أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يشارك في "الشارقة الدولي للكتاب" بـ16 إصداراً جديداً
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)

أزمات مُتفاقمة:

كيف يتعامل الجيش الأمريكي مع تحديات التجنيد والانتشار والتسليح؟

04 يونيو، 2024


أشارت وسائل إعلام أمريكية، خلال مايو 2024، إلى أن الجيش الأمريكي خفّض مؤخراً عدد قواته بنحو 24 ألف جندي، في عملية إعادة هيكلة يُزعم أنها ستساعد على القتال في الحروب المستقبلية، وترتبط معظم الوظائف التي تم إلغاؤها بمناصب مكافحة التمرد التي نمت خلال الحروب في العراق وأفغانستان، ولكن الطلب عليها ليس مرتفعاً اليوم، إلا أن هذا القرار أثار العديد من التساؤلات بشأن الأزمات التي تواجه الجيش الأمريكي، والمرتبطة بالتجنيد والتعبئة، والتي تبدو أنها أزمات غير ناجمة عن خصم يهدد الولايات المتحدة الأمريكية، بقدر ما أنها أزمات ذاتية تتعلق بعدم كفاءة السياسات أو خطأ تقديرات الإدارات الأمريكية المتعاقبة.

أزمة التجنيد:  

تواجه القوات المسلحة الأمريكية أزمة تجنيد غير مسبوقة؛ إذ إن مسألة عجز الجيش عن ملء صفوفه مؤشر خطر ستكون له تداعيات أمنية قومية خطرة تستدعي القلق والحذر؛ إذا لم تتم معالجة تلك الأزمة، ولاسيما بعد أن اعترف شيش وزيراني، القائم بأعمال وكيل وزارة الدفاع الأمريكية لشؤون الأفراد والاستعداد خلال ديسمبر 2023، بأن الجيش الأمريكي أخفق في تحقيق أهدافه في التجنيد عام 2023 بمقدار 41 ألف جندي؛ ليواجه في عام 2024 أزمة تجنيد معقدة ومتعددة الأوجه، ترجع بشكل عام إلى سوق العمل التنافسية، وعدم رغبة جيل الشباب "جيل Z" في الالتحاق بالخدمة، فضلاً عن التأثيرات الناجمة عن جائحة "كورونا"، ونقص المعرفة المجتمعية بالجيش أو بعبارة أدق اتساع الفجوة بين الجيش الأمريكي والمجتمع.

والحقيقة أن منظومة الالتحاق بالخدمة العسكرية تعاني من أوجه قصور وإهمال منذ عقود، ويرجع ذلك في الأساس إلى أن التجنيد في الولايات المتحدة الأمريكية ليس إجبارياً؛ إذ حوّلت الولايات المتحدة في عام 1973 قواتها المسلحة إلى نموذج قائم على المتطوعين بالكامل، رداً على الاضطرابات المجتمعية الناجمة عن التجنيد الإجباري في حقبة حرب فيتنام. وما زاد الأمر سوءاً هو أنه في تلك الفترة، قامت الحكومة الأمريكية بتقليص برامج الرعاية الاجتماعية الفدرالية، ما تسبب في ندرة الأشخاص المؤهلين الراغبين في الانضمام إلى الجيش، ومع مرور السنوات ومع تراجع الأوضاع المعيشية لبعض السكان، تم تهميش مسألة التجنيد، وأصبحت بعيدة عن اهتمام المواطنين الأمريكيين، وهكذا، فإن التقديرات تُفيد بأنه على مدى أكثر من عامين واجهت فروع الجيش باستثناء مشاة البحرية الأمريكية نقصاً كبيراً في المجندين الجدد، ويرجع ذلك إلى أسباب جوهرية تقف وراء تفاقم تلك الأزمة: 

1. انخفاض أهلية الشباب الأمريكي: تشير أحدث التقديرات إلى أن نحو 77% من الشباب الأمريكي الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و24 عاماً غير مؤهلين للخدمة العسكرية، وهي نسبة تزيد على معدل عدم الأهلية المثير للقلق الذي بلغ 71% في عام 2017؛ ويرجع ذلك إلى عوامل تتعلق بتعاطي المخدرات أو سوء حالة الصحة العقلية أو البدنية، مع التركيز على مشكلة سوء التغذية، والتي أصبحت تتجلى في معضلة زيادة الوزن؛ التي أصبحت مشكلة لا تمثل فقط تهديداً لصحة الأمة الأمريكية، بقدر ما باتت ترتبط بالأمن القومي الأمريكي؛ إذ وجدت الدراسات الحديثة أن الوزن الزائد يحول دون انضمام نحو 11% من الشباب الأمريكي المتطوعين في الجيش للالتحاق بالخدمة. 

وتُضيف الدراسات أن جائحة "كورونا" كان لها تأثير غير مباشر في ارتفاع معدلات السمنة لدى الشباب الأمريكي في الفئة العمرية ما قبل 19 عاماً، فقد يكفي القول إن معدلات السمنة لدى تلك الفئة ارتفعت من 19% في أغسطس 2019 إلى 22% في أغسطس 2020.

2. انخفاض الثقة في المؤسسة العسكرية الأمريكية: يعتقد المراقبون أن الجيش الأمريكي فشل في تحقيق أهدافه في التجنيد، ليس بسبب بيئة السوق المليئة بالتحديات، بل لأن قسماً كبيراً من الرأي العام الأمريكي فقد الثقة فيه ولم يعد يرى فيه مؤسسة تستحق الاستثمار الشخصي؛ إذ بات يمكن لأي شخص يفكر في الالتحاق بالخدمة اليوم أن ينظر إلى أمثلة لا تُعد ولا تحصى لفشل الجيش في الوفاء بالتزاماته، ولاسيما فيما يتعلق بالافتقار إلى السكن الملائم والآمن للجنود، أو استمرار الاعتداء الجنسي، أو عدم القدرة على معالجة ارتفاع معدلات الانتحار أو حتى تطوير اختبار شامل للياقة البدنية. 

وعلى الرغم من أن أوجه القصور تلك كارثية؛ فإنها تتضاءل مقارنة بالفشل النهائي للجيش الأمريكي المتعلق بالحروب، فعلى مدى العقدين الماضيين، جاء هذا الفشل بتكلفة كارثية: من حيث سقوط ما يقرب من 900 ألف من الضحايا، ووفاة أكثر من 7 آلاف من أفراد الخدمة الأمريكية، واستنزاف ثمانية تريليونات دولار. ولا شك في أنه لا يمكن للأمريكيين أن يتجاهلوا تأثير الحروب الفاشلة، فعلى سبيل المثال، يكفي صدمة الأمريكيين بشأن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عام 2021، والذي ترك طالبان تسيطر على البلاد مجدداً بعد مرور 20 عاماً من الوجود الأمريكي هناك؛ الأمر الذي ترك المجتمع الأمريكي يتساءل عن جدوى الحروب الأمريكية سواء في أفغانستان أم العراق. 

3. تعقيدات النظام الصحي العسكري: يُعد أحد المعوقات التي تحول دون سهولة الالتحاق بخدمة التجنيد، فقد تم تصميم هذا النظام المعقد بهدف تقليل الاستنزاف الطبي إذا دخل المجند الخدمة، وتخفيف المدفوعات الطبية عن طريق التحديد المبكر لظروف عدم الأهلية، وتقليل الوقت الذي يقضيه مسؤول التوظيف في تعقب الوثائق الطبية؛ ولذا تم تمديد الجداول الزمنية لفترات قد تتجاوز شهرين فأكثر للتأكد من صحة المتقدمين؛ وهو الأمر الذي دفع بعض أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي لتوجيه رسالة إلى وزير الدفاع لويد أوستن؛ للاستفسار عمّا إذا كان النظام الصحي العسكري (MHS Genesis) بات أحد أسباب تأخير عملية التجنيد العسكري، مستشهدين بشكاوى جاءت إليهم في هذا الصدد.

4. اتساع الفجوة بين "جيل Z" والمؤسسات الأمريكية: إن "جيل Z" المولود في الفترة ما بين 1997 إلى 2012، لديه ثقة مُنخفضة في المؤسسات الأمريكية بشكل عام، ويعود ذلك إلى تأثر عملية التنشئة السياسية لهذا الجيل بوسائل التواصل الاجتماعي والعالم الخارجي، فلم يُعد للأسرة أو المدرسة دور كبير في تعليم وتنشئة الشباب على أهمية أدوارهم الوطنية؛ لدرجة أن القائم بأعمال وكيل وزارة الدفاع الأمريكية لشؤون الأفراد والاستعداد قد اعترف مؤخراً بأنه "في عام 1995، كان 40% من الشباب لديهم آباء يخدمون في الجيش، أما في عام 2022، فقد انخفضت النسبة إلى 12% فقط؛ الأمر الذي أسهم في تنامي هوة الانفصال بين الجيش وقطاع كبير من المجتمع". وقد كشف أحد استطلاعات الرأي خلال عام 2022 عن أن أقل من واحد من كل 10 شباب لديه رغبة في الالتحاق بالخدمة العسكرية، مرجعاً ذلك إلى ضعف التثقيف المدني، وعدم ملاءمته مع المراهقين في الولايات المتحدة الذين يحمل بعضهم أراء سلبية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية.

5. إشكالية أيديولوجية: يرى المراقبون أن مشكلة التجنيد لا تتعلق بأزمة تمويلية، بقدر ما أنها أزمة أيديولوجية، فمن ناحية تأثر الأمريكيون بأيديولوجيات مثيرة للانقسام مثل "نظرية الجندر"، و"نظرية العرق الحرجة"، التي "تدمر الروح المعنوية، وتثبط عزيمة المتطوعين المحتملين"، ومن ناحية أخرى؛ فإن نظام المدارس العامة في الولايات المتحدة لا يحفز على تنمية المشاعر الوطنية، بل على العكس، فإن المناهج الدراسية مليئة بالأفكار المناهضة لأمريكا بشكل علني، والتي تبعد الناس عن فكرة الخدمة العسكرية، ولذا يتساءل المراقبون عن كيفية تحفيز الرغبة في الالتحاق بالجيش والقتال من أجل بلد يقال لهم إنه لا يستحق القتال من أجله، مرجحين أن الهوس بالسياسات الراديكالية والتشجيع على الحريات بما في ذلك أزمة الجندر والتحول الجنسي وغيرها؛ أمور حولت هدف الجيش عن مهمته الأساسية؛ ليتلقن الشباب سواء أكان المؤهل للتجنيد أم الذي تم تجنيده بالفعل عقيدة اجتماعية دون الاهتمام بأية عقائد قتالية حماسية؛ مما أدى في نهاية المطاف إلى تقليل عملية تطوع المزيد من الجنود في الجيش الأمريكي.

مُعضلة الانتشار:

تولت إدارة بايدن السلطة، وهي تنوي إنهاء حروب الولايات المتحدة الأمريكية بالخارج؛ إذ وعد بايدن وفريقه بإنهاء تلك الحروب التي لا تخدم الجمهور الأمريكي. وفي عامها الأول، أنهت إدارة بايدن الحرب التي دامت عقدين من الزمن في أفغانستان، وتعهدت بتعديل الحجم الصحيح للوجود العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، وسعت إلى إقامة علاقة "مُستقرة ويمكن التنبؤ بها" مع التركيز على ما يُؤثر بشكل أكبر في المصالح الأمريكية؛ بما في ذلك إدارة المنافسة مع الصين ومعالجة التهديدات العابرة للحدود الوطنية مثل: تغير المناخ والأوبئة.

وعلى النقيض، باتت واشنطن منغمسة الآن في حروب متعددة في أوروبا والشرق الأوسط، بدايةً من دعمها لأوكرانيا في الحرب الروسية الأوكرانية، مروراً بدعمها لإسرائيل في حربها ضد حركة حماس، وصولاً إلى استمرار التوترات بين الحين والآخر في منطقة المحيط الهندي-الهادئ؛ بسبب احتدام التنافس مع الصين، هكذا، باتت الولايات المتحدة الأمريكية تحشد قواتها العسكرية على جميع الجبهات حول العالم؛ مما يؤدي إلى تفاقم نقاط الضعف لدى جيشها الذي قد يُصبح أكثر تشتتاً وانهماكاً.

ووفقاً لأحدث التقديرات الواردة من مصادر وزارة الدفاع الأمريكية، بلغ عدد الأفراد العسكريين المتمركزين في دول أجنبية أكثر من 228.390 بحلول سبتمبر 2023، وتأتي اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية في مقدمة البلدان التي تستضيف قوات الخدمة الفعلية الأمريكية في الخارج. وبالتالي، لا تنتشر القوات الأمريكية بسبب حدوث صراعات فحسب، وإنما اعتماداً على مصالح أمنها القومي، ويمكن أن نلخص ثلاث مناطق نفوذ رئيسية للقوات المسلحة الأمريكية:

1. القارة الأوروبية: يتعزز وجود القوات الأمريكية في أوروبا في ظل التزامها تجاه حلف شمال الأطلسي، كما زادت من عدد قواتها عند اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية؛ إذ أرسلت أكثر من 20 ألف جندي إضافي إلى أوروبا وبشكل خاص في دول أوروبا الشرقية لتعزيز العمليات الجوية والبرية والبحرية والسيبرانية، وبدءاً من يونيو 2022، كان لدى الولايات المتحدة أكثر من 100 ألف جندي في جميع أنحاء أوروبا.

2. الشرق الأوسط: يصف المراقبون الجنود الأمريكيين في منطقة الشرق الأوسط بأنهم يعيشون "تحت خط النار"، فهي ضمن المناطق الأكثر توتراً في العالم، خاصة بعد هجوم حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، والذي رفع من نسب حدوث حرب إقليمية واسعة النطاق. وقد أصدر البنتاغون الأمريكي تقريراً في نهاية يناير الماضي أفاد فيه بأنه منذ هجمات طوفان الأقصى وحتى يناير 2024، قام مسلحون مدعومون من إيران بشن أكثر من 150 هجوماً على قواعد عسكرية تتمركز فيها قوات أمريكية داخل سوريا والعراق. 

وعلى الرغم من أن القوات الأمريكية في سوريا والعراق باتت لا تواجه خطر تنظيم "داعش"، فإنها أصبحت تقع في قلب التنافس بين وكلاء إيران من ناحية، وأطراف محلية ودولية من ناحية أخرى. وبدءاً من يونيو 2023، كان للولايات المتحدة أكثر من 30 ألف جندي في جميع أنحاء الشرق الأوسط، بعد أن كان في وقت لديها أكثر من 100 ألف جندي في أفغانستان وأكثر من 160 ألف جندي في العراق، ومع حالة انخفاض الجنود الأمريكيين في تلك المنطقة، تشير التقديرات الأمريكية إلى أن القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط تواجه تحديات جسيمة في تلك المنطقة؛ لأنها تشرف على أكثر من 4 ملايين ميل مربع في شمال شرق إفريقيا والشرق الأوسط وأجزاء من وسط وجنوب آسيا؛ وهي منطقة يسكنها أكثر من 560 مليون شخص.

3. منطقة المحيطين الهندي والهادئ: تضم أكثر من 375 ألف فرد ما بين عسكري ومدني، موزعين على ما لا يقل عن 66 موقعاً دفاعياً متميزاً، وذلك بحسب تقديرات البنتاغون في يونيو 2023، ولا شك أن مهام القوات الأمريكية في تلك المنطقة مُتشعبة وخطرة، بداية من ردع الصين عن استخدام القوة العسكرية ضد الولايات المتحدة وحلفائها؛ وتعزيز القدرات الدفاعية لتايوان وضمان الرد الأمريكي السريع على غزو الجزيرة؛ وأخيراً إزالة تهديدات الأسلحة النووية والكيميائية والسيبرانية والبيولوجية من شبه الجزيرة الكورية.  

وعلى الرغم من ذلك الانتشار الذي يؤكد هيمنة النفوذ الأمريكي عالمياً؛ فإن لهذا الانتشار جوانب سلبية عديدة: 

1. تكاليف عسكرية طائلة: أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أنه بحلول السنة المالية 2022، وصل إجمالي حجم الإنفاق على حروب ما بعد 11 سبتمبر إلى 8 تريليونات دولار، علماً بأن تلك القيمة تغفل العديد من النفقات؛ بما في ذلك تكاليف الاقتصاد الكلي التي يتحملها الاقتصاد الأمريكي، وتكاليف الفرصة البديلة لعدم استثمار دولارات الحرب في قطاعات بديلة. ولا شك في أن انتشار القوات الأمريكية في الخارج أسهم بشكل غير مباشر في زيادة عجز الميزانية الأمريكية، وزيادة الدين الوطني، وكان له آثار أخرى على الاقتصاد الكلي، مثل رفع أسعار الفائدة على المستهلك.

2. تراجع قوة الردع: بسبب كثرة الانتشار، أصبح خروج القوات الأمريكية من أراضيها أمراً عادياً لا يرهب الخصوم، علاوة على أنه في الوقت الحاضر، بلغ حجم الجيش الأمريكي ما يقرب من نصف الحجم الذي اعتاد أن يكون عليه. علاوة على ذلك، فإن معظم معداته الأساسية بما في ذلك الطائرات والدبابات والسفن في طريقها إلى التقادم؛ إذ يتراوح عمرها بين 30 إلى 40 عاماً، كما تُشير بعض التقارير المتخصصة إلى تراجع في مستوى تدريب الأفراد بمختلف أفرع الجيش.

3. فقدان الثقة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية: على الصعيد الداخلي، يعتقد أكثر من نصف "جيل Z" أن الولايات المتحدة يجب أن تبقى بعيداً عن الشؤون العالمية، وفقاً لاستطلاع مجلس شيكاغو للشؤون العالمية، ويعتقد أكثر من الثلث أن الولايات المتحدة يجب أن تخفض إنفاقها الدفاعي؛ إذ إن الانتشار الخارجي للقوات الأمريكية لن يسفر سوى عن مزيد من التكاليف على ميزانية الولايات المتحدة، وعلى الصعيد الخارجي، تفيد استطلاعات الرأي بأن العديد من المواطنين في دولهم التي تستضيف قواعد عسكرية وقوات أمريكية لديهم تصور سلبي تجاه حكومة الولايات المتحدة، ولا تستبعد ألمانيا وإسبانيا وهولندا من قائمة تلك الدول؛ إذ تنشأ تصورات لدى المواطنين بأن الانتشار الأمريكي ما هو إلا شكل من أشكال الاعتداء على السيادة والتدخل في الشؤون الداخلية للدول.

عواقب التصدير: 

تُعد مسألة تصدير الأسلحة للخارج إحدى وسائل دعم مكانة ونفوذ الولايات المتحدة خارجياً؛ إذ كانت طرفاً في أكثر من 40% من التجارة العالمية للأسلحة على مدى فترة الخمس سنوات الأخيرة، في حين شهدت روسيا انخفاض مبيعاتها في الخارج بأكثر من النصف بسبب الحرب في أوكرانيا، ومع ذلك، فإن لتصدير الأسلحة بكثافة خارج الولايات المتحدة الأمريكية عواقب داخلية، متمثلة في تأثيراتها في حجم تسليح الجيش الأمريكي وعواقب خارجية، تتمثل في تأجيج الصراعات التي قد تؤثر سلباً في الأمن القومي الأمريكي: 

1.على الصعيد الداخلي: يتفق المحللون على أن الفوائد الاقتصادية الناجمة عن تصدير الأسلحة وحدها لا تستحق تقويض الاعتبارات الاستراتيجية والعسكرية؛ ومن ثم يجب إعطاء الأولوية لعملية تقييم المخاطر. في هذا الصدد، حذّرت تقديرات أعدّها باحثون من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في مطلع عام 2023 من أن الجيش الأمريكي قد يواجه سنوات من نقص الذخيرة بسبب الإمدادات المقدمة إلى أوكرانيا ما لم يتم بذل جهود لزيادة التصنيع، وقد اتفق معهم مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، والذي حذّر في يناير 2023 من نقص خطر محتمل في صواريخ ستينغر وجافلين والقذائف من عيار 155 ملم.

2. على الصعيد الخارجي: يحذّر بعض الأمريكيين من أن واشنطن باعت على مدار السنوات الماضية أسلحة إلى دول منخرطة في صراعات مميتة، وإلى دول لديها سجلات مروعة في مجال حقوق الإنسان، وفي بعض الأحيان، كان خصوم الجيش الأمريكي المسلحين يحاربونه بأسلحة أمريكية.  

وإجمالاً، يمكن القول إنه على الرغم من أن الهدف من مبيعات الأسلحة هو تعزيز الأمن القومي الأمريكي والمصالح الأمريكية في الخارج، فإن نتيجتيْن محتملتيْن على الأقل يمكن أن تتسببا في عواقب وخيمة على الولايات المتحدة. أولاهما رد الفعل العكسي؛ إذ يحدث عندما يتحول حليف سابق إلى خصم ويستخدم الأسلحة ضد الولايات المتحدة، والثانية هي التشابك؛ إذ إن مبيعات الأسلحة يمكن أن تجذب الولايات المتحدة إلى مستوى أكبر من التدخل غير المرغوب فيه. 

وفي التقدير، هناك عدّة مؤشرات ترجح استمرار أزمة التجنيد في صفوف القوات الأمريكية، ولاسيما مع اتجاهات الأجيال الجديدة المخالفة للسمت التقليدي للمجتمع الأمريكي، وهو ما سيمثل تحدياً لمسائل الانتشار والردع وضعاً في الاعتبار استمرار الولايات المتحدة في التدخل عالمياً في جبهات مختلفة، وذلك رغم الوعود المتكررة للداخل الأمريكي بتقليص الانتشار؛ وهو ما قد يدفع صانع القرار الأمريكي إما إلى إعادة نوع من أنواع التجنيد الإجباري، أو إلى مزيد من الاعتماد على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي من أجل تعويض النقص البشري.