أخبار المركز
  • إصدارات جديدة لمركز "المستقبل" في معرض الشارقة الدولي للكتاب خلال الفترة من 6-17 نوفمبر 2024
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)

مثالية أم واقعية:

كيف تفكر الولايات المتحدة في استقلال كردستان العراق؟

18 أكتوبر، 2017


في الخامس والعشرين من سبتمبر الماضي صوَّت الأكراد العراقيون لصالح انفصال إقليم كردستان عن بغداد في استفتاء تاريخي تجاوزت نسبة الموافقة عليه 92% من أصل 3,3 ملايين من الذين شاركوا في عملية الاقتراع. 

وإذا كانت نتائج التصويت المؤيِّدة للانفصال، ومواقف القوى الإقليمية والدولية الرافضة له، لم تكن مفاجأة بالنسبة للمتابعين للشأن الكردي؛ فإن موقف الولايات المتحدة بشكل خاص التي عارضت الاستفتاء قبل إجرائه بدا ملتبسًا بالنسبة للبعض، ويحمل تناقضًا غير مفهوم. ففي الوقت الذي تدعم فيه الأكراد فإنها رفضت استقلال إقليم كردستان، واختارت "الحياد"، وعدم الانحياز لأي من طرفي الأزمة بعد سيطرت الحكومة العراقية بمشاركة وحدات من "الحشد الشعبي" على مدينة كركوك بسهولة، داعية الطرفين عدم الدخول في مواجهات عسكرية.

تفسيرات متضاربة:

للوهلة الأولى، يبدو أن منبع الالتباس في تكهن البعض بالموقف الأمريكي تجاه استقلال الإقليم، هو الانطلاق من فرضيات أيديولوجية مسبقة حول تاريخية المواقف الأمريكية المثالية الداعمة لقضايا الاستقلال، وحق تقرير المصير في مناطق عدة من العالم، أو من تصورات حول الطموحات الأمريكية في المنطقة، وسبل تحقيقها وفقًا لنظريات "الفوضى الخلاقة"، ومساعي تفتيت دول المنطقة. وقد عزز من تلك التصورات مساحة التقارب والتعاون الوطيد بين الولايات المتحدة الأمريكية والأكراد في خضم الحرب على تنظيم "داعش" في سوريا والعراق. 

غير أن هذا الالتباس، وتلك التصورات، قد تجاهلا كثيرًا اعتبارات المصلحة الأمريكية الآنية وفق حسابات جيوسياسية شديدة التعقيد تمر بها مناطق النزاع اليوم في سوريا والعراق، وتتداخل فيها مصالح أطراف عدة لا يمكن تجاهلها.

تياران متنافسان: 

فَاضَلَ الموقف الأمريكي من قضية استقلال إقليم كردستان بين تيارين وفق الاعتبارات الجيوسياسية للأمن القومي الأمريكي في النهاية، وهما على النحو التالي:

أولًا- التيار المثالي: يستند أنصار هذا التيار الداعم لاستقلال الإقليم إلى الحيثيات التالية:

1- الاتساق مع القيم الأمريكية التاريخية الداعمة لحق الشعوب في تقرير المصير، والتي بناء عليها أيدت الولايات المتحدة الأمريكية استقلال أمريكا اللاتينية عن الإمبراطورية الإسبانية في القرن التاسع عشر، ثم استقلال أوروبا الوسطى والشرقية عن الإمبراطورية النمساوية المجرية والألمانية والروسية بعد الحرب العالمية الأولى، ثم تأييد استقلال شعوبٍ إفريقية وآسيوية عن الاستعمار الأوروبي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ودعم انفصال بلدان شرق أوروبا المنضوية تحت لواء الاتحاد السوفيتي السابق في أعقاب انهيار سور برلين، ولاحقًا مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الجديد دعمت استقلال مناطق مثل: كوسوفو، وجنوب السودان، وتيمور الشرقية.

2-إنهاء المظلومية التاريخية للأكراد في العراق، فبخلاف أن القومية الكردية التي لم تحظَ بالحق في الاستقلال وتأسيس وطن لها في أعقاب انهيار الدولة العثمانية، قد عاشت موزعة بين أربع دول (العراق، وسوريا، وإيران، وتركيا) كأقلية مهمشة معرضة للاضطهاد؛ فقد عانى الأكراد من اضطهاد خاص في العراق في عهد الرئيس السابق صدام حسين بلغ محاولة إبادتهم باستخدام السلاح الكيميائي في بلدة حلبجة الكردية عام 1988 والتي راح ضحيتها نحو 5000 شخص، معظمهم نساء وأطفال بفعل قنابل غاز الخردل وغاز الأعصاب. ومن ثم يرى أنصار هذا التيار أن دعم استقلال كردستان العراق يُعد بمثابة رفع لمظلومية تاريخية عن الأكراد استمرت ما يزيد عن قرن من المعاناة.

3- حماية الأقليات في إقليم كردستان الذي يضم عشرات الآلاف من المسيحيين الذين فروا خلال سنوات ما بعد صدام حسين خوفًا من الاضطهاد أو الاعتقال أو القتل على يد تنظيم داعش بعد سيطرته على مناطق شاسعة في العراق لاحقًا. هذا بالإضافة إلى أقليات أخرى (مثل: الشبك، والإيزيديين) لجأت هي الأخرى إلى الإقليم مدفوعة بمخاوف مماثلة، حيث كان الإقليم وحكومته أكثر تسامحًا نحو الأقليات مقارنةً بمناطق العراق الأخرى أو بلدان عدة في المنطقة العربية.

4- مكافأة أكراد العراق الذين كانوا أكثر قربًا من الغرب وتعاونًا مع الإدارات الأمريكية المختلفة منذ غزو العراق للكويت، والذي تزايد مع ظهور تنظيم داعش، حيث أثبتت قوات البشمركة الكردية أنها الأكثر فاعلية في الحرب على التنظيم بما يحقق هدف الولايات المتحدة في القضاء على التنظيم دون إجبار واشنطن على الزج بقواتها في مستنقع حرب جديدة تعيد خسائر احتلال العراق التي كانت باهظة الثمن.

ثانيًا- التيار الواقعي: على عكس كل ما سبق، تستند حجج هذا التيار الأقوى داخل الأوساط السياسية والأكاديمية الأمريكية إلى أبعاد المصلحة الجيوسياسية للولايات المتحدة في المنطقة، حيث يرفض أنصاره استفتاء الإقليم، ويرون أن توقيته لم يكن الأمثل، وذلك لجملة من الأسباب على النحو التالي:

1- أولوية الحرب الأمريكية على تنظيم داعش: فقد يؤثر دعم استقلال الإقليم في الوقت الحالي سلبيًّا على مسار الحرب التي تقودها الولايات المتحدة على تنظيم داعش، وهي حرب تُعد أولوية وفقًا لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة في عام 2015.

وقد يتسبب استقلال إقليم كردستان العراق، وفقًا لبيان للبيت الأبيض في 15 سبتمبر 2017، في تشتيت "الانتباه عن الجهود الرامية إلى هزيمة داعش، وتحقيق الاستقرار في المناطق المحررة"، و"استفزازًا خاصًّا وزعزعة للاستقرار" في المناطق المتنازع عليها، لكونه يفتح الباب أمام استثارة القوى صاحبة النفوذ في تلك المناطق (مثل: العراق، وتركيا، وإيران). وهو الأمر الذي أكده مبعوث الرئيس الأمريكي الخاص لمكافحة تنظيم داعش "بريت ماكغورك"، في مؤتمر صحفي عُقد في أربيل في منتصف سبتمبر الماضي، حيث وصف فيه الاستفتاء بأنه "محفوف بالمخاطر"، ولا يوجد دعم دولي له. هذا، بالإضافة إلى أن هناك أولويات أخرى تُعد أكثر إلحاحًا على الأجندة الأمريكية من استفتاء كردستان، مثل: الأزمة مع كوريا الشمالية، والموقف من الاتفاق الإيراني، والخلافات الخليجية، وهو ما يعني أن أزمة الأكراد يُمكنها الانتظار أو التأجيل على الأقل في الوقت الحالي من وجهة النظر الأمريكية.

2- استعداء حكومة العراق: إذ قد يؤدي تقديم الدعم لانفصال الإقليم إلى تهديد العلاقات بين واشنطن وبغداد التي ترفض استقلال الإقليم؛ بسبب ثرواته النفطية، والقلق من أن يستثير الانفصال المزيد من الانفصالات الطائفية في العراق. ولهذا تدرك الإدارة الأمريكية أن استعداء حكومة العراق يعني احتمالية خسارة حليف مهم في الحرب على تنظيم داعش، ما قد يدفع العراق بعيدًا عن الولايات المتحدة لصالح مزيد من التقارب مع إيران، في وقت تحاول فيه الأولى احتواء نفوذ الأخيرة في المنطقة.

3- الخوف من تقوية نفوذ إيران: تدرك الولايات المتحدة الأمريكية أن دعم استقلال الأكراد قد يتسبب في رد فعل عدائي من قبل إيران التي ترى في استقلال الإقليم تهديدًا لوحدة أراضيها، ومحفزًا لنزعة انفصالية لدى ما يقرب من 10 ملايين كردي على أراضيها.

وفي ظل حقيقة النفوذ المتنامي للميليشيات الشيعية المدعومة من إيران في العراق، والتي صارت جزءًا رسميًّا من قوات الأمن العراقية؛ فإن دعم استقلال كردستان قد يدفع إيران نحو رد فعل عدائي داخل العراق، بخطاب مدافع عن وحدة العراق، ومغذٍّ لمشاعر الكراهية ضد الولايات المتحدة كقوة عظمى تتحمل مسئولية تفتيت العراق إلى دويلات. وقد يَلقَى هذا الخطاب منطقًا ورواجًا ليس في العراق فحسب، بل في مناطق أخرى من العالم العربي.

4- زيادة حدة التوترات مع تركيا والتأثير على حلف الناتو: لم تدعم الولايات المتحدة استقلال إقليم كردستان حتى لا يمثل ذلك مدخلًا لتصاعد حدة التوتر القائم بالفعل بين واشنطن وأنقرة الحليف القوي لحلف شمال الأطلسي. فتركيا تخشى أن يكون استقلال أكراد العراق محفزًا لانفصال أكرادها، وهي المخاوف التي مثّلت أبرز حيثيات انخراطها العسكري في النزاع السوري بغية عزل المناطق الكردية داخلها عن مناطق تمركز الأكراد في سوريا، وكانت محفزًا كذلك لإعادة شن حرب شاملة تستهدف أكراد الداخل التركي. 

بعبارة أخرى، قد يدفع دعم الولايات المتحدة لاستقلال كردستان العراق تركيا إلى ردود فعل عدائية، وأن تنأى بنفسها بعيدًا عن العالم الغربي وحلف الناتو لصالح المزيد من التقارب مع خصومه، لا سيما روسيا، في ظل مستقبل يتسم بالهشاشة وعدم اليقين للنظام دولي.

وخلاصة القول.. على الرغم من العلاقات الوطيدة بين الولايات المتحدة الأمريكية وأكراد العراق في إطار الحرب على تنظيم داعش، والذي كان يتوقع معه تبني واشنطن موقفًا داعمًا لاستقلال إقليم كردستان العراق؛ إلا أن تعقيدات الوضع الجيوسياسي في مناطق النزاع بالمنطقة كانت المحدد الرئيسي للموقف الأمريكي الذي بدا متناقضًا بالنسبة للبعض بتفضيله بقاء الوضع الحالي كما هو دون تغيير. فأولوية الحرب على التنظيم، والخوف من خسارة الحليف العراقي في تلك الحرب، والقلق من تزايد النفوذ الإيراني في العراق، وتصاعد حدة الخلاف مع تركيا؛ كلها عوامل كان لها القول الفصل في صياغة الموقف الأمريكي المعارِض لاستفتاء استقلال الإقليم، والذي لا يرى فيه أولوية آنية على أقل تقدير، في وقت تزدحم فيه الأجندة الأمريكية بقضايا أخرى أكثر إلحاحًا وفقًا لاعتبارات الأمن القومي الأمريكي.