأنانية.

لم تُظهر الجماعة التي قادها مانسون في الولايات المتحدة الأمريكية أي ميل للعنف في بداية ظهورها عام ١٩٦٦، حيث ظلت تُمارس التبشير بأفكارها حتى عام ١٩٦٩، دون أن تلجأ للعنف لتطبيق أفكارها حتى اللحظة التي بدأت فيها هذه الجماعة تتراجع بعد فشل الثورات الشبابية والطلابية في تحقيق أهدافها (ثورة الشباب في أوروبا وأمريكا عام ١٩٦٨). ومن ثم، انتقلت جماعة مانسون إلى المرحلة الثانية، وهي الدعوة للابتعاد عن المجتمع، خاصة وأنها تراه ملوثًا، عبر الهجرة إلى الغابات لحماية أتباعها من مؤثرات المجتمع المتحلل دينيًّا وأخلاقيًّا.

لم تستمر هذه المرحلة طويلا، إذ بدا لمانسون أن هناك ضرورة لاستعجال الخلاص عبر ارتكاب عدة جرائم قتل استهدفت شخصيات معروفة من البيض، على رأسهم نجمة هوليود في ذلك الوقت "شارون تيت"، تحت زعم أن مقتل هؤلاء البيض المشهورين سيقود المجتمع للشك في أن السود وراء ذلك، ومن ثم تبدأ الحرب الأهلية بين الطرفين وتنتهي بدمار العالم الملوث لكليهما، ليعود مانسون وأتباعه من مجتمعاتهم المنعزلة إلى قيادة العالم بعد تطهيره.

ومع اكتشاف جرائم مانسون وجماعته في أغسطس ١٩٦٩، بدأت حركة "الهيبز" التي كانت في الأصل حركة "طُهرية" تؤمن بالسلام ونبذ العنف في الانزواء نتيجة جرائم جماعة مانسون التي نُسبت لأفكار الهيبز بشكل عام.

أوم شنريكيو.. الحقيقة السامية:

نشأت حركة أوم شنريكيو (الحقيقة السامية) في عقد الثمانينيات من القرن العشرين في اليابان، كجماعة روحية تتألف معتقداتها من خليط من الهندوسية والبوذية أضافت إليها لاحقًا عناصر من التنبؤات بقيامة المسيح. أسس الجماعةَ يابانيٌّ يدعى أساهارا شوكو، وزعم بأنه المسيح وكذلك أول "مستنير" منذ بوذا. واجتذبت الحركة الآلاف من شباب الجامعات، ليس في اليابان وحدها ولكن خارجها حتى في بعض المجتمعات الأوروبية.

وكحركة "خلاصية أو تطهيرية"، انطلقت أوم شنريكيو من الفكرة المشتركة لدى كل الأصوليات على اختلافها، وهي الحكم بفساد العالم القائم وحتمية فنائه ما لم يتم تطهيره، مع الدعوة إلى اعتزال أعضائها المجتمع وإقامة تجمعاتهم الخاصة. وعندما بدأت الحركة في منتصف التسعينيات تشعر بأنها غير قادرة على زيادة أتباعها، بادرت إلى التحول للتخطيط لعمل من شأنه تعجيل الخلاص وفناء العالم القائم. ففي مارس من عام ١٩٩٥ شنت الجماعة هجومًا بغاز السارين في مترو أنفاق طوكيو، وتسبب الحادث في مصرع ١٣ شخصًا، وإصابة عدة آلاف بالتسمم.

وكما حدث لأتباع مانسون، واجه عدد من أعضاء "أوم شنريكيو " تهمة القتل الجماعي، وحُكِمَ على العديد منهم بالإعدام بمن فيهم أساهارا نفسه (لم يتم تنفيذ الحكم فيه حتى اليوم)، ومن ثم بدأت الانشقاقات داخل الحركة نتيجة تحول المجتمع الياباني للنظر إليها على أنها جماعة إرهابية، وهو ما حكم عليها بالانزواء وصعود جماعات أصغر تؤمن بنفس الأفكار الخلاصية، ولكنها لا تؤمن بالعنف، مثل: الجماعة المعروفة باسم هيكاري نو وا (أي دائرة ضياء قوس القزح).

التكفير والهجرة:

نشأت فكرة جماعةُ المسلمين (التكفير والهجرة) كانشقاق عن جماعة الإخوان المسلمين في عام ١٩٦٦، حيث تبناها شكري مصطفى أحد معتقلي الإخوان داخل السجن. وروجت الجماعة للأفكار التي تُكفِّر المجتمع، متأثرة في ذلك بكتب المنظِّر الجهادي المعروف سيد قطب. وعقب الإفراج عنه عام ١٩٧١، بدأ شكري مصطفى في الدعوة إلى أفكاره باعتزال المجتمع، وتكوين الجماعة المؤمنة التي ستتولى حكم العالم بعد أن يتم تدميره بسبب بؤسه وفساده، بحسب زعمه.

وبرغم انضمام عدد من شباب الجامعات المصرية آنذاك إلى هذه الجماعة التكفيرية عند بدء تأسيسها بشكل سريع، إلا أن زعيمها شعر بالقلق نتيجة توقف القدرة على تجنيد مزيدٍ من الأتباع، فضلا عن بدء وقوع انشقاقات وعمليات ترك لأفكار التنظيم من بعض أعضائه، الأمر الذي عجّل بالتحول السريع نحو استعجال الخلاص بتقريب الحرب المدمرة بين الأطراف الفاسدة في المجتمع. 

إذ اغتالت هذه الجماعة وزير الأوقاف الشيخ محمد الذهبي في عام 1977 تحت تصور ساذج بأن قتله سيجعل الرئيس المصري آنذاك أنور السادات ينقلب على الإخوان المسلمين التي تحالفت معه بعد موت الرئيس جمال عبدالناصر، في مواجهة خصميهما المشترك من اليساريين. وبالتالي، يتم إفناء كافة المعادين لفكر الجماعة ليعودوا ويحكموا العالم وفقًا للشريعة الإسلامية بمفهومها الخاص لديهم. 

وقد انتهت جماعة التكفير والهجرة عمليًّا بعد إعدام مؤسسها شكري مصطفى في العام 1978، وإن كانت أفكارها الأساسية وبعض أفرادها المؤسسين انضموا إلى جيل جديد من تنظيمات السلفية الجهادية المصرية.

داعش.. نموذج مختلف:

مثل كل الأصوليات الدينية كان صعود ما يُعرف بتنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، وانتشاره في معظم البلدان الإسلامية، خاصةً العربية منذ عام 2014، تكرارًا للظواهر السابقة مع وجود اختلاف في السياقات التي أنتجته، ومكنته من أن يصبح أول تنظيم أصولي لم يمر بمرحلة الدعوة إلى أفكاره قبل التحول لممارسة العنف. إذ فرضت ظروف الغزو الأمريكي للعراق في عام ٢٠٠٣، ثم الصراع المذهبي بين الشيعة والسنة في هذا البلد، على التنظيم أفكار تطهير العالم بأيديولوجيا المقاومة الوطنية للاحتلال من المغايرين الذين يتسببون في فساده.

وأسهم ذلك في زيادة فرص التنظيم في تجنيد آلاف الأتباع تحت عنوان الجهاد وقتال العدو القريب (الأنظمة الحاكمة) والعدو البعيد (أوروبا والولايات المتحدة) في آن واحد، وفِي جبهات قريبة في سوريا والعراق مع المبادرة بإعلان دولة الخلافة (كفعل استعادة للطهارة الأولى ومؤسساتها) في الأراضي التي يمكن الاستيلاء عليها دون انتظار تحرير بقية الديار الإسلامية كما كان تنظيم القاعدة يُؤْمِن كشرط لإعلان الخلافة.

وبخلاف انتشاره السريع، كان العنف غير المسبوق الذي مارسه داعش ضد غير المسلمين، أو ضد من يخالفونه من المسلمين، سببًا في تشكيل تحالف دولي واسع ضده لمواجهته ومنع تمدده، كما تسببت كثافة التغطيات الإعلامية لجرائمه في تراجعه السريع أيضًا في الحواضن الشعبية التي تحمست لدعمه تحت وهم استعادة الخلافة الإسلامية. 

وبرغم أن المعارك الدائرة حتى اليوم للقضاء على داعش في سوريا والعراق، وكذلك تعرض الآلاف من أتباعه للمحاكمات والإعدامات في أكثر من بلد على مستوى العالم؛ إلا أن قدرته على جذب الآلاف لأفكاره لا تزال قائمة، ولكن تبقى المسألة مجرد وقت حتى يبدأ التنظيم في التحلل والتفتت وتبدأ أفكاره في الانزواء ولو إلى حين.

مسار محتوم:

تنطلق كل الأصوليات العنيفة من مبدأ أن الحضارة الإنسانية قد شوهت الفطرة التي خلق الله العالم عليها، وأن كارثة محققة يجب أن تدمر هذا العالم، وأن دور الجماعات المخلصة لله هي أن تصلح هذا العالم أو أن تُسهم في إفنائه تمهيدًا لعودة الطائفة المؤمنة لإقامته من جديد على الأسس نفسها التي بدأت بها الخليقة، كما يزعمون.

على أن هذه الجماعات الأصولية تأخذ دورتها من التبشير إلى العزلة عن المجتمع ثم التحول باتجاه العنف للتعجيل بالخلاص ونهاية العالم الذي يكون نقطة لتحللها دون أن تختفي استعدادًا للصعود مجددًا عند تهيؤ الظروف لذلك.

ويبقى أن ثمة مسارًا محتومًا تسير فيه كل الأصوليات العنيفة مهما كان مصدرها العقيدي أو الثقافي، وهو مسار لا يعطي لها أملا حقيقيًّا في تحقيق أهدافها المتخيلة، ولكنه يفرض استنزافًا مستمرًّا لكل المجتمعات البشرية التي ما تزال عواطفها جياشة تجاه فكرة استعادة زمن الطهر والنقاء، بتمكينه لجماعات العنف من استغلال هذه السمة لنشر الأفكار المحرضة على العنف والإرهاب.