أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • صدور دراسة جديدة بعنوان: (تأمين المصالح الاستراتيجية: تحولات وأبعاد السياسة الخارجية الألمانية تجاه جمهوريات آسيا الوسطى)
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية

تدخلات الخصوم:

اتجاهات تزايد التهديدات السيبرانية للانتخابات الرئاسية الأمريكية

06 سبتمبر، 2024


مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقررة في 5 نوفمبر 2024، وفي الوقت الذي تتجه فيه أنظار العالم أجمع إلى الداخل الأمريكي لمتابعة وقائع ومستجدات السباق الرئاسي، يتجدد الاهتمام بالتهديدات السيبرانية التي تستهدف الحملتين الانتخابيتين الديمقراطية والجمهورية على حد سواء؛ وهو ما يسلط الضوء على التأثير المُحتمل لتلك التهديدات في مجريات الانتخابات الأمريكية الحالية في ظل التُّهم بوجود تدخلات دولية تسعى للتأثير في نتائجها.

اختراق الحملتين: 

بالتزامن مع توقيت اختيار الرئيس السابق والمرشح الجمهوري الراهن دونالد ترامب مرشحه لمنصب نائب الرئيس في شهر يونيو 2024، وحسب شركة "مايكروسوفت"، تمكّنت جماعة قرصنة تديرها وحدة استخباراتية تابعة للحرس الثوري الإيراني من اختراق البريد الإلكتروني للمستشار السياسي والشخصية العامة المشهورة، روجر ستون، أحد كبار المساعدين السابقين في حملة ترامب الانتخابية لعام 2020، والذي سبق أن عمد إلى تعظيم الضرر الذي لحق بحملة المرشحة الرئاسية السابقة هيلاري كلينتون. ومن بريده الإلكتروني، أُرسلت رسائل مزيفة تُعرف باسم "التصيد بالرمح" إلى مسؤول رفيع المستوى في حملة ترامب الرئاسية الراهنة، كجزء من جهد مستمر للوصول إلى شبكات الحملة وقواعد بياناتها.

ووفقاً لشركة "مايكروسوفت"، فإن مجموعة القرصنة المعروفة باسم "مينت ساندستورم" تقف وراء محاولة الاختراق التي أُرسلت بموجبها رسائل بريد إلكتروني مُزيفة للتسلل إلى حسابات وقواعد بيانات الحملة الرئاسية لترامب؛ بهدف الوصول بنجاح إلى الاتصالات الداخلية لأشخاص آخرين فيها وتعطيل العملية الديمقراطية ونزع الشرعية عنها. وتواصلت شركة "مايكروسوفت" ثم مكتب التحقيقات الفدرالي مع ستون، لإبلاغه أن بريده الإلكتروني تعرض للاختراق. وفي أعقاب ذلك، أعلن ترامب أن "مايكروسوفت" أبلغت باختراق الحكومة الإيرانية لحملته دون أن يتمكن القراصنة من الحصول على أي معلومات سرية، وهو الاختراق الذي أرجعه ترامب إلى إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن التي وصفها بالضعيفة.

وفي أعقاب ذلك، تعرضت حملة ترامب لقرصنة إلكترونية، قام على إثرها حساب (AOL) مجهول مُستخدماً اسم "روبرت" المستعار، بتسريب وثائق داخلية للحملة الانتخابية إلى وسائل الإعلام الأمريكية، وكانت إحداها عبارة عن أبحاث أُجريت للتحقق من خلفية جيه دي فانس، المرشح الجمهوري لمنصب نائب الرئيس مع ترامب، ويبدو أنها أُعدت قبل وقت طويل من اختيار ترامب له، وتحديداً في 23 فبراير الماضي. وعلى خلفية ذلك، بدأ موقع "بوليتيكو" الإخباري في تلقي أولى الرسائل الإلكترونية التي احتوت على عدة وثائق في 22 يوليو الماضي، كما تسلمت صحيفة "واشنطن بوست" ملف فانس في 8 أغسطس الماضي.

ونسبت وكالات الاستخبارات الأمريكية الاختراق إلى إيران؛ بسبب تطابق تقنيات المتسللين مع تقنيات إحدى المجموعات ذات الصلة بالحرس الثوري. وتأكيداً لذلك، أشار المتحدث باسم حملة ترامب الرئاسية، ستيفن تشيونغ، في 10 أغسطس الماضي، إلى أن مصادر أجنبية معادية للولايات المتحدة قد حصلت على عدة وثائق؛ بهدف التدخل في الانتخابات الرئاسية المقبلة ونشر الفوضى في العملية الديمقراطية الأمريكية. وأشار صراحةً إلى قيام عملاء إيرانيين بتكثيف محاولاتهم للتأثير في الانتخابات الرئاسية الأمريكية ومراقبتها من خلال إنشاء منافذ إخبارية مزيفة تستهدف الناخبين الليبراليين والمحافظين. وأكدت الحملة للصحفيين أن نشر الوثائق أو الاتصالات الداخلية يجعلهم ينفذون أوامر أعداء الولايات المتحدة ويفعلون بالضبط ما يريدون.

جدير بالذكر أن وسائل الإعلام الأمريكية التي تلقت الوثائق قررت عدم نشرها، والتركيز بدلاً من ذلك على الاختراق نفسه ودوافعه ومرتكبه، فلم تتعامل أي منها مع الوثائق المسربة بوصفها محتوى حصرياً "من أجل النشر". وفي السياق ذاته، أكدت كيلي ماكبرايد، المحررة العامة في الإذاعة الوطنية، أن الولاء الأساسي للصحفيين هو لجمهورهم وتزويده بالمعلومات التي يريدها ويحتاجها، دون أن تتسبب في تقويض استقرار البلاد بأكملها. كما شبهت صحيفة "واشنطن بوست" هذا التسريب بالاختراقات الروسية لرسائل البريد الإلكتروني الخاصة بالحملة الديمقراطية عام 2016؛ ما يضع المؤسسات الإعلامية تحت اختبار حقيقي بشأن أفضل السُبل لتغطية أخبار الاختراق المزعوم.

ومن جانب آخر، استُهدفت حملة المرشحة الديمقراطية للانتخابات الرئاسية، كامالا هاريس، من قِبل قراصنة أجانب. ووفقاً لصحيفة "واشنطن بوست"، تلقى ثلاثة من موظفي حملة "بايدن-هاريس" رسائل بريد إلكتروني على خلفية تصيد احتيالي؛ يستهدف منه المتسلل الوصول إلى رسائل البريد الإلكتروني على نطاق واسع، وإن أصرت حملة هاريس على أن إجراءات الأمن السيبراني الخاصة بها حالت دون اختراق أنظمتها؛ ولاسيما أن لديها إجراءات وتدابير أمنية قوية. 

وحقّق مكتب التحقيقات الفدرالي في جهود اختراق حملة "بايدن-هاريس" في الفترة التي سبقت انسحاب بايدن من السباق الرئاسي. وأعلن مكتب التحقيقات الفدرالي ومكتب مدير الاستخبارات الوطنية (ODNI) ووكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية (CISA)، في 12 أغسطس الماضي، أن الحكومة الإيرانية حاولت الإضرار بحملة "هاريس-بايدن"، ما يُمثل دليلاً قوياً على جهود طهران لمحاولة التأثير في الانتخابات الحالية، مع تأكيد أن هذا النهج الذي تتبعه إيران ليس جديداً. 

وتأكيداً للتورط الإيراني، أشار التقرير الصادر عن شركة "جوجل"، في 14 أغسطس الماضي، إلى أن الجهود الإيرانية لاختراق الحملات الرئاسية الأمريكية مستمرة على نطاق واسع، وأن مجموعة القرصنة التي تُعرف باسم (APT42) والمرتبطة بالحرس الثوري الإيراني حاولت اختراق الحملتين الانتخابيتين والتسلل لحسابات البريد الإلكتروني لشخصيات ومنظمات رفيعة، بما في ذلك المسؤولين الحكوميين الحاليين والسابقين، والحملات السياسية، والدبلوماسيين، والأفراد الذين يعملون في مراكز الأبحاث، بجانب المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الأكاديمية، و12 شخصاً مرتبطين بالرئيس بايدن وترامب، وأن المجموعة الإيرانية وضعت قائمة بأسماء مسؤولين حكوميين حاليين وسابقين لاستهدافهم، بعد أن سبق لها إظهار القدرة على القيام بعدد من حملات التصيد الاحتيالي المتزامنة.

بدورها، أعلنت شركة "ميتا"، في 23 أغسطس الماضي، أن مجموعة القرصنة (APT42)، التي يُزعم ارتباطها بالحكومة الإيرانية، ويُعتقد أنها استهدفت الحملتين الرئاسيتين الراهنتين، حاولت مهاجمة حسابات "واتساب" لأفراد مرتبطين بكل من بايدن وترامب. واكتشفت الشركة أن مجموعة من القراصنة تظاهروا بأنهم وكلاء دعم فني لشركات تقنية كبرى، بما في ذلك "مايكروسوفت" و"جوجل"، بعد أن أبلغ عنهم أفراد تلقوا رسائل مشبوهة على تطبيق "واتساب"؛ ما دفع "ميتا" إلى حظر بعض الحسابات ومشاركة مخرجات التحقيق مع جهات إنفاذ القانون.

ومن جانبها، نفت إيران ما وصفته بالمزاعم الواردة حول دورها في اختراق الحملات الانتخابية الأمريكية، مؤكدة أن الحكومة الإيرانية ليس لديها أي غرض أو دافع للتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حسبما ذكرت وكالة "إرنا" يوم 11 أغسطس الماضي.

تهديدات متزايدة:

إلى جانب ما سبق، تتعدد المؤشرات الدالة على تنامي التهديدات السيبرانية للانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024، وهي المؤشرات التي يمكن الوقوف على أبرزها من خلال النقاط التالية:

1- استهداف الانتخابات التمهيدية: شهدت الانتخابات التمهيدية لبعض الولايات الأمريكية تهديدات عدة. ففي إبريل الماضي، تعرض مكتب الانتخابات التابع للسلطة المحلية بولاية جورجيا لهجوم سيبراني أجبره على قطع الاتصال بنظام تسجيل الناخبين بالولاية كإجراء احترازي. كما ظهرت مكالمات روبوتية تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي في ولاية نيو هامبشاير قبل الانتخابات التمهيدية الرئاسية للولاية؛ فبدت المكالمات الآلية وكأنها من الرئيس بايدن، وقال فيها: "أصواتكم مُهمة للحزب الديمقراطي، لا تذهبوا للاقتراع يوم الثلاثاء المقبل (الانتخابات التمهيدية)، وفروا طاقاتكم للاقتراع في نهاية نوفمبر المقبل"؛ وهو ما استوجب تدخل لجنة الاتصالات الفدرالية والمحققين وإصدار أوامر لإيقاف بعض شركات الاتصالات المتورطة. وسلطت تلك الواقعة الضوء على خطورة استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر المعلومات المضللة وتقويض حقوق التصويت.

2- تعدد مصادر التهديد: وفقاً لوكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية، فإن التقدم الاستثنائي لخصوم الولايات المتحدة يُثير مخاوف من احتمال استهداف الأنظمة الانتخابية؛ وهي الأنظمة التي تشمل قواعد بيانات الناخبين كونها عُرضة للاختراق والتلاعب، ومواقع الويب الحكومية والمحلية المُعرضة لهجمات وقف الخدمة والتصيد الاحتيالي وبرامج الفدية، وأنظمة البريد الإلكتروني الحكومية والمحلية، والشبكات المحلية التي تعتمد عليها مكاتب الانتخابات في الوظائف اليومية التقليدية؛ ومن ثم، تُواجه الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة جملة من التحديات الأمنية، منها الهجمات السيبرانية المُحتملة من قِبل الحكومات الأجنبية، وعصابات برامج الفدية الإجرامية، والتضليل الانتخابي الذي قد يؤدي إلى تقويض ثقة الجمهور، والتصيد الاحتيالي الذي قد يؤدي إلى زيادة عدد بطاقات الاقتراع الغيابية، والقرصنة ورشوة أو ابتزاز مسؤولي الانتخابات، وغير ذلك. 

3- محاولات اختبار آراء الناخبين: دفع كلينت واتس، المدير العام لمركز تحليل التهديدات في شركة "مايكروسوفت"، في إبريل الماضي، بأن الصين تستخدم حسابات وهمية على وسائل التواصل الاجتماعي لاستطلاع آراء الناخبين الأمريكيين حول القضايا الخلافية للتأثير في نتيجة الانتخابات المقبلة، كي تأتي لصالحها. ووفقاً له، بدأت حسابات وسائل التواصل الاجتماعي الخادعة التي يديرها بعض الأشخاص التابعين للحزب الشيوعي الصيني في طرح أسئلة مثيرة للجدل حول بعض القضايا المحلية مثل: خروج القطار عن مساره في كنتاكي في نوفمبر 2023، وحرائق الغابات في ماوي في أغسطس 2023، وتعاطي المخدرات في الولايات المتحدة، وسياسات الهجرة، والتوترات العرقية؛ وذلك لجمع المعلومات الاستخباراتية حول التركيبة السكانية وتوجهات الناخبين وملامح التصويت المُحتمل في الانتخابات الرئاسية. 

4- انتشار مقاطع مفبركة بالذكاء الاصطناعي: أثارت تقنية استنساخ الصوت بالذكاء الاصطناعي التي تم استخدامها مؤخراً لتقليد صوت هاريس في مقطع فيديو ساخر، تساؤلات عدة عن كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي لنشر معلومات مضللة عن الانتخابات. فقد اكتسب الفيديو اهتماماً واسع النطاق عندما شاركه الملياردير إيلون ماسك على منصته "إكس" في 26 يوليو الماضي، دون وصفه بأنه مضلل. وأبرز ذلك كيف يشكل التزييف العميق وما يتصل به من صور ومقاطع فيديو معدلة بالذكاء الاصطناعي، مصدر قلق متزايد في الانتخابات الحالية.

5- التخوف من تدخلات دولية: حذّر مكتب التحقيقات الفدرالي في مناسبات عدة من تدخل الدول الأجنبية في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. فوفقاً لشركة "مايكروسوفت"، هناك محاولات صينية وروسية للتأثير في الانتخابات الحالية، وإن وظفت بكين برامج تستخدم وسائل التواصل لإثارة النقاشات حول قضايا حساسة؛ فإن الجهود تركز الروسية بشكل كبير على نشر معلومات مضللة حول أوكرانيا وعلاقتها بالأجهزة الاستخباراتية الأمريكية. وسبق أن أطلقت شركة الأمن السيبراني الأمريكية (CrowdStrike)، في فبراير الماضي، تحذيراً من التدخلات الدولية المُحتملة في الانتخابات الأمريكية، مع الإشارة، على سبيل التحديد، إلى بعض القراصنة الإيرانيين. ففي تقريرها السنوي، توقعت الشركة تدخلاً إيرانياً مُحتملاً في الانتخابات الحالية قياساً على عمليات المعلومات التي قام بها قراصنة مدعومون من طهران في أواخر أكتوبر 2020، قبل أسابيع قليلة من الانتخابات الرئاسية الأمريكية الماضية، والتي أرسلوا فيها رسائل بريد إلكتروني، زعموا فيها أنهم يمثلون مجموعة سياسية أمريكية يمينية متطرفة، ووجهوا الناخبين للتصويت لمرشح معين. 

بين التهوين والتهويل:

هناك اتجاهان متباينان على صعيد الأمن السيبراني للانتخابات الرئاسية الأمريكية الحالية، وهما على النحو التالي: 

1- الاتجاه الأول: يربط دُعاة هذا الاتجاه بين الاختراقات/ التهديدات السيبرانية سالفة الذكر والأمن القومي الأمريكي، في ظل تصنيف أنظمة الانتخابات على أنها بنية أساسية حرجة، يتحتم منحها الأولوية من ناحية، وتعدد التهديدات الاستراتيجية المركبة والمتصاعدة في العصر الرقمي، وسط مخاوف من تكرار الأساليب نفسها أو توظيف أساليب جديدة، قد تُفضي إلى هجمات أكثر خفاءً وتدميراً للبنية التحتية للانتخابات من ناحية أخرى؛ ومن ثم، تلوح في الأفق احتمالية استخدام تقنيات إلكترونية على شاكلة رسائل البريد الإلكتروني المزيفة، واختراق قواعد بيانات تسجيل الناخبين، وغير ذلك.

واتصالاً بذلك، يُلوّح أنصار هذا الاتجاه بشبح "الحرب السيبرانية" من قِبل جهات تابعة لدول مُعادية، ولاسيما أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية هي أكبر الأهداف الاستراتيجية المُحتملة في العام الجاري؛ لذا، ستُوليها جماعات القرصنة والهواة والمحترفين وأجهزة الاستخبارات الدولية اهتماماً متزايداً؛ لما لها من أهمية استراتيجية بالنظر إلى قوة ومكانة الولايات المتحدة عالمياً، وحجم الاقتصاد الأمريكي، من بين أمور أخرى.

وعلى الرغم من توظيف أفضل أنظمة الأمن السيبراني، فإن الخطأ البشري قد يُشكّل تهديداً مُتصاعداً للانتخابات الأمريكية، في ظل وجود شبكة واسعة من مسؤولي الانتخابات والمتطوعين والمشاركين في الحملات الرئاسية. فقد يقع أحد مسؤولي الانتخابات ضحية لحملة مُمنهجة لسرقة المعلومات أو لبرامج الفدية أو لبرامج سرقة المعلومات الخبيثة أو لهجمات التصيد الاحتيالي، وغير ذلك من تكتيكات "الهندسة الاجتماعية"؛ ما قد يُهدد أمن وسلامة قواعد بيانات الناخبين حال تعرضت لاختراقات أو تسريبات عبر شبكات غير آمنة؛ إذ يَسهل سرقتها واستغلالها بصرف النظر عن درجة إحكام التدابير الأمنية المُستخدمة.

كما أن الانتخابات الرئاسية الأمريكية ليست استثناءً من التهديدات العالمية التي طالت العمليات الانتخابية في عدة دول، منها: بولندا التي شهدت في نهاية عام 2023 زيادة في الهجمات السيبرانية على خلفية انتخاب حكومة مؤيدة لأوكرانيا، والمكسيك التي تعرض فيها أحد المواقع الإلكترونية التابعة لأحد الأحزاب السياسية لهجوم سيبراني عام 2018 في أعقاب إحدى المناظرات التلفزيونية، والمملكة المتحدة التي شهدت تسريب بيانات ملايين الناخبين إلى الصين؛ إذ تُظهر تلك الأمثلة أن التدخل في الانتخابات على اختلافها يُشكّل تهديداً متصاعداً، وأن الانتخابات باتت هدفاً عالمياً يستعصي على أعتى الدول الديمقراطية وأكثرها تقدماً حمايته على النحو المطلوب.

وفي الحالة الأمريكية، لعل الوصول غير المُصرّح به إلى البنية الأساسية للانتخابات والحملتين الرئاسيتين والمعلومات المضللة وتسريب رسائل البريد الإلكتروني إلى الصحافة، بات خطراً مُتنامياً، بعد أن توجّهت أصابع الاتهام الأمريكية إلى إيران التي تمكنت من اختراق حسابات مستشاري المرشحين الرئاسيين، لتُنشر وتُتاح معلومات لم يكن من المُفترض إتاحتها؛ ما سلط الضوء على بعض الديناميكيات الحاكمة للحملتين الرئاسيتين، حتى بات من الضرورة "أمننة" كلتيهما؛ ولاسيما بعد أن أدت التدخلات الروسية في الانتخابات الأمريكية لعام 2016 إلى إضفاء طابع أمني غير مسبوق على الانتخابات الأمريكية من ناحية، وبعد أن شهدت الحملتان الرئاسيتان الراهنتان عدة تهديدات سيبرانية وتدخلات دولية تُلقي بظلالها على مزيد من التهديدات الأمنية المُحتملة من ناحية أخرى.

وقد تكون الاختراقات والتهديدات سالفة الذكر مجرد البداية لتهديدات سيبرانية أكبر، قد تشتد وطأة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، ما قد يُشكّك في نزاهة العملية الانتخابية إذا تسربت معلومات سرية أو حساسة، أو إذا شهدت مزيداً من التدخلات الدولية. وبطبيعة الحال، فإن بعض التصريحات الرسمية وغير الرسمية الأمريكية تُنذر بحدوث ذلك؛ فقد سبق أن غرد كريس كريبس، المدير السابق لوكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية، قائلاً: "مستوى التهديد.. اربط حزام الأمان". فمع كل انتخابات رئاسية، يَلوح شبح التدخل الدولي في الأفق؛ وخاصةً مع الاستخدام الفعلي لتقنيات الذكاء الاصطناعي في حملات التضليل عبر الإنترنت. وفي هذا السياق، وفي ظل قيام شركات التكنولوجيا ومنصات التواصل الاجتماعي واحدة تلو الأخرى بالكشف عن تهديدات سيبرانية طالت الحملتين الرئاسيتين؛ فإن تداول أي أخبار ذات صلة باختراق الحملات الانتخابية كافٍ لإثارة شكوك الناخبين في البيئة السياسية الحالية وإرباكهم واستقطابهم والتأثير في توجهاتهم السياسية.

2- الاتجاه الثاني: يُقلّل أنصار هذا الاتجاه من شأن الاختراقات/ التهديدات السيبرانية التي شهدتها الحملتان الرئاسيتان مؤخراً؛ لأسباب عدة، منها أن التدخل في الانتخابات الأمريكية ليس بالأمر الجديد، ولا يقتصر على الحالة الأمريكية، كما أن الولايات المتحدة لا تزال قادرة على حماية عملياتها الديمقراطية الرقمية مع اتجاه البلاد إلى تعزيز تدابير أمنها السيبراني بشكل عام وأمن الانتخابات بشكل خاص؛ إذ تتعدد الآليات والنُّهُج المُستخدمة لحماية الأنظمة الانتخابية ومنع الاختراقات الإلكترونية من التأثير في أمن ومرونة الأنظمة المُستخدمة. وهذا ما أكدته كايت كونلي، المستشارة الأولى لوكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية، بقولها: "بينما تظل برامج الفدية مصدر قلق كبير للأمن السيبراني، من المهم ملاحظة أن التدابير الأمنية التي وضعها مسؤولو الانتخابات تضمن عدم تأثير هذه الحوادث في أمن أنظمة وعمليات الإدلاء بالأصوات أو فرزها". 

وبشكل عام؛ فإن الأساليب التي تتّبعها وكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية لدعم الأنظمة الانتخابية الرئاسية، تندرج تحت ثلاث فئات هي: تبادل المعلومات لتعزيز الاتصال والتنسيق بشأن التهديدات المُحتملة والفعلية عبر المستويات الفدرالية والمحلية، والتدريب المجاني على أفضل الممارسات وأعقد التهديدات، والخدمات التطوعية المجانية بما في ذلك تقييمات الأمن ومساعدة إدارة الحوادث ومسح أنظمة الانتخابات بحثاً عن نقاط الضعف. واتصالاً بذلك، أصدر مكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة الأمن السيبراني وأمن البنية التحتية، إعلاناً مشتركاً، أكدا فيه أن هجمات الفدية ضد الشبكات المحلية أو الشبكات الحكومية أو البنية التحتية للانتخابات لن تُعرّض أمن أو دقة عمليات الإدلاء بالأصوات أو فرزها للخطر، وأن الأجهزة الأمنية ستتعقّب أي هجوم ناجح ببرامج الفدية على البنية التحتية للانتخابات. 

كما يدفع أنصار هذا الاتجاه بأن اختراق رسائل البريد الإلكتروني للحملات الانتخابية الأمريكية ونشر المعلومات السرية، وإن كان مؤسفاً فإنه لا يستحق التهويل، لأن الأخير هو الذي سيتسبب في تقويض الثقة العامة في العملية الانتخابية. وإدراكاً لهذا المعنى، تعاملت الصحافة الأمريكية والمنافذ الإعلامية مع المواد المُسرّبة بحذر شديد، ولاسيما أنها أتت بطرق غير مشروعة، فوازنت بين مدى صحتها وقيمتها الإخبارية من ناحية، والدور الذي ستؤديه إعادة نشرها في تحقيق أهداف الأطراف الخارجية من ناحية أخرى. ولعل تلك الدرجة من سياسة "ضبط النفس" إنما تعكس في جوهرها أن تلك الأطراف الخارجية إنما تُعوّل في تحقيق أهدافها على كيانات ومؤسسات داخلية قد تُفاقم بنفسها الآثار التخريبية؛ لذا، فإن تلك السياسة قد تصبح إحدى أدوات "الردع بالإنكار" في ظل تجاهل أهداف الخصم وعدم تحققها.

وإن تمثل أحد أهم أهداف خصوم الولايات المتحدة في التلاعب بالرأي العام أو تشويه سُمعة العملية الانتخابية أو تقويض الثقة في المؤسسات الديمقراطية الأمريكية؛ فإن ذلك الهدف قد يتحقق نتيجة صراعات إعلامية محلية واستقطابات حزبية بمعزل عن الفضاء السيبراني. ويمكن الاستدلال على ذلك بتشكيك ترامب في نتائج الانتخابات الأمريكية 2020. كما لا يتضح بعد كيف يمكن للتدخل الأجنبي أن يؤثر في مشاعر وسلوك الناخبين في ظل رسوخ قناعاتهم وميولهم الحزبية؛ إلى حد الدفع بأن ذلك التدخل لن يعدو كونه عاملاً مشوشاً وليس عاملاً حاكماً. 

وقد دفعت الدروس المستفادة من الانتخابات الرئاسية لعام 2016، المسؤولين الأمريكيين إلى تبني سياسة الشفافية في تعاملهم مع التهديدات السيبرانية الراهنة. فإذا كانوا قد أصدروا عام 2016 بياناً مكوناً من ثلاث فقرات قبل شهر واحد من الانتخابات؛ ليؤكد فحسب وجود مساعٍ روسية للتدخل في عملية التصويت؛ فقد تبنوا في العام الجاري استجابة صريحة وسريعة لتسمية الفاعل وإلقاء اللوم على إيران، إدراكاً بأن إتاحة المعلومات قد تُساعد على إحباط جهود وأهداف خصوم الولايات المتحدة، وتجنباً للانتقادات التي تعرض لها المسؤولون المكلفون بتأمين الانتخابات عندما أخفوا معلومات حساسة، وتعويلاً على أهمية توعية الشعب الأمريكي بهذه التهديدات على نحو أفضل من قبل العديد من وكالات الاستخبارات والأمن القومي.

ختاماً، لا شك في تزايد حدة التوتر في السباق الرئاسي الأمريكي الذي يشهد بالفعل فيديوهات مبركة واختراقات سيبرانية وتسريبات صحفية، والذي تُكثف فيه أجهزة الاستخبارات والخبراء التقنيون والشركات التكنولوجية جهودها لتحليل ما يعتريه من تهديدات فعلية ومُحتملة، والذي تتزايد فيه التُّهم والمخاوف الأمريكية من تدخلات دولية وتحديداً روسية وصينية وإيرانية، قد تقوض مصداقية الانتخابات؛ ليظل التطور الدائم والمضطرد في التقنيات التكنولوجية؛ ولاسيما الذكاء الاصطناعي من ناحية، بجانب الطبيعة المعقدة للتهديدات السيبرانية؛ وخاصةً إذا نجمت عن جماعات قرصنة تحظى بدعم دولي وتتمتع بمهارات متقدمة من ناحية أخرى؛ أحد أسباب إضافة مستوى أكثر تقدماً من التعقيد إلى مشهد الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2024 المُعقد بالفعل.