أكدت الاحتجاجات التي شهدتها إيران في شهري ديسمبر 2017 ويناير 2018، أن هناك خللًا مزمنًا يواجه الشرعية السياسية والدينية للنظام الحاكم منذ عام 1979. ففي كل عقدٍ يواجه هذا النظام أزمة كبيرة يتعامل معها عبر سياسة "القوة والتسكين"، كما حدث في عام 2009 فيما عُرِف باسم "الثورة الخضراء"، ولكن الاحتجاجات الأخيرة سوف تترك عدة دلالات وتداعيات مهمة بالنسبة للنظام الإيراني، يمكن القول إنها سوف تكون مختلفة نسبيًّا عن سابقتها.
كانت هذه خلاصة حلقة نقاشية نظمها "مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة"، يوم 18 يناير 2018، تحت عنوان: "ما بعد احتجاجات إيران.. التداعيات الداخلية والخارجية المُحتملة"، والتي قدم ورقة العمل الرئيسية بها الأستاذ "محمد عباس ناجي"، رئيس تحرير مجلة "مختارات إيرانية" بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. وخلُص النقاش إلى النتائج التالية:
آليات تعامل النظام:
استطاع النظام الحاكم في إيران التعامل مع الاحتجاجات الأخيرة من خلال آليات مرنة نسبيًّا مقارنة بأحداث سابقة، خاصة وأنه استوعب دروس مظاهرات عام 2009؛ حيث انتهج العديد من الخطوات، ومن أبرزها: فرض قيود على تدخل الحرس الثوري، والاعتماد في التعامل مع المتظاهرين -بدلًا من ذلك- على قوات الأمن والباسيج، واتخاذ إجراءات اقتصادية عاجلة لاستيعاب بعض مطالب المحتجين، والتمكن من إغلاق أبرز مواقع التواصل الاجتماعي التي اعتمد عليها المحتجون، وتحديدًا "تليجرام"، حيث اتفق النظام مع الشركة التي تدير هذا الموقع، وهي شركة روسية، على أن يكون لها مكتب داخل إيران يُحوّل بيانات المتعاملين مع الموقع إلى طهران، وهو ما مكَّن السلطات من الاطلاع على بيانات الناشطين الذين يقومون بتنظيم الاحتجاجات.
وقد انتهج النظام هذه الآليات المرنة نسبيًّا، نظرًا للتخوف من تكرار أزمة 2009 التي أثرت على شرعيته بشكل قوي، ولأن الاحتجاجات لم يكن هدفها الأول سياسيًّا هذه المرة، بل هي احتجاجات ذات طبيعة مطلبية اقتصاديًّا واجتماعيًّا ارتبطت باستنزاف الأموال في الخارج. ويُدرك النظام أن استخدام الأداة الأمنية فقط لفض الاحتجاجات قد يُشعلها بشكل ينقلها إلى مستوى أعلى.
من جانب آخر، اعتمد النظام الإيراني على هذه السياسات لتزايد اهتمام المجتمع الدولي، خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والمنظمات الحقوقية، بانتهاكات حقوق الإنسان المتكررة في إيران، لا سيما مع فرض عقوبات أمريكية يوم 12 يناير 2018، شملت 14 كيانًا وشخصًا، وُجهت ضد بعضهم اتهامات بارتكاب انتهاكات في هذا الشأن، ومن بينهم رئيس السلطة القضائية "صادق لاريجاني"، أحد صقور تيار المحافظين الأصوليين، وشقيق "علي لاريجاني" رئيس مجلس الشورى، وأحد المرشحين لخلافة المرشد "علي خامنئي".
دلالات رئيسية:
كشفت الاحتجاجات الأخيرة عن بعض الدلالات المهمة، أبرزها ما يلي:
1- سقوط التابوهات: فقد كان لافتًا في هذه الاحتجاجات التشكيك في شرعية النظام وقدسية المرشد الأعلى الدينية والسياسية، بعد الهتاف بسقوطه وحرق صوره في العاصمة والمحافظات المختلفة، بشكل لم تعتد عليه إيران في المراحل الماضية. كما أن الاحتجاجات انطلقت من المناطق الريفية البعيدة عن العاصمة، وقادها محتجون من الطبقة الدنيا بسبب ارتفاع أسعار السلع الغذائية ورفع الدعم جزئيًّا عن الوقود وغيره؛ وبالتالي لم تقتصر على التنديد بسياسات النظام في الداخل والخارج، ولكن طالبت أيضًا بإنهاء تركز الثروة في نخبة رجال الدين الذين ينتمون للطبقتين الوسطى والعليا في المجتمع؛ في انعكاس مباشرٍ لبروز ظاهرة ما يُعرف بـ"Ayadollar" بدلًا من "Ayatollah"، والتي تعبر عن النفوذ الذي يمتلكه رجال الدين، والفساد المستشري داخل مؤسسات الدولة.
2- تباين موقف القوميات: فقد شارك الأكراد والعرب في الاحتجاجات، ولكن عزف عنها "الأذريون"، وكذلك لم تتدخل الجماعات البلوشية والكردية المُسلحة لاختلاف مطالب المحتجين عن مطالبهم، وأيضًا بسبب ادعاءات النظام الإيراني أنه قد جرى التخطيط للاحتجاجات في شمال العراق؛ ما يعني تعرضهم لضربات أمنية أخرى من النظام، رغم عدم ثبوت صحة ادعاءات النظام.
3- تراجع دور المعارضة المسلحة في الخارج: إذ لُوحظ ضعف تأثير حركة "مجاهدي خلق"، وفشل المعارضة في إقناع القوى الدولية بتغيير سياستها تجاه نظام الحكم في إيران، بل وكبر سن زعامات المعارضة بما يقلص من دورهم في أي عملية تغيير سياسي قد تحدث.
تحولات مُحتملة:
تترك هذه الاحتجاجات العديد من التداعيات الداخلية المُحتملة داخل إيران، ومنها ما يلي:
1- ضغوط قوية على الرئيس الإيراني "حسن روحاني"، وذلك من جبهات عديدة، أبرزها من المرشد الأعلى للجمهورية، والحرس الثوري، وتيار المحافظين الأصوليين والمحافظين التقليديين، وكذلك من أنصاره كما برز في "حملة نادمون"، بل وأيضًا من تيار المعتدلين خاصة من الإصلاحيين المؤمنين بولاية الفقيه.
2- تنافس بين "روحاني" و"الحرس الثوري"، إذ يمكن القول إن دور "الحرس الثوري" أصبح أمام اختبارات صعبة؛ فالحكومة قد تستغل هذه الاحتجاجات للدعوة إلى تقليص دور "الحرس" في الاقتصاد، بينما سيعمل "الحرس" على استغلال الأحداث لصالحه وتعزيز دوره بشكل أكبر، لا سيما وأنه قد ثبتت فاعلية تدخله المتأخر للقضاء على الاحتجاجات.
3- حدوث فرزٍ جديدٍ داخل تيار المحافظين ذاته، إذ تعزز هذه الاحتجاجات من فرضية حدوث مثل هذا الفرز، ومن أبرز مظاهره: انزواء تيار أحمدي نجاد، وصعود معسكر "الصقور" في التيار استعدادًا للانتخابات الرئاسية القادمة المقررة في عام 2021، وتزايد أدوار بعض رموز هذا التيار خصوصًا "صادق لاريجاني"، وتعرض دور الجيل الأكبر سنًّا من رموز المحافظين الأصوليين للانحسار تدريجيًّا، خاصة وأن "هاشمي شاهرودي" يعاني من مشكلات صحية متوالية، و"أحمد جنتي" متقدم جدًّا في السن؛ هذا علاوة على نشوب صراع بين الجيل الأصغر داخل التيار، من أمثال "إبراهيم رئيسي، وصادق لاريجاني، ومجتبي خامنئي، ومعهم حسن روحاني".
4- استقطاب جديد داخل تيار الإصلاحيين، فثمة تجاذبات قد تحدث داخل هذا التيار، حيث يبحث "الإصلاحيون" عن قائد جديد للتيار، حتى وإن تمسكوا حلال أزمة المظاهرات بالرئيس "روحاني"، والذي قد يتجه لإحداث تغييرات في تشكيلته الحكومية بعد هدوء الاحتاجاجت تمامًا، في ظل توسع نشاط ودور "حملة نادمون" ضده.
من جانب آخر، فإن النظام الحاكم قد يُعيد التفكير في سياسته الراهنة إزاء الإصلاحيين، وذلك بعد موقفهم الداعم للنظام خلال الاحتجاجات، وهو ما برز في موقف الرئيس السابق "محمد خاتمي" الداعم للحكومة، وعزوف الإصلاحيين عن المشاركة في الاحتجاجات، وانتقادهم للتصريحات الصادرة عن واشنطن حول الاحتاجاجات؛ وهذا قد يقود إلى إمكانية فتح ملف الإقامة الجبرية بحق كلٍ من القياديين الإصلاحيين "حسين موسوي" و"مهدي كروبي".
لا تغييرات جذرية:
على الرغم من بروز مطالب للمُحتجين بتوجيه الأموال التي تُنفَق على تمويل حلفاء إيران ووكلائها في الخارج، كما برز في رفع شعارات مثل: "لا غزة ولا لبنان روحي فداء إيران"، و"اتركوا سوريا وركزوا معنا"؛ إلا أنه ليس من الوارد إقدام النظام على تجميد جزءٍ كبيرٍ من هذا الدعم، أو وقفه، في الوقت الراهن، بل على النقيض لا يمكن استبعاد أن يُمعن النظام في تدخلاته الخارجية بشكل أكبر، كردٍّ على الاتهامات التي وجهها بعض مسئوليه وأنصاره إلى عدد من القوى الإقليمية والدولية، بالعمل على تأجيج الاحتجاجات ودعم فرص تطويرها إلى درجة الثورة في وجه النظام، خاصة مع دعوة الولايات المتحدة مجلس الأمن إلى الانعقاد للنقاش حول ملف الاحتجاجات الداخلية الإيرانية.
وعلى أية حال، فإن مطالبة المتظاهرين بوقف دعم النظام لحلفائه في الخارج، قد أثارت جدلًا داخليًّا حول مصادر هذا الدعم، إذ روَّج بعض أنصار النظام بأن قسمًا كبيرًا من هذا الدعم لا يرتبط بالموازنة العامة مباشرة، أو لا يخص أموال الإيرانيين، وإنما تكمن مصادره في أموال الزكاة والخُمس التي يتم الحصول عليها من قبل مراجع دينية وبعض المؤسسات الدينية التي تخدم أهداف النظام في الخارج رغم أنها لا ترتبط به بشكل رسمي، ولكن بعض المعارضين أكدوا أن هذه الادعاءات ليست صحيحة، لأن قسمًا كبيرًا من مصادر تمويل أنشطة تلك المنظمات يعود إلى الميزانية. فعلى سبيل المثال، تم تخصيص 220 مليون دولار في ميزانية عام 2018 للمنظمات الدينية، والتي تُمارس جميعها أدوارًا خارجية.